موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 بحسب أجندة رئاسة الجمهورية    عيار 21 الآن.. أسعار الذهب اليوم في مصر الأحد 17 أغسطس 2025 بعد خسارة 1.7% عالميًا    حياة كريمة.. 4 آبار مياه شرب تقضى على ضعفها بقرية الغريزات ونجوعها بسوهاج    اليوم، البورصة المصرية تطلق رسميا أول تطبيق لها على الهواتف المحمولة    السيسي يوجه بزيادة الإنفاق على الحماية الاجتماعية والصحة والتعليم    سعر صرف الدولار مقابل الجنيه المصري بعد هبوطه عالميًا    وزير الإسكان يتفقد مشروع "سكن لكل المصريين" و"كوبري C3" بالعلمين الجديدة    زلزال يضرب مدينة الأغواط الجزائرية    استئناف إدخال شاحنات المساعدات إلي قطاع غزة    خالد الغندور يكشف ردًا مفاجئًا من ناصر ماهر بشأن مركزه في الزمالك    مشيرة إسماعيل تكشف كواليس تعاونها مع عادل إمام: «فنان ملتزم جدًا في عمله»    100 عام على ميلاد هدى سلطان ست الحسن    للتخلص من الملوثات التي لا تستطيع رؤيتها.. استشاري يوضح الطريق الصحيحة لتنظيف الأطعمة    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأحد 17 أغسطس 2025    الأهلي يعلن تفاصيل إصابة محمد علي بن رمضان لاعب الفريق    10 صور لتصرف غريب من حسام عبد المجيد في مباراة الزمالك والمقاولون العرب    خروج يانيك فيريرا من مستشفى الدفاع الجوى بعد إجرائه بعض الفحوصات الطبية    تامر عبد الحميد يوجه انتقادات قوية للزمالك بعد التعادل مع المقاولون العرب    مصرع سيدة وإصابة 9 آخرين فى حادث مرورى بين سيارة أجرة وتروسيكل بالإسكندرية    فرح يتحوّل إلى جنازة.. مصرع 4 شباب وإصابة آخرين خلال زفة عروسين بالأقصر    كانوا في زفة عريس.. مصرع وإصابة 6 أشخاص إثر حادث مروع بالأقصر    7 شهداء فى غارة على ساحة المستشفى المعمدانى بمدينة غزة    وزير خارجية روسيا يبحث مع نظيريه التركي والمجري نتائج قمة ألاسكا    صربيا تشتعل، متظاهرون يشعلون النار بالمباني الحكومية ومقر الحزب الحاكم في فالييفو (فيديو)    وكيل صحة سوهاج يصرف مكافأة تميز لطبيب وممرضة بوحدة طب الأسرة بروافع القصير    رويترز: المقترح الروسي يمنع أوكرانيا من الانضمام للناتو ويشترط اعتراف أمريكا بالسيادة على القرم    مصرع شابين وإصابة آخر في حادث انقلاب دراجة بخارية بأسوان    أبطال واقعة "الليلة بكام"، قرار جديد ضد المتهمين بمطاردة طبيبة وأسرتها بالشرقية    موعد ومكان تشييع جنازة مدير التصوير تيمور تيمور ويسرا تعتذر عن عدم الحضور    تدق ناقوس الخطر، دراسة تكشف تأثير تناول الباراسيتامول أثناء الحمل على الخلايا العصبية للأطفال    8 ورش فنية في مهرجان القاهرة التجريبي بينها فعاليات بالمحافظات    في تبادل إطلاق النيران.. مصرع تاجر مخدرات بقنا    رابط نتيجة تقليل الاغتراب.. موعد بدء تنسيق المرحلة الثالثة 2025 والكليات والمعاهد المتاحة فور اعتمادها    ملف يلا كورة.. تعثر الزمالك.. قرار فيفا