بعد قيام الثورات العربية، وانتفاضة الشعوب ضد الظلم والطغيان، وسقوط رأس النظام، برزت الحاجة الملحة – أكثر من أي وقت مضى – إلى وجود الإمام العادل الذي يحكم بين الناس بالعدل، ويعيش آمالهم وآلامهم، ويقضي على الفساد، وينشر الأمن والأمان بين ربوع الوطن، ويعمل على إقامة العدالة الاجتماعية، وتفعيل المشاركة السياسية والشورى، ويأخذ حق الضعيف، ويمنع تجبر الأقوياء، ويستشعر المسئولية، ويعلم أن الحكم تكليف وليس تشريفًا، وأنه أمانة ومسئولية أمام الله، وينفذ القانون على الناس جميعًا بدون محاباة أو واسطة، وينصف المظلومين، ويشعر بآلام المرضى والجوعى والفقراء، ويعمل على إنقاذ الأمة من براثن التخلف إلى طريق التقدم والازدهار. ونحن نقلب في أوراق تراثنا الإسلامي وجدنا رسالة للإمام الحسن البصري، وجهها للخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز منذ أكثر من ألف وثلاثمائة عام، يصف فيها الإمام العادل، وحينما تقرأها تجدها وكأنها كتبت اليوم في القرن الواحد والعشرين، وتحتاج الأمة جميعًا إلى دراستها في هذه الآونة. وإليك عزيزي القارئ نص الرسالة: "اعلم يا أمير المؤمنين، أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله، الرفيق بها، الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنها من أذى الحر والقر. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغارًا، ويعلمهم كبارًا، يكسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد وفاته. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البرّة الرفيقة بولدها، حملته كرها، ووضعته كرها، وربته طفلا، تسهر لسهره وتسكن لسكونه، ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتم بشكايته. والإمام العادل يا أمير المؤمنين وصي اليتامى، وخازن المساكين، يربي صغيرهم ويمون كبيرهم. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوارح، تصلح الجوارح بصلاحه، وتفسد بفساده. والإمام العادل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد لله ويقودهم. فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبددّ المال وشرّد العيال فأفقر أهله وأهلك ماله. واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها؟! وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم؟! واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده، وقلّة أشياعك عنده وأنصارك عليه، فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر. واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلاً غير منزلك الذي أنت به، يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحباؤك، ويسلمونك في قعره فريدًا وحيدًا؛ فتزود له ما يصحبك يوم يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. واذكر يا أمير المؤمنين إذا بعثر ما في القبور، وحصّل ما في الصدور؛ فالأسرار ظاهرة، والكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها؛ فالآن يا أمير المؤمنين وأنت في مهل، قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل؛ لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين، ولا تسلّط المستكبرين على المستضعفين، فإنهم لا يرقبون في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذمةً، فتبوء بأوزارك وأوزارٍ مع أوزارك، وتحمل أثقالك وأثقالاً مع أثقالك. ولا يغرنّك الذين ينعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيبات من دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك. ولا تنظرنّ إلى قدرك اليوم، ولكن انظر إلى قدرك غدًا وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقوف بين يدي الله تعالى في مجمع من الملائكة والمرسلين، وقد عنت الوجوه للحيّ القيوم. إني يا أمير المؤمنين وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النهي قبلي، فلم آلك شفقةً ونصحا؛ فأنزل كتابي هذا إليك كمداوي حبيبه، يسقيه الأدوية الكريمة لما يرجو له بذلك من العافية والصحة، والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته".