حوار نفسى بخلفية سياسية و دينية .. * الشعب المصرى لا يحتاج لمن يحنو أو يقسو عليه لأنه ليس طفلا * بعد الثورة حدث تراجع فى المد التدينى.. ولذلك ارتفعت نسبة خلع الحجاب للتمرد على المجتمع * الشعب المصرى من أكثر الشعوب تدينا.. ولكن تدينه منقوص ومشوه * من أبجديات النرجسية المصرية أننا أذكى وأقوى وأشجع الشعوب ويحاول الآخرون النيل منه.. ولكن هذا غير صحيح * الاكتئاب والقلق أكثر الأمراض النفسية.. والمتأزمون مرضى نفسيون جدد * الحماية الزائدة تسببت في عزوف الشباب عن العمل و البنات عن الزواج: * دروس التنمية البشرية القائمة على التحفيز دون التمكين ما هى إلا "عمليات نصب"
" شخصية الشباب المصري انقسمت إلى أنماط عديدة.. بعضهم دخل مرحلة الإحباط.. وآخرون ألحدوا بعد فشل آمال البعض التي علقوها على ما كانوا يصدرون أنفسهم باسم الدين.. وبالرغم من ذلك فإن المجتمع المصري بالفعل من أكثر الشعوب تدينا.. إلا أن تدينه منقوص.. هذا بجانب وجود أخطاء في التربية.. وسياسيا هذا الشعب لا يحتاج لمن يحنو أو يقسو عليه لأنه ليس طفلا أو قاصرا".. هذا هو ملخص حوارنا مع د. محمد المهدي- رئيس قسم الطب النفسي بكلية الطب بجامعة الأزهر- الذي استقبلنا في عيادته الخاصة التي ذهبنا إليها قاصدين "قسط " من الراحة النفسية في ظل هذا التزاحم من الأفكار والمشاعر ما بين الإيجابي والسلبي.. وكان لنا هذا الحوار..
* في البداية كيف تصف حال الشاب المصري؟ هناك نمطان لشخصية الشاب المصري، فيوجد النمط الليبرالي ويضم اليساري و الناصري، ويتطلع إلى دولة حديثة مدنية، تمكنه من الحياة بشكل لائق وكريم، وهذا النمط عادة يكون نشطا ومبدعا، ويمكن وصفهم بأنهم كانوا الشرارة الأولى لثورة يناير، ويحتل هذا النمط حوالي 25% من نسبة الشباب المصري، وتقسم هذه الشريحة ما بين الطبقتين العليا والمتوسطة، وهناك 75% من الشباب المصري ينتمي للتيارات الإسلامية المختلفة ما بين سلفيين وإخوان، ومن لا ينتمون إلى أية تصنيف واضح لكنهم يحلمون بخلافة إسلامية، وهذه الكتلة موجودة ولها تأثير كبير في المجتمع، إلا أنها تعتبر تقليدية، ولا تمتلك أفكارا ثورية أو إبداعية، وتحركت في ثورة يناير بعدما وجدت بيئة صالحة لذلك، ومثلت قوة ضغط كبيرة إلا أنها دوما تحتاج لمفكر، وهناك كثير من الشباب ممن ينتمون إلى النمطين في مرحلة الإحباط قرروا الانسحاب من هذه المساحات المصنفة، واختاروا الكفر بجملة هذه التيارات على اختلافها، وخلال هذه الفترة انضم عدد كبير من هؤلاء إلى دائرة الإلحاد، والإلحاد هنا لم يكن عقائدياً فحسب، لكن هؤلاء ممن كنت ألتقى بهم في العيادة و خارجها كفروا بكل شيء وأي شيء، مرورا بفكرة وجود إله، وعلى الجانب الآخر هناك من بين هؤلاء من توقف تماما عن أي فعل سياسي ليتخذ موقفا سلبيا من الأحداث.
* ولكن ما الذي يدفع ملحدا إلى طرق باب طبيب نفسي وليس شيخا؟ في الحقيقة هو لا يأتى بنفسه، بل يأتى به أهله، أملا في أن يكون مريضا ويبحثون عن علاج لحالته عند الطبيب النفسي، فقد تكون الحالة لشاب مهذب، متدين، يحفظ القرآن الكريم، وفجأة يذهب ليخبر أهله بأنه لم يعد يؤمن بشيء.
* وكيف تكون حالته؟ يستقبلني بابتسامة ساخرة، ويسألني: تفتكر أنا مجنون؟، وتكون مهمتي حينها أن أحاول خلق علاقة جيدة بينه وبين الأهل، إذا لم تكن موجودة، حتى يشعروا بالطمأنينة، وأحاول إبلاغهم بفكرة أن ما تعرّض له ليس بالضرورة أن يكون إلحادا عقائديا، وأنه إذا كان كذلك فلابد من التحلي بالصبر والإبقاء على علاقة طيبة معه، والشيء السلبي في موضوع الإلحاد أن هناك بعض الأسر بمجرد معرفتها بحالة المريض تتولد لديها رغبة في التنصل والتخلص منه، لأنه من وجهة نظرهم أصبح شخصا كافرا يعيش بينهم، وهذا شىء يفاقم من المشكلة كثيرا.
* وكيف تغيرت نسبة الإلحاد خلال الفترة الأخيرة؟ وهل هناك علاقة بين الإلحاد والإخفاقات السياسية من وجهة نظر الملحد؟ للأسف النسبة تضاعفت خاصة بعدما فشلت آمال البعض التي علقوها على من كانوا يصدرون أنفسهم باسم الدين، ومن جاءوا ليقدموا أنفسهم كمنقذين للوطن، وهم لا يملكون رؤية حقيقية للتغيير، و أمثال هؤلاء يكونون في حالة تمرد شديدة للغاية، سواء تمرد على الأسرة، أو المجتمع، تكون لديهم رغبة عارمة في الانفصال عن المجتمع بأي طريقة.