ضد الأهلي.. وإصابة بن رمضان    الداخلية تكشف حقيقة مشاجرة أمام قرية سياحية بمطروح    رئيس جامعة المنيا يبحث التعاون الأكاديمي مع المستشار الثقافي لسفارة البحرين    لأول مرة بجامعة المنيا.. إصدار 20 شهادة معايرة للأجهزة الطبية بمستشفى الكبد والجهاز الهضمي    رئيس الأوبرا: واجهنا انتقادات لتقليص أيام مهرجان القلعة.. مش بأيدينا وسامحونا عن أي تقصير    توقعات الأبراج حظك اليوم الأحد 17 أغسطس 2025.. مفاجآت الحب والمال والعمل لكل برج    تعليق مثير فليك بعد فوز برشلونة على مايوركا    المصرية للاتصالات تنجح في إنزال الكابل البحري "كورال بريدج" بطابا لأول مرة لربط مصر والأردن.. صور    أول يوم «ملاحق الثانوية»: تداول امتحانات «العربي» و«الدين» على «جروبات الغش الإلكتروني»    شهداء ومصابون في غارة للاحتلال وسط قطاع غزة    «أوحش من كدا إيه؟».. خالد الغندور يعلق على أداء الزمالك أمام المقاولون    مي عمر على البحر ونسرين طافش بفستان قصير.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    كيف تتعاملين مع الصحة النفسية للطفل ومواجهة مشكلاتها ؟    هل يجوز إخراج الزكاة في بناء المساجد؟.. أمين الفتوى يجيب    بريطانيا تحاكم عشرات الأشخاص لدعمهم حركة «فلسطين أكشن»    «زي النهارده».. وفاة البابا كيرلس الخامس 17 أغسطس 1927    "عربي مكسر".. بودكاست على تليفزيون اليوم السابع مع باسم فؤاد.. فيديو    يسري جبر يوضح ضوابط أكل الصيد في ضوء حديث النبي صلى الله عليه وسلم    عاوزه ألبس الحجاب ولكني مترددة؟.. أمين الفتوى يجيب    حزن ودعوات| المئات يشيعون جثمان «شهيد العلم» في قنا    القائد العام للقوات المسلحة: المقاتل المصري أثبت جدارته لصون مقدرات الوطن وحماية حدوده    وزير الأوقاف: مسابقة "دولة التلاوة" لاكتشاف أصوات ذهبية تبهر العالم بتلاوة القرآن الكريم    الشيخ خالد الجندي: الإسلام دين شامل ينظم شؤون الدنيا والآخرة ولا يترك الإنسان للفوضى    الإصلاح والنهضة يواصل تلقي طلبات الترشح لعضوية مجلس النواب عبر استمارة إلكترونية    وزير الري يتابع موقف التعامل مع الأمطار التي تساقطت على جنوب سيناء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحيل بائعة المشمش‏!‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 25 - 09 - 2010

في كراسة عمر كل إنسان صفحات غير مكتوبة لقصص نزعناها من حياتنا ونسيناها أو تناسيناها عن قصد وغالبا دون قصد‏..‏ لأننا وضعناها في خانة القصص المنسية التي كفينا عليها ماجورا كبيرا. برغم أن زورقها يسبح في نهر أعظم قصص الحب التي تنتهي عادة بالفراق‏,‏ وهي قصص الحب الحقيقي‏..‏ لأن قصص الحب التي تنتهي بالزواج والأسرة والأولاد‏..‏ يعتبرها فلاسفة الحب وواضعو شفرة الغرام‏..‏ قصصا فاشلة‏..‏ باعتبار أن الحب الحقيقي الذي يكتبون عنه وتحفظه الأجيال أدبا وقصصا وشعرا هو الحب الذي ينتهي في فصله الأخير بالفشل‏..‏ وكل محب يذهب في طريق‏!‏
