سعر الذهب اليوم الخميس 2-10-2025 يصل لأعلى مستوى وعيار 21 الآن بالمصنعية    متى يبدأ العمل بالتوقيت الشتوي 2025 رسميًا؟ استعد ل تغيير الساعة في مصر    البيت الأبيض: مناقشات حساسة تجري الآن بشأن خطة غزة    "الاحتلال "يهاجم أسطول الصمود وكولومبيا تطرد البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية ومظاهرات حاشدة بعدة عواصم عالمية..وحماس: نحيي شجاعة النشطاء    85 شهيدًا فلسطينيًا حصيلة الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة خلال 24 ساعة    خطة ترامب لغزة.. قراءة تحليلية في وهم السلام وواقع الوصاية    «رحلة إسقاط الكبار مستمرة».. المغرب يضم البرازيل إلى قائمة ضحاياه    «قولاً واحدًا».. خالد الغندور يكشف رحيل فيريرا عن تدريب الزمالك في هذه الحالة    مصرع أمين شرطة وإصابة آخر فى حادث تصادم بالنوبارية    الداخلية: القبض على مدرس اُتهم بالاعتداء على طالب ابتدائي في الهرم    عبدالله مجدي الهواري: «بحب الفن ونفسي أبقى حاجة بعيد عن اسم أمي وأبويا»    مدير مستشفى معهد ناصر: نستقبل مليوني مريض سنويًا في مختلف التخصصات الطبية.    دعاء صلاة الفجر ركن روحي هام في حياة المسلم    4 أهداف.. تعادل مثير يحسم مواجهة يوفنتوس أمام فياريال بدوري أبطال أوروبا    رياضة ½ الليل| هشام يسلف الزمالك.. إيقاف تريزيجيه.. قائمة الخطيب.. والموت يطارد هالاند    زكريا أبوحرام يكتب: الملاك الذي خدعهم    رئيس مجلس المطارات الدولي: مصر شريك استراتيجي في صناعة الطيران بالمنطقة    إصابة 4 عمال في حادث تصادم نقل وميكروباص أمام كارتة ميناء شرق بورسعيد    قرار هام بشأن شخص عثر بحوزته على أقراص منشطات مجهولة المصدر بالجيزة    السيطرة على حريق شب داخل مخلفات بعين شمس    شهادة صحفي على مأساة أفغانستان الممتدة.. جون لي أندرسون يروي أربعة عقود في قلب عواصف كابول    أكاديمية «أخبار اليوم» في ثوبها الجديد.. وفرحة الطلاب ببدء العام الدراسي| صور وفيديو    اللجنه العامة توافق على اعتراض رئيس الجمهورية على مواد الإجراءات الجنائية    نقل الفنان السوري زيناتي قدسية إلى المستشفى بعد أزمة صحية مفاجئة    3 أيام متواصلة.. موعد إجازة 6 أكتوبر 2025 للموظفين والبنوك والمدارس بعد قرار رئيس الوزراء    حماية العقل بين التكريم الإلهي والتقوى الحقيقية    وصول وفد رسمي من وزارة الدفاع السورية إلى موسكو    مرض اليد والقدم والفم (HFMD): عدوى فيروسية سريعة الانتشار بين الأطفال    تحذير لهؤلاء.. هل بذور الرمان تسبب مشاكل في الجهاز الهضمي؟    