خلال إجازتي الصيفية بمصر لاحظت أن الزوابع التي يثيرها محترفي برامج التوك شو في وادٍ و مشاكل المواطن البسيط في وادٍ آخر ، و أن الهوة بين الواديين شاسعة . فبينما تدور معارك غريبة بين ضيوف التوك شو ( وهم بالمناسبة نفس الضيوف على مختلف القنوات ) على قضايا من عينة تسمية مبارك بالرئيس السابق أو الرئيس المخلوع ، و مدنية مصر أو إسلاميتها ، و الدستور قبل أو بعد الانتخابات ، و شرعية كل الجمع على اختلاف مسمياتها ، يعاني المواطن الغلبان من مشاكل الفساد التي استفحلت بعد الثورة بدءاً من تحت منزله حيث المخبز الذي يقف في طوابيره انتظاراً لأرغفة يحصل عليها بعد جهد جهيد ، و انتهاءاً بالمستشفيات التي تعاني من الإهمال و اللامبالاة و إجبار المراجعين على شراء المستلزمات الطبية . حتى المحاكمات التي تتم لا تمت لمطالب من قاموا بالثورة بصلة ، فالأولوية التي علت فوق كل أولوية هي محاكمة الرئيس السابق على مقتل الثوار . من وجهة نظري هناك خطأ في ترتيب الأولويات في مرحلة ما بعد الثورة و أن الخلاف القائم بين الفصائل المختلفة سببه تدخل الأهواء و الرغبة للانتصار للنفس و الرأي أكثر من المصلحة العامة و أن هذه الخلافات السطحية من الممكن أن تطيح بالثورة و الثوار و تتيح للفاسدين و المفسدين الفرصة لتصدر المشهد السياسي و الاقتصادي مرة أخرى . لقد قامت الثورة للقضاء على الفساد و تحقيق العدالة الاجتماعية و تحقيق المساواة بين المواطنين في الحصول على الفرص المتاحة من وظائف و مناصب بالجهد و العمل و الكفاءة بغض النظر عن شهادة النسب العائلي ، فأين المحاكمات التي يطرب و يهلل لها البعض من كل هذا ؟!! كان يجب أن تكون الأولوية الأولى و الثانية و الثالثة حتى العاشرة لقضايا الفساد ، لقضايا بيع القطاع العام بثمن بخس و تشريد موظفيه و عماله و دفن قلاع صناعية بدم بارد و تحويل مصر إلى بلد سندات و بورصة ، أي اقتصاد كرتوني سينهار مع أي أزمة في أسواق السندات أو مع أي انخفاض مؤشرات البورصة . لطريقة البيع و الكيفية التي تمت بها و مصير أموال تلك الصفقات المشبوهة !! الفساد الذي باع أرض مصر بملاليم و لم يبال بأرض يعيش عليها ضعاف سيتم تشريدهم و لم يفرق بين أرض في الصحراء و أرض آثار ، المهم العمولة و السمسرة. الفساد الذي سمح باستيراد المبيدات المسرطنة و الهرمونات التي نشرت أمراضاً نهشت أكباد وكلى و أجساد المصريين بما سببت من أمراض خطيرة كالسرطان و الفشل الكلوي و الكبد . الفساد الذي دمر الخدمات الطبية حتى بات المواطن يخاف الاقتراب من أي مستشفى حكومي و يفضل الموت في منزله على الذهاب المستشفيات لإسعافه لأنه يوقن أن الداخل مفقود و الخارج محمول على الأعناق . الفساد الذي هدم التعليم فانتشرت الأمية المقنعة التي يحمل أصحابها شهادات علمية و لا يستطيعون القراءة و الكتابة ، و لا عزاء لعمر و أمل و بسبس. الفساد الذي خلق جمهورية البلطجية و المنتفعين فعمت الفوضى و انتشرت قوانين الغاب . لو أن الفساد وُضع في أول كشف الأولويات و كان موضوع المحاكمات الرئيسي لانفرط عقده و تخلصت مصر من كل حباته لأن الكبار كانوا سيجرون الصغار ، و الناضورجية كانوا سيرشدون عن المعلمين و الكبار . أقول ماسبق لأن الفساد لازال يضرب بأطنابه و لا زال المرتشون يعيثون في الأرض فساداً و لأن البلطجة تحورت فأفرزت أجيالاً أصغر من السن الرسمي لمزاولة المهنة.