علي أي حال‏..‏ فإنني أعتذر مقدما قبل أن أشغلكم بقصص حب من هذا النوع نزعت صفحاتها من كراسة حياتي‏..‏ ولكنني مازلت أذكرها في مخيلتي ومازالت محفورة برغم مرور سنوات طويلة في ذاكرتي وفي دمي‏..‏
ولنبدأ ب آية وهذا هو اسمها‏..‏ فتاة سوق الخضار التي أعجبتني في مقتبل حياتي‏.‏
كنت أيامها أخطو خطواتي الأولي في عالم صاحبة الجلالة‏..‏ مجرد محرر صغير في قسم التحقيقات الصحفية تحت رياسة العملاق صلاح هلال‏,‏ أعظم رئيس قسم تحقيقات ظهر في بلاط صاحبة الجلالة‏,‏ وكان معنا في القسم عمالقة عالم الصحافة والفكر والفن الآن‏..‏ في مقدمتهم الزميل مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين‏,‏ وعبدالوهاب مطاوع وأنتم تعرفون من هو عبدالوهاب مطاوع؟ ومحمد زايد الموسوعة الصحفية المتحركة وصاحب أجمل وأخف دم ملحق اسمه أيامنا الحلوة‏..‏ ويحيي التكلي الأب الروحي لنا جميعا‏..‏ ومحمود مراد المقاتل لكل العصور‏,‏ والمبدعة دائما المتألقة ابدا‏..‏ العزيزة بهيرة مختار‏..‏ وسعيد عبدالغني الذي اختطفه الفن منا‏,‏ وإنجي رشدي المحررة الدبلوماسية الرقيقة‏..‏
لنخرج هنيهة من دائرة الصحافة والزمالة لنركب زورق الحب‏..‏
‏.................‏
‏.................‏
كنا تقريبا طوال النهار وجزء كبير من الليل نتجول ونتسكع في شوارع وسط البلد‏..‏ وقادتني قدماي من شارع شريف حيث كان مبني الأهرام التاريخي القديم الذي فرطنا فيه هدرا بكل أسف وتحول إلي موقف سيارات إلي سوق التوفيقية‏..‏ وهناك وقفت أمام أقفاص أجمل الخضار وأحلي الفاكهة‏..‏ ومددت يدي لألتقط مشمشاية مغرية تسر الناظرين‏..‏ فإذا بصوت آمر ناه يصيح لي من خلفي‏:‏ بلاش تمسك المشمش بإيدك ياسيدنا الأفندي‏..‏ خليني أنا أوزنلك‏!‏
التفت لصاحبة الصوت‏..‏ فإذا بي أمام وجه صبوح كأنه شمس الصباح عندما تخرج من خدرها‏..‏ وجدت نفسي أغرق في عينين سوداويين بلا قرار‏..‏
لم أنطق‏..‏ لم أتكلم‏..‏ فقط تعلقت بهذا الشعاع السحري الذي يبرق من عينيها‏..‏ ويهز كياني كله هزا‏..‏
لم أجد من كلمة أقولها إلا يا سبحان الله‏..‏ توقفت صاحبة الصوت‏..‏ وتسمرت أنا في مكاني‏..‏ سألتها‏:‏ انت مين يا قمر الزمان؟
انقلب وجهها إلي وجه قطة برية شرسة‏..‏ وقالت لي بشخطة‏:‏ انت جاء تشتري واللا جاي تعاكس‏..‏ قمر الزمان إيه‏..‏ ما عندناش مشمش‏..‏ المشمش شطب يا حضرة‏!‏
في داخلي أعجبني تقلبها في لحظات من ذات الحسن والجمال إلي صاحبة اللسان الطويل الذي يحمي الجمال والحسن من عبث العابثين‏!‏
قلت لها‏:‏ أنا أسف يا ست الكل ما كانشي قصدي والله‏..‏ أوزني كيلو مشمش بإيديكي الحلوين دول‏!‏
قالت‏:‏ تاني؟
قلت‏:‏ لا تاني ولا تالت‏..‏ ما تزعليش يا ست هانم أنا ماشي‏!‏
قالت‏:‏ وأنا ما يخلصنيش أزعلك‏..‏ عاوز كيلو واللا اتنين؟
قلت لها بمكر الصحفيين‏:‏ كفاية كيلو النهاردة‏..‏ أصلي أنا عزبنجي لسه مادخلتش دنيا‏!‏