أكلة مصرية.. طريقة عمل محشي البصل خطوة بخطوة    الخارجية التركية: اعتداء إسرائيل على "أسطول الصمود" عمل إرهابي    مايولو: سعيد بالتسجيل أمام برشلونة.. نونو مينديش قام بعمل كبير    جوارديولا: لدينا نقطة وسنحصل عليها    «مقتنعوش بيه».. ماجد سامي: كنت أتمنى انتقال نجم الزمالك ل الأهلي    حل 150 مسألة بدون خطأ وتفوق على 1000 متسابق.. الطالب «أحمد» معجزة الفيوم: نفسي أشارك في مسابقات أكبر وأفرح والدي ووالدتي    محافظ الشرقية يكرّم رعاة مهرجان الخيول العربية الأصيلة في دورته ال29.. صور    الجيش الإسرائيلي: إطلاق 5 صواريخ من شمال غزة واعتراض 4 منها دون إصابات    انقطاع مؤقت للاتصالات قرب المتحف المصري الكبير.. فجر الخميس    سعر الذهب اليوم في السودان.. وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الخميس 2 أكتوبر 2025    هيئة مستقلة للمحتوى الرقمي ورقابة بضمانات.. 4 خبراء يضعون روشتة للتعامل مع «البلوجرز» (خاص)    ستاندرد آند بورز: إغلاق الحكومة الأمريكية يفاقم عدم اليقين في التوقعات الاقتصادية    المطبخ المصري في الواجهة.. «السياحة» ترعى فعاليات أسبوع القاهرة للطعام    السكر القاتل.. عميد القلب السابق يوجه نصيحة لأصحاب «الكروش»    اعتراضات على طريقة إدارتك للأمور.. برج الجدي اليوم 2 أكتوبر    أول تعليق من رنا رئيس بعد أزمتها الصحية: «وجودكم فرق معايا أكتر مما تتخيلوا»    ماذا كشفت النيابة في واقعة سرقة الأسورة الأثرية من المتحف المصري؟    الإسكان عن أزمة قرية بحر أبو المير بالفيوم: تحركنا لدراسة الوضع ميدانيا    أحمد موسى يوجه رسالة للمصريين: بلدنا محاطة بالتهديدات.. ثقوا في القيادة السياسية    أولى هجمات أكتوبر.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم: أمطار رعدية تضرب منطقتين    «التضامن الاجتماعي» بالوادي الجديد: توزيع مستلزمات مدرسية على طلاب قرى الأربعين    إصابة 9 أشخاص في انقلاب ميكروباص على طريق شبرا - بنها    التجربة المصرية في الاستزراع السمكي محور برنامج تدريبي دولي بالإسماعيلية    أرسنال بالعلامة الكاملة في الإمارات ينتصر بثنائية على أولمبياكوس    تسليم 21 ألف جهاز تابلت لطلاب الصف الأول الثانوي في محافظة المنيا    مدير معهد ناصر: اختيار المعهد ليكون مدينة طبية لعدة أسباب ويتمتع بمكانة كبيرة لدى المواطنين    تعرف على مواقيت الصلاه غدا الخميس 2 أكتوبر 2025فى محافظة المنيا    مجلس الدولة يقرر إعادة توزيع اختصاصات دوائر محكمة القضاء الإداري    مجلس حكماء المسلمين: العناية بكبار السن وتقدير عطائهم الممتد واجب ديني ومسؤولية إنسانية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحيل بائعة المشمش‏!‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 25 - 09 - 2010

في كراسة عمر كل إنسان صفحات غير مكتوبة لقصص نزعناها من حياتنا ونسيناها أو تناسيناها عن قصد وغالبا دون قصد‏..‏ لأننا وضعناها في خانة القصص المنسية التي كفينا عليها ماجورا كبيرا. برغم أن زورقها يسبح في نهر أعظم قصص الحب التي تنتهي عادة بالفراق‏,‏ وهي قصص الحب الحقيقي‏..‏ لأن قصص الحب التي تنتهي بالزواج والأسرة والأولاد‏..‏ يعتبرها فلاسفة الحب وواضعو شفرة الغرام‏..‏ قصصا فاشلة‏..‏ باعتبار أن الحب الحقيقي الذي يكتبون عنه وتحفظه الأجيال أدبا وقصصا وشعرا هو الحب الذي ينتهي في فصله الأخير بالفشل‏..‏ وكل محب يذهب في طريق‏!‏