صفا وجهها وراقت سحنتها وابتسمت لأول مرة وهي تقول‏:‏ وإحنا خدامين السيادة‏!‏
‏.............‏
‏.............‏
وجدت نفسي مشدودا إليها مشدوها بها‏..‏ كانت ترتدي إيشاربا أصفراوي تتدلي من تحته ضفيرتاها الغارقتان في السواد‏..‏ حتي ما تحت صدرها الناهد‏..‏ ويزين عنقها عقد من حبات الكهرمان‏..‏ لو شاهدها الفنان محمود سعيد لوضعها كما هي في إحدي لوحاته الخالدة وسماها‏:‏ بائعة المشمش‏!‏
وأحبت قدماي وأنا أعرف السبب‏..‏ شارع التوفيفية‏..‏ وتعلقت به لا أعرف لماذا‏..‏ ولكن قلبي كان يعرف‏..‏ بعد أن تعود أن تزداد دقاته ويدفع الدم مارا إلي وجنتي وأنا أمر علي الباعة الذين احتلوا الشارع‏..‏ لأتوقف كل يوم أمام دكانها‏..‏ ولا أعرف لماذا تشعر البنات بنسمات الحب دون رسائل ودون كلام‏..‏ بمجرد تلاقي العيون وكلمات بسيطة علي الشفاه‏..‏ بحجة ودون حجة‏..‏
وبدأت هي تنتظرني‏..‏ عرفت ذلك‏..‏ عندما كنت أغيب يوما أو يومين‏..‏ تبادرني‏:‏ أنت فين غايب عنا بقالك يومين يا‏...‏
قلت لها‏:‏ عزت‏..‏
قالت‏:‏ وأنا آية‏..‏ اسمي آية‏..‏
قلت لها مداعبا‏:‏ تبارك الخلاق فيما خلق انت آية بصحيح‏..‏ اسم علي مسمي‏..‏
تضحك من قلبها وهي تقول لي‏:‏ والنبي ما تغبشي عننا كتير ياسي عزت‏!‏
أعجبني نداءها ب سي عزت‏..‏ نفس النداء الذي كانت أمي تناديني به دائما‏..‏
لم أنم ليلتها‏..‏ في الصباح ركبت القطار من بلدتي القناطر الخيرية حيث كنت أقيم مع أسرتي‏..‏ ومشيت من باب الحديد حتي موقع الدكان الذي تقف فيه دائما تبيع للزبائن الفاكهة الطيبة والخضار الطازج‏..‏ الذي أصبح محطتي الأولي في ذهابي إلي الجريدة في الصباح‏,‏ وفي عودتي منها في المساء‏..‏ لكني هذا الصباح لم أجدها هناك‏..‏
شعرت كأن الشمس لم تشرق يومها برغم أنها كانت تملأ الدنيا ساعتها نورا وضياء‏..‏
وجدت امرأة ترتدي السواد‏..‏ لكن جيدها ويديها تلمع ببريق الذهب‏..‏ كأنه شارع الصاغة بجلالة قدره قد رمي عليها كل ما يملكه أصحاب الحوانيت من ذهب يسرق العيون‏.‏
رحت أتلكأ أمام المحل في سوق التوفيقية‏..‏ نادتني المرأة التي تتحلي بقناطير مقنطرة من الذهب‏:‏ فيه حاجة ياسيدنا الأفندي؟
قلت لها مترددا‏:‏ أبدا أصل البنت اللي اشتريت منها امبارح المشمش‏..‏
تقاطعني‏:‏ تقصد بنتي آية؟
قلت لها‏:‏ أيوة‏..‏ أصلي أنا نسيت أدفع لها ثمن المشمش؟
قالت‏:‏ البنت دي دايما كده مطيورة‏..‏
قلت لها‏:‏ وهي فين النهاردة؟
قالت‏:‏ في المدرسة يا حبة العين من النجمة‏..‏ ما شاء الله دلوقتي في ثانية ثانوي‏..‏ وكل أولادي وبناتي بيروحوا المدرسة‏..‏ وبعد الظهر ييجو هنا ساعات يساعدوني في العمل‏..‏ بعد ما مات أبوهم الله يرحمه كان تاجر فاكهة قد الدنيا‏..‏ ما سمعتش عن المعلم درديري؟
قلت لها مجاملا‏:‏ وهو فيه حد ما سمعش عن المعلم درديري‏..‏ ده كان اسمه زي الطبل‏!‏
قالت‏:‏ الله يكرمك يا بني‏..‏ باين عليك ذوق وابن حلال‏.‏
قلت لها‏:‏ دا بس من أصلك‏..‏
قالت‏:‏ هي المحروسة باعت لك كام كيلو مشمش؟
قلت‏:‏ كيلو واحد بس‏..‏ إنما إيه عسل‏..‏ اتفضلي فلوس المشمش اللي نسيت أدفعه امبارح‏.‏
فجأة تنشق الأرض عن آية وهي ترتدي زي المدرسة كأنها برنسيسة بوجهها الأحمر الرباني دون مساحيق‏..‏ وضفائرها التي تتدلي حتي خصرها وهي تحتضن حقيبة المدرسة السوداء كأنها تحمل طفلا صغيرا‏..‏
تشير إليها أمها وهي تقول لي‏:‏ آهي جات المضروبة‏..‏ تعالي يا حبيبتي خدي فلوسك اللي انت ناسياها‏..‏
بمجرد أن التقت عينانا حتي صاحت آيه‏:‏ يا سلام ياعزت‏..‏ أحمد الله اللي انت جيت‏!‏
الأم تضرب علي صدرها بيدها‏:‏ ياعيب الشوم‏..‏ عزت كده حاف‏..‏ دا أنتم علي كده عارفين بعض من زمان‏..‏ إيه الحكاية يا مقصوفة الرقبة؟
‏.............‏
‏.............‏
كان الموقف غاية في الإحراج لي ولآية التلميذة بنت بائعة الفاكهة‏..‏ وقد كشفت أمها سرها‏..‏ وأمسكت بضفائرها وجمعتها في يدها وهي تصيح بها‏:‏ قوليلي يا مضروبة انتم تعرفوا بعض من إمتي؟
تقصد آية وأنا‏..‏
ولكن آية بنت السادسة عشرة لم تخف ولم تهتز‏..‏ بل وجهت كلامها لي‏:‏ حمدا لله علي السلامة‏..‏ غيبة طويلة‏..‏
الأم تهزها بعنف وتشدها إلي داخل الدكان‏..‏ والابنة مثل العصفور الصغير الذي أطبق عليه قط شرس وسد عليه حتي أنفاسه‏..‏
الابنة بكل تحد‏:‏ أيوه يامه‏..‏ للعلم هنا الأم ينادونها يامه يا أمايا‏..‏ وليس ماما أو مامي أنا أعرف عزت‏..‏ ده أحسن زبون عندي‏!‏
الأم بمكر من عاشت في الأسواق طويلا‏:‏ وأحسن زبون تناديه باسمه كده‏..‏ عشنا وشفنا‏..‏
وقبل أن تتجمع أمة لا إله إلا الله من حولنا وتبقي فضيجة بجلاجل‏..‏ أمسكت بيد الأم التي تمسك هي الأخري بيدي ابنتها‏..‏ ودفعت بهما إلي داخل المحل‏..‏ وقلت للأم‏:‏ يا ست هانم نتكلم هنا بعيد عن اللي رايح واللي جاي أحسن‏!‏
ولكي أتخلص من هذا المطب اللذيذ‏..‏ ومن الضرب والإهانة في سوق الخضار‏..‏ أوقعت نفسي دون أن أدري في مطب أكبر‏!‏
ولأن هذه الشريحة من الناس لا تعرف حكايات الحب وسنينه‏..‏ وإن كانوا أساتذة فيه‏..‏ قلت للأم والابنة الملائكية الوجه في حضنها‏:‏ أنا حأخش البيت من بابه‏..‏ أنا عاجباني بنتك يا ست الحاجة تسمحيلي أزوركم في البيت‏..‏ نقعد قعدة رجالة الأول‏..‏ وبعدين نخش في الموضوع‏!‏
كأنني فتحت أمامها باب الجنة‏..‏ تركت ابنتها تفلت من يدها‏..‏ وتركت جسدها الممتلئ شحما ولحما يهبط دون باراشوت فوق أقفاص الفاكهة‏..‏ وهي تقول‏:‏ يابني أنت كركبت بطني وسيبت مفاصلي‏..‏ موش تقول كده من الأول‏!‏
أما آية‏..‏ التي من المفروض أنها العروس التي اخترتها‏..‏ فقد انسحبت من المشهد كله‏..‏ وخرجت من المحل شاردة هائمة علي وجهها من هول المفاجأة‏..‏ ونهر من دموع الفرح يترقرق ويترفق بوجنتيها‏..‏
‏..................‏
‏..................‏
عندما سمع الزميل العزيز مكرم محمد أحمد بالحكاية قال لي‏:‏ معقولة‏..‏ أشوفها الأول وبعدين أحكم‏..‏
وقال محمد زايد‏:‏ وعرفتها إزاي ياواد يا عفريت‏!‏