علي أي حال‏..‏ فإنني أعتذر مقدما قبل أن أشغلكم بقصص حب من هذا النوع نزعت صفحاتها من كراسة حياتي‏..‏ ولكنني مازلت أذكرها في مخيلتي ومازالت محفورة برغم مرور سنوات طويلة في ذاكرتي وفي دمي‏..‏
ولنبدأ ب آية وهذا هو اسمها‏..‏ فتاة سوق الخضار التي أعجبتني في مقتبل حياتي‏.‏
كنت أيامها أخطو خطواتي الأولي في عالم صاحبة الجلالة‏..‏ مجرد محرر صغير في قسم التحقيقات الصحفية تحت رياسة العملاق صلاح هلال‏,‏ أعظم رئيس قسم تحقيقات ظهر في بلاط صاحبة الجلالة‏,‏ وكان معنا في القسم عمالقة عالم الصحافة والفكر والفن الآن‏..‏ في مقدمتهم الزميل مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين‏,‏ وعبدالوهاب مطاوع وأنتم تعرفون من هو عبدالوهاب مطاوع؟ ومحمد زايد الموسوعة الصحفية المتحركة وصاحب أجمل وأخف دم ملحق اسمه أيامنا الحلوة‏..‏ ويحيي التكلي الأب الروحي لنا جميعا‏..‏ ومحمود مراد المقاتل لكل العصور‏,‏ والمبدعة دائما المتألقة ابدا‏..‏ العزيزة بهيرة مختار‏..‏ وسعيد عبدالغني الذي اختطفه الفن منا‏,‏ وإنجي رشدي المحررة الدبلوماسية الرقيقة‏..‏
لنخرج هنيهة من دائرة الصحافة والزمالة لنركب زورق الحب‏..‏
‏.................‏
‏.................‏
كنا تقريبا طوال النهار وجزء كبير من الليل نتجول ونتسكع في شوارع وسط البلد‏..‏ وقادتني قدماي من شارع شريف حيث كان مبني الأهرام التاريخي القديم الذي فرطنا فيه هدرا بكل أسف وتحول إلي موقف سيارات إلي سوق التوفيقية‏..‏ وهناك وقفت أمام أقفاص أجمل الخضار وأحلي الفاكهة‏..‏ ومددت يدي لألتقط مشمشاية مغرية تسر الناظرين‏..‏ فإذا بصوت آمر ناه يصيح لي من خلفي‏:‏ بلاش تمسك المشمش بإيدك ياسيدنا الأفندي‏..‏ خليني أنا أوزنلك‏!‏
التفت لصاحبة الصوت‏..‏ فإذا بي أمام وجه صبوح كأنه شمس الصباح عندما تخرج من خدرها‏..‏ وجدت نفسي أغرق في عينين سوداويين بلا قرار‏..‏
لم أنطق‏..‏ لم أتكلم‏..‏ فقط تعلقت بهذا الشعاع السحري الذي يبرق من عينيها‏..‏ ويهز كياني كله هزا‏..‏
لم أجد من كلمة أقولها إلا يا سبحان الله‏..‏ توقفت صاحبة الصوت‏..‏ وتسمرت أنا في مكاني‏..‏ سألتها‏:‏ انت مين يا قمر الزمان؟
انقلب وجهها إلي وجه قطة برية شرسة‏..‏ وقالت لي بشخطة‏:‏ انت جاء تشتري واللا جاي تعاكس‏..‏ قمر الزمان إيه‏..‏ ما عندناش مشمش‏..‏ المشمش شطب يا حضرة‏!‏
في داخلي أعجبني تقلبها في لحظات من ذات الحسن والجمال إلي صاحبة اللسان الطويل الذي يحمي الجمال والحسن من عبث العابثين‏!‏
قلت لها‏:‏ أنا أسف يا ست الكل ما كانشي قصدي والله‏..‏ أوزني كيلو مشمش بإيديكي الحلوين دول‏!‏
قالت‏:‏ تاني؟
قلت‏:‏ لا تاني ولا تالت‏..‏ ما تزعليش يا ست هانم أنا ماشي‏!‏
قالت‏:‏ وأنا ما يخلصنيش أزعلك‏..‏ عاوز كيلو واللا اتنين؟
قلت لها بمكر الصحفيين‏:‏ كفاية كيلو النهاردة‏..‏ أصلي أنا عزبنجي لسه مادخلتش دنيا‏!‏
صفا وجهها وراقت سحنتها وابتسمت لأول مرة وهي تقول‏:‏ وإحنا خدامين السيادة‏!‏
‏.............‏
‏.............‏
وجدت نفسي مشدودا إليها مشدوها بها‏..‏ كانت ترتدي إيشاربا أصفراوي تتدلي من تحته ضفيرتاها الغارقتان في السواد‏..‏ حتي ما تحت صدرها الناهد‏..‏ ويزين عنقها عقد من حبات الكهرمان‏..‏ لو شاهدها الفنان محمود سعيد لوضعها كما هي في إحدي لوحاته الخالدة وسماها‏:‏ بائعة المشمش‏!‏
وأحبت قدماي وأنا أعرف السبب‏..‏ شارع التوفيفية‏..‏ وتعلقت به لا أعرف لماذا‏..‏ ولكن قلبي كان يعرف‏..‏ بعد أن تعود أن تزداد دقاته ويدفع الدم مارا إلي وجنتي وأنا أمر علي الباعة الذين احتلوا الشارع‏..‏ لأتوقف كل يوم أمام دكانها‏..‏ ولا أعرف لماذا تشعر البنات بنسمات الحب دون رسائل ودون كلام‏..‏ بمجرد تلاقي العيون وكلمات بسيطة علي الشفاه‏..‏ بحجة ودون حجة‏..‏
وبدأت هي تنتظرني‏..‏ عرفت ذلك‏..‏ عندما كنت أغيب يوما أو يومين‏..‏ تبادرني‏:‏ أنت فين غايب عنا بقالك يومين يا‏...‏
قلت لها‏:‏ عزت‏..‏
قالت‏:‏ وأنا آية‏..‏ اسمي آية‏..‏
قلت لها مداعبا‏:‏ تبارك الخلاق فيما خلق انت آية بصحيح‏..‏ اسم علي مسمي‏..‏
تضحك من قلبها وهي تقول لي‏:‏ والنبي ما تغبشي عننا كتير ياسي عزت‏!‏
أعجبني نداءها ب سي عزت‏..‏ نفس النداء الذي كانت أمي تناديني به دائما‏..‏
لم أنم ليلتها‏..‏ في الصباح ركبت القطار من بلدتي القناطر الخيرية حيث كنت أقيم مع أسرتي‏..‏ ومشيت من باب الحديد حتي موقع الدكان الذي تقف فيه دائما تبيع للزبائن الفاكهة الطيبة والخضار الطازج‏..‏ الذي أصبح محطتي الأولي في ذهابي إلي الجريدة في الصباح‏,‏ وفي عودتي منها في المساء‏..‏ لكني هذا الصباح لم أجدها هناك‏..‏
شعرت كأن الشمس لم تشرق يومها برغم أنها كانت تملأ الدنيا ساعتها نورا وضياء‏..‏
وجدت امرأة ترتدي السواد‏..‏ لكن جيدها ويديها تلمع ببريق الذهب‏..‏ كأنه شارع الصاغة بجلالة قدره قد رمي عليها كل ما يملكه أصحاب الحوانيت من ذهب يسرق العيون‏.‏
رحت أتلكأ أمام المحل في سوق التوفيقية‏..‏ نادتني المرأة التي تتحلي بقناطير مقنطرة من الذهب‏:‏ فيه حاجة ياسيدنا الأفندي؟
قلت لها مترددا‏:‏ أبدا أصل البنت اللي اشتريت منها امبارح المشمش‏..‏
تقاطعني‏:‏ تقصد بنتي آية؟
قلت لها‏:‏ أيوة‏..‏ أصلي أنا نسيت أدفع لها ثمن المشمش؟
قالت‏:‏ البنت دي دايما كده مطيورة‏..‏
قلت لها‏:‏ وهي فين النهاردة؟
قالت‏:‏ في المدرسة يا حبة العين من النجمة‏..‏ ما شاء الله دلوقتي في ثانية ثانوي‏..‏ وكل أولادي وبناتي بيروحوا المدرسة‏..‏ وبعد الظهر ييجو هنا ساعات يساعدوني في العمل‏..‏ بعد ما مات أبوهم الله يرحمه كان تاجر فاكهة قد الدنيا‏..‏ ما سمعتش عن المعلم درديري؟
قلت لها مجاملا‏:‏ وهو فيه حد ما سمعش عن المعلم درديري‏..‏ ده كان اسمه زي الطبل‏!‏
قالت‏:‏ الله يكرمك يا بني‏..‏ باين عليك ذوق وابن حلال‏.‏
قلت لها‏:‏ دا بس من أصلك‏..‏