وقال يحيي التكلي‏:‏ حد يقع في بنت بياعة واقفة في الشارع ليل ونهار‏!‏
وقال عبدالوهاب مطاوع‏:‏ من حقك تحب ومن حقك تتجوز حتي بنت بياعة‏..‏ يمكن تطلع أحسن من بتوع السرايات والكماريرات‏!‏
واتفق الجميع علي أنهم لازم يشوفوها الأول عشان يقدروا يحكموا كويس‏!‏
لا أنكر هنا أننا تقابلنا أنا وآية أكثر من مرة بعيدا عن العيون‏..‏ ولكن في مكان واحد كان يلمنا كلنا نحن أسرة الأهرام أيام الزمن الجميل‏..‏ هو نادي الأهرام‏..‏ فقد اختار لنا الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس تحريرنا ومعلمنا الأول ومن دخلنا الأهرام بفضله ومن علمنا كيف نكتب وكيف نحترم الكلمة وميثاق الشرف الأهرامي‏,‏ الذي هو الآن ميثاق الشرف الصحفي‏..‏
أختار روف عمارة في شارع شامبليون تطل علي ميدان التحرير لتكون ناديا لنا نلتقي ونلعب فيها تنس الطاولة ونشرب ونلهو ونجتمع في براءة وحب في أوقات فراغنا‏..‏
وعرفت آية علي حقيقتها‏..‏ بريئة بل غاية في البراءة‏..‏ أنا أول من دخل قلبها في حياتها‏..‏ طاهرة عفيفة اللسان‏..‏ ظريفة غاية في الذكاء‏..‏ لكن عنيدة بعض الشيء‏..‏ لو أرادت شيئا لابد أن تناله حتي لو كان في السماء السابعة علي حد تعبيرها‏!‏
وطب علينا الصحاب ساعة عصاري ونحن نجلس في روف النادي‏..‏ قدمتها لهم‏..‏ تحدثوا إليها وتحدثت هي دون خجل إليهم‏..‏ ثم انشغلوا هم في مباراة تحديات البنج بونج يعني تنس الطاولة‏..‏ وكان الزميل مكرم محمد أحمد‏,‏ والزميل عبدالوهاب مطاوع يكسبان في النهاية‏..‏
في الصباح تحول اجتماع قسم التحقيقات برئاسة معلمنا صلاح هلال إلي اجتماع لمناقشة حكايتي مع بنت بائعة الفاكهة‏..‏ وللأسف لم أكن حاضرا‏..‏
قالوا لي إن صلاح هلال قال‏:‏ فيها إيه أما عزت يتجوز بنت بياعة فاكهة مادامت عاجباه‏..‏ هي البنت حلوة؟
قال سعيد عبدالغني‏:‏ قمر أربعتاشر‏..‏
قال صلاح هلال‏:‏ متعلمة‏..‏
قال محمد زايد‏:‏ أفتكر في ثانية ثانوي‏..‏
قال صلاح هلال‏:‏ عز الطلب‏.‏
عندما حضرت بعد الاجتماع قال لي الزميل العزيز مكرم محمد أحمد‏:‏ البنت كويسة علي بركة الله‏..‏
قلت له‏:‏ طيب أقول لأهلي إيه‏..‏ عاوز أتجوز بنت بياعة فاكهة؟
قال‏:‏ قول لهم دي تلميذة في ثاني وبلاش حكاية بياعة دي‏!‏
وقال لي محمد زايد‏:‏ وهو انت يعني ابن عبود باشا ياخي‏!‏
‏...............‏
‏...............‏
وتحايلت علي أمي حتي وافقت أن تصحبني في زيارة إلي بيت آية في الفجالة‏..‏
البيت كأنه بيت من بيوت بكوات المماليك زمان‏..‏ لا تعرف أوله من آخره‏..‏ قالت لي أمها‏:‏ إن زوجها اشتراه في صفقة تجارية مع صاحب وقف‏..‏ عزمونا علي أكلة أردتها أنا‏..‏ فتة ولحم ماعز وبمبار‏..‏
لم تفارق آية أمي لحظة‏..‏ وأمي تحتضنها في شوق وتقبلها طول الوقت وهي تشير إلي‏:‏ دي بنتي أنا‏..‏ حطها في عنيك ياولد‏!‏