قالت‏:‏ هي المحروسة باعت لك كام كيلو مشمش؟
قلت‏:‏ كيلو واحد بس‏..‏ إنما إيه عسل‏..‏ اتفضلي فلوس المشمش اللي نسيت أدفعه امبارح‏.‏
فجأة تنشق الأرض عن آية وهي ترتدي زي المدرسة كأنها برنسيسة بوجهها الأحمر الرباني دون مساحيق‏..‏ وضفائرها التي تتدلي حتي خصرها وهي تحتضن حقيبة المدرسة السوداء كأنها تحمل طفلا صغيرا‏..‏
تشير إليها أمها وهي تقول لي‏:‏ آهي جات المضروبة‏..‏ تعالي يا حبيبتي خدي فلوسك اللي انت ناسياها‏..‏
بمجرد أن التقت عينانا حتي صاحت آيه‏:‏ يا سلام ياعزت‏..‏ أحمد الله اللي انت جيت‏!‏
الأم تضرب علي صدرها بيدها‏:‏ ياعيب الشوم‏..‏ عزت كده حاف‏..‏ دا أنتم علي كده عارفين بعض من زمان‏..‏ إيه الحكاية يا مقصوفة الرقبة؟
‏.............‏
‏.............‏
كان الموقف غاية في الإحراج لي ولآية التلميذة بنت بائعة الفاكهة‏..‏ وقد كشفت أمها سرها‏..‏ وأمسكت بضفائرها وجمعتها في يدها وهي تصيح بها‏:‏ قوليلي يا مضروبة انتم تعرفوا بعض من إمتي؟
تقصد آية وأنا‏..‏
ولكن آية بنت السادسة عشرة لم تخف ولم تهتز‏..‏ بل وجهت كلامها لي‏:‏ حمدا لله علي السلامة‏..‏ غيبة طويلة‏..‏
الأم تهزها بعنف وتشدها إلي داخل الدكان‏..‏ والابنة مثل العصفور الصغير الذي أطبق عليه قط شرس وسد عليه حتي أنفاسه‏..‏
الابنة بكل تحد‏:‏ أيوه يامه‏..‏ للعلم هنا الأم ينادونها يامه يا أمايا‏..‏ وليس ماما أو مامي أنا أعرف عزت‏..‏ ده أحسن زبون عندي‏!‏
الأم بمكر من عاشت في الأسواق طويلا‏:‏ وأحسن زبون تناديه باسمه كده‏..‏ عشنا وشفنا‏..‏
وقبل أن تتجمع أمة لا إله إلا الله من حولنا وتبقي فضيجة بجلاجل‏..‏ أمسكت بيد الأم التي تمسك هي الأخري بيدي ابنتها‏..‏ ودفعت بهما إلي داخل المحل‏..‏ وقلت للأم‏:‏ يا ست هانم نتكلم هنا بعيد عن اللي رايح واللي جاي أحسن‏!‏
ولكي أتخلص من هذا المطب اللذيذ‏..‏ ومن الضرب والإهانة في سوق الخضار‏..‏ أوقعت نفسي دون أن أدري في مطب أكبر‏!‏
ولأن هذه الشريحة من الناس لا تعرف حكايات الحب وسنينه‏..‏ وإن كانوا أساتذة فيه‏..‏ قلت للأم والابنة الملائكية الوجه في حضنها‏:‏ أنا حأخش البيت من بابه‏..‏ أنا عاجباني بنتك يا ست الحاجة تسمحيلي أزوركم في البيت‏..‏ نقعد قعدة رجالة الأول‏..‏ وبعدين نخش في الموضوع‏!‏
كأنني فتحت أمامها باب الجنة‏..‏ تركت ابنتها تفلت من يدها‏..‏ وتركت جسدها الممتلئ شحما ولحما يهبط دون باراشوت فوق أقفاص الفاكهة‏..‏ وهي تقول‏:‏ يابني أنت كركبت بطني وسيبت مفاصلي‏..‏ موش تقول كده من الأول‏!‏
أما آية‏..‏ التي من المفروض أنها العروس التي اخترتها‏..‏ فقد انسحبت من المشهد كله‏..‏ وخرجت من المحل شاردة هائمة علي وجهها من هول المفاجأة‏..‏ ونهر من دموع الفرح يترقرق ويترفق بوجنتيها‏..‏
‏..................‏
‏..................‏
عندما سمع الزميل العزيز مكرم محمد أحمد بالحكاية قال لي‏:‏ معقولة‏..‏ أشوفها الأول وبعدين أحكم‏..‏
وقال محمد زايد‏:‏ وعرفتها إزاي ياواد يا عفريت‏!‏
وقال يحيي التكلي‏:‏ حد يقع في بنت بياعة واقفة في الشارع ليل ونهار‏!‏
وقال عبدالوهاب مطاوع‏:‏ من حقك تحب ومن حقك تتجوز حتي بنت بياعة‏..‏ يمكن تطلع أحسن من بتوع السرايات والكماريرات‏!‏
واتفق الجميع علي أنهم لازم يشوفوها الأول عشان يقدروا يحكموا كويس‏!‏
لا أنكر هنا أننا تقابلنا أنا وآية أكثر من مرة بعيدا عن العيون‏..‏ ولكن في مكان واحد كان يلمنا كلنا نحن أسرة الأهرام أيام الزمن الجميل‏..‏ هو نادي الأهرام‏..‏ فقد اختار لنا الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس تحريرنا ومعلمنا الأول ومن دخلنا الأهرام بفضله ومن علمنا كيف نكتب وكيف نحترم الكلمة وميثاق الشرف الأهرامي‏,‏ الذي هو الآن ميثاق الشرف الصحفي‏..‏
أختار روف عمارة في شارع شامبليون تطل علي ميدان التحرير لتكون ناديا لنا نلتقي ونلعب فيها تنس الطاولة ونشرب ونلهو ونجتمع في براءة وحب في أوقات فراغنا‏..‏
وعرفت آية علي حقيقتها‏..‏ بريئة بل غاية في البراءة‏..‏ أنا أول من دخل قلبها في حياتها‏..‏ طاهرة عفيفة اللسان‏..‏ ظريفة غاية في الذكاء‏..‏ لكن عنيدة بعض الشيء‏..‏ لو أرادت شيئا لابد أن تناله حتي لو كان في السماء السابعة علي حد تعبيرها‏!‏
وطب علينا الصحاب ساعة عصاري ونحن نجلس في روف النادي‏..‏ قدمتها لهم‏..‏ تحدثوا إليها وتحدثت هي دون خجل إليهم‏..‏ ثم انشغلوا هم في مباراة تحديات البنج بونج يعني تنس الطاولة‏..‏ وكان الزميل مكرم محمد أحمد‏,‏ والزميل عبدالوهاب مطاوع يكسبان في النهاية‏..‏
في الصباح تحول اجتماع قسم التحقيقات برئاسة معلمنا صلاح هلال إلي اجتماع لمناقشة حكايتي مع بنت بائعة الفاكهة‏..‏ وللأسف لم أكن حاضرا‏..‏
قالوا لي إن صلاح هلال قال‏:‏ فيها إيه أما عزت يتجوز بنت بياعة فاكهة مادامت عاجباه‏..‏ هي البنت حلوة؟
قال سعيد عبدالغني‏:‏ قمر أربعتاشر‏..‏
قال صلاح هلال‏:‏ متعلمة‏..‏
قال محمد زايد‏:‏ أفتكر في ثانية ثانوي‏..‏
قال صلاح هلال‏:‏ عز الطلب‏.‏
عندما حضرت بعد الاجتماع قال لي الزميل العزيز مكرم محمد أحمد‏:‏ البنت كويسة علي بركة الله‏..‏
قلت له‏:‏ طيب أقول لأهلي إيه‏..‏ عاوز أتجوز بنت بياعة فاكهة؟
قال‏:‏ قول لهم دي تلميذة في ثاني وبلاش حكاية بياعة دي‏!‏
وقال لي محمد زايد‏:‏ وهو انت يعني ابن عبود باشا ياخي‏!‏
‏...............‏
‏...............‏
وتحايلت علي أمي حتي وافقت أن تصحبني في زيارة إلي بيت آية في الفجالة‏..‏
البيت كأنه بيت من بيوت بكوات المماليك زمان‏..‏ لا تعرف أوله من آخره‏..‏ قالت لي أمها‏:‏ إن زوجها اشتراه في صفقة تجارية مع صاحب وقف‏..‏ عزمونا علي أكلة أردتها أنا‏..‏ فتة ولحم ماعز وبمبار‏..‏
لم تفارق آية أمي لحظة‏..‏ وأمي تحتضنها في شوق وتقبلها طول الوقت وهي تشير إلي‏:‏ دي بنتي أنا‏..‏ حطها في عنيك ياولد‏!‏