لم نتفق علي شيء‏..‏ فقط قرأنا الفاتحة مع أمها وأخوالها وأعمامها وأخواتها‏..‏ وإن كان قد جري اتفاق ثنائي بين أمي وأمها‏..‏ أن تحضر إليهم في العيد الكبير وكان هلاله يكاد يقترب بعد نحو شهرين لا أكثر‏..‏ بالشبكة والدبل‏..‏ وسوف يكون المأذون حاضرا‏..‏ أما بيت الزوجية فهو جناح من هذا الربع الكبير‏..‏ وعفش الزوجية سوف يختاره العروسان أنا وآية‏..‏ والزفاف بعد امتحان الثانوية العامة‏..‏ عشان العروس يبقي عندها شهادة كما قالت أمها‏..‏
كما أحببت آية‏..‏ أحببت أمها وأخواتها وأهلها كلهم‏..‏ بل والشارع الذي تسكنه والحي الذي تعيش فيه‏..‏ وأينما ذهبت خطاويها ذهبت عيوني وسكن قلبي‏..‏
وأصبحت آية مع الأيام واحدة من الشلة‏..‏ وكان اللقاء شبه اليومي في نادي الأهرام ساعة العصاري‏..‏ نأكل ونشرب ونلعب البنج بونج الذي تعلمته آية‏..‏ وأحبها الرفاق‏..‏ لا لأنها سوف تصبح زوجة لزميل لهم في الأيام المقبلة‏..‏ ولكن لأنها كانت تعزمهم وتطعمهم في المناسبات والأعياد علي سماط يعني مأدبة يسيل لها لعابهم من لحم الضأن والفتة البلدي المحوجة وذكور البط السمين المزغط‏..‏ في وقت كنا كلنا في مطلع حياتنا الصحفية نحاف الدخول أقزام الرواتب‏.‏
‏...............‏
‏..............‏
ولكن لم يسلم حبنا من عزول وحاسد‏,‏ كما في أغنيات عبدالوهاب وفريد الأطرش علي أيامنا‏..‏ فقد زارني في مكتبي شاب يلبس ملابس معلمين سوق الخضار وقالي لي‏:‏ ياعم عزت سيب آية تشوف نصيبها في البيت اللي خرجت منه‏..‏ واحد من توبها ومن دمها‏..‏ وشوف لك أنت عروسة علي مقاسك‏!‏
قلت له‏:‏ وحضرتك مين بالضبط؟
قال‏:‏ أنا برعي ابن عمها تاجر فاكهة زي أبوها وأهلها‏..‏
قلت له‏:‏ أهلا يا عم برعي‏..‏ أنت اللي تدور لك علي واحدة ثانية غير آية‏.‏
قال مهددا‏:‏ بكرة الأيام تدور‏..‏ وآية وأمها يرجعوا لعقلهم تاني‏!‏
عندما قلت لآية عما فعله ابن عمها برعي معي‏..‏ قالت لي‏:‏ سيبك منه دا ولد صايع عينه مني من زمان‏!‏
أمضينا يوما جميلا في نادي الأهرام‏..‏ أكلنا فيه ساندويتشات من صنع يديها‏..‏ عجة بالبصل وباذنجان مقلي وفلفل وخيار مخلل‏..‏ ثم ذهب كل واحد في طريقه‏..‏
في الصباح جاءني صوت أمها قلقا باكيا وأنا يا دوب بافتح باب مكتبي في الأهرام‏:‏ إلحق‏..‏ آية نقلناها المستشفي في الفجر‏..‏ والدكاترة قالوا عندها انفجار في المصران الأعور‏!‏
‏.................‏
‏.................‏
لم يتركني عبدالوهاب مطاوع أذهب وحدي‏..‏ ذهبنا معا إلي مستشفي الحسين حيث كانت ترقد آية‏..‏
صعدنا سلم المستشفي جريا‏..‏ كدنا نصطدم بسرير مغطي بملاءة بيضاء لا نعرف من يحمل‏.‏
سأل عبدالوهاب‏:‏ هي آية في حجرة كام؟
قالت الممرضة المرافقة للسرير الأبيض‏:‏ أهي قدامك أهه‏..‏
سألتها‏:‏ مالها؟
قالت‏:‏ تعيش أنت‏!‏
ارتميت فوق سريرها ودموع شبابي كله تتدفق دون توقف وقلت لها‏:‏ معقولة يا آية‏..‏ ما اتفقناش علي كده‏!‏
وبكي عبدالوهاب مطاوع يومها‏..‏ كما لم يبك في حياته كلها‏!‏
وذهبت آية‏..‏ بائعة المشمش‏{‏

[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.