لم نتفق علي شيء‏..‏ فقط قرأنا الفاتحة مع أمها وأخوالها وأعمامها وأخواتها‏..‏ وإن كان قد جري اتفاق ثنائي بين أمي وأمها‏..‏ أن تحضر إليهم في العيد الكبير وكان هلاله يكاد يقترب بعد نحو شهرين لا أكثر‏..‏ بالشبكة والدبل‏..‏ وسوف يكون المأذون حاضرا‏..‏ أما بيت الزوجية فهو جناح من هذا الربع الكبير‏..‏ وعفش الزوجية سوف يختاره العروسان أنا وآية‏..‏ والزفاف بعد امتحان الثانوية العامة‏..‏ عشان العروس يبقي عندها شهادة كما قالت أمها‏..‏
كما أحببت آية‏..‏ أحببت أمها وأخواتها وأهلها كلهم‏..‏ بل والشارع الذي تسكنه والحي الذي تعيش فيه‏..‏ وأينما ذهبت خطاويها ذهبت عيوني وسكن قلبي‏..‏
وأصبحت آية مع الأيام واحدة من الشلة‏..‏ وكان اللقاء شبه اليومي في نادي الأهرام ساعة العصاري‏..‏ نأكل ونشرب ونلعب البنج بونج الذي تعلمته آية‏..‏ وأحبها الرفاق‏..‏ لا لأنها سوف تصبح زوجة لزميل لهم في الأيام المقبلة‏..‏ ولكن لأنها كانت تعزمهم وتطعمهم في المناسبات والأعياد علي سماط يعني مأدبة يسيل لها لعابهم من لحم الضأن والفتة البلدي المحوجة وذكور البط السمين المزغط‏..‏ في وقت كنا كلنا في مطلع حياتنا الصحفية نحاف الدخول أقزام الرواتب‏.‏
‏...............‏
‏..............‏
ولكن لم يسلم حبنا من عزول وحاسد‏,‏ كما في أغنيات عبدالوهاب وفريد الأطرش علي أيامنا‏..‏ فقد زارني في مكتبي شاب يلبس ملابس معلمين سوق الخضار وقالي لي‏:‏ ياعم عزت سيب آية تشوف نصيبها في البيت اللي خرجت منه‏..‏ واحد من توبها ومن دمها‏..‏ وشوف لك أنت عروسة علي مقاسك‏!‏
قلت له‏:‏ وحضرتك مين بالضبط؟
قال‏:‏ أنا برعي ابن عمها تاجر فاكهة زي أبوها وأهلها‏..‏
قلت له‏:‏ أهلا يا عم برعي‏..‏ أنت اللي تدور لك علي واحدة ثانية غير آية‏.‏
قال مهددا‏:‏ بكرة الأيام تدور‏..‏ وآية وأمها يرجعوا لعقلهم تاني‏!‏
عندما قلت لآية عما فعله ابن عمها برعي معي‏..‏ قالت لي‏:‏ سيبك منه دا ولد صايع عينه مني من زمان‏!‏
أمضينا يوما جميلا في نادي الأهرام‏..‏ أكلنا فيه ساندويتشات من صنع يديها‏..‏ عجة بالبصل وباذنجان مقلي وفلفل وخيار مخلل‏..‏ ثم ذهب كل واحد في طريقه‏..‏
في الصباح جاءني صوت أمها قلقا باكيا وأنا يا دوب بافتح باب مكتبي في الأهرام‏:‏ إلحق‏..‏ آية نقلناها المستشفي في الفجر‏..‏ والدكاترة قالوا عندها انفجار في المصران الأعور‏!‏
‏.................‏
‏.................‏
لم يتركني عبدالوهاب مطاوع أذهب وحدي‏..‏ ذهبنا معا إلي مستشفي الحسين حيث كانت ترقد آية‏..‏
صعدنا سلم المستشفي جريا‏..‏ كدنا نصطدم بسرير مغطي بملاءة بيضاء لا نعرف من يحمل‏.‏
سأل عبدالوهاب‏:‏ هي آية في حجرة كام؟
قالت الممرضة المرافقة للسرير الأبيض‏:‏ أهي قدامك أهه‏..‏
سألتها‏:‏ مالها؟
قالت‏:‏ تعيش أنت‏!‏
ارتميت فوق سريرها ودموع شبابي كله تتدفق دون توقف وقلت لها‏:‏ معقولة يا آية‏..‏ ما اتفقناش علي كده‏!‏
وبكي عبدالوهاب مطاوع يومها‏..‏ كما لم يبك في حياته كلها‏!‏
وذهبت آية‏..‏ بائعة المشمش‏{‏

[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.