* هل يمكن أن يكون الهدف من الإلحاد هو تكوين مجتمع جديد و الدخول في دوائر اجتماعية مختلفة فقط؟ عملت لفترة مع وزارة الشباب على دراسة للملحدين، وتحتوي الدراسة على تصنيف الملحد، فالملحدون ليسوا سواء، فهناك الملحد الاستعراضي، وهو الذي يسعى للفت الانتباه، ظناً منه أنه وبمجرد الإعلان عن كونه ملحدا سيتم استضافته في البرامج التليفزيونية، ويستفيد من كونه تحت مظلة حماية دولية، وهناك نوع آخر يسمى الملحد الكيدي الانتقامي، وهذا النوع عادة يكون ناقما على المنزل والمجتمع، وتكون وسيلته في التعبير عن هذا النقم هو التسفيه من معتقدات وثوابت هذا المجتمع، وهناك أيضا الملحد المؤقت، وغالبا يمر بها الأشخاص في سن المراهقة، التي تبدأ فيها رحلة الشك في كل شيء، ومن ثم يسقط كل الثوابت ويعيد بناءها من جديد، ويسمي هذا النوع بالملحد المؤقت الباحث عن دليل، بالإضافة إلى الملحد الرافض للسلطة، ويسميه علماء النفس عقيدة اللا أب، بمعنى رفض سلطة الأب والمجتمع، ويكون الملحد هنا رافضا لأي توجيه من أي نوع، وهناك أيضا الإلحاد بالمحاكاة، ويقوم الملحد هنا بالدخول إلى دائرة الإلحاد فقط لأن رمزا يحبه أو صديقا مقربا له، أو حبيبته ألحدت.
* وهل وضعت الدراسة حلولا جذرية للتعامل مع قضية الإلحاد بشكل علمي؟ نعم بالفعل وضعت دراستنا حلولا للحد من ازدياد رقعة الإلحاد ومعالجته، وبدأناها بتساؤل: أين الملحد؟، ومن هنا قدمنا تصورا لفكرة موقع إلكتروني قوي يضم قصص الملحدين وقصص العائدين من الإلحاد، وكان من بين الحلول توفير بيئة خاصة لتقبل أية تساؤلات مهما بلغت من تطرف ومحاولة الإجابة عليها، اعتماداً على أشخاص يمتلكون عقليات متفتحة، ويتم عقد حلقات نقاش موسعة فيما بينهم، بالإضافة إلى عمل دورات تدريبية للشباب في كيفية مناقشة الملحد، ويتم الاعتماد على الشباب في هذا المشروع بنسبة 100% لأن الملحد لديه مشكلة قائمة مع فكرة الرجل الكبير أو الأب أو من يمثل أي سلطة .
* وما هو تفسيرك لازدياد حالات خلع الحجاب مؤخراً؟ هذه الظاهرة ترتبط وبشكل وثيق بما حدث من تقلبات خلال الأعوام الأخيرة، فقبل الثورة كانت هناك حالة نشاط واسعة للجماعات الإسلامية على اختلاف تصنيفاتها، وكان هناك توجه حينها إلى أننا في مصر والبلاد العربية عموماً نمر بأزمة، وأن الحلول اليسارية والليبرالية لم تجدِ نفعاً، وبالتالي أصبح الحل الأوحد في العودة إلى الله، فتجد الشعارات المتداولة حينها أن "الإسلام هو الحل"، و كان الاتجاه العام حينها أنك كلما أزددت تديناً كلما كنت في حال أفضل، وبالفعل بدأ الدعاة يروجون لهذه الفكرة لتتحول بمرور الوقت إلى قاعدة، تمثلت في إطلاق اللحى والالتزام بالحجاب الشرعي والنقاب في بعض الحالات، حتى وصلت الدروس الدينية إلى الفلل والقصور، حتى جاءت الثورة ليهتز معها عدد كبير من القيادات الدينية، التي كانت تمثل قدوة للبعض، وكانت النتيجة حدوث تراجع في هذا المد التديني، والذي من مظاهره خلع الفتيات للحجاب، واختلط التدين في هذه المرحلة بالسياسة بشكل واضح.
* لكن هناك حالات لفتيات لا علاقة لهن بالسياسة ومع ذلك قمن بذلك؟ فهل هناك أسباب أخرى؟ نعم هناك أسباب تتعلق بالمحاكاة الاجتماعية، وهنا تقدم الفتاة على الحجاب ليس امتثالا لأمر الدين، لكنه امتثال للمجتمع الذي ينظر إليها باعتبارها منبوذة، وتنطلق شريحة كبيرة ممن خلعن الحجاب مؤخرا من هذه النظرية، ويمكن ملاحظة تزامن خلعهن للحجاب مع فترة سقوط أقنعة كثيرة للمجتمع، الذي أجبرها في بداية الأمر على ارتداء الحجاب الذي لم تقتنع به من الأساس ثم سرعان ما ثبت لها بالدليل القاطع أن هذا المجتمع مدع وغير حقيقي مما يقوّي من دوافعها لمواجهته بخلع الحجاب.
* وما حقيقة المقولة الخالدة "شعب متدين بالفطرة"؟ بعد زيارتي لمعظم دول العالم أستطيع أن أجزم بأن الشعب المصري حقا من أكثر الشعوب تديناً، لكن للأسف الشديد هذا التدين يعتريه الكثير من "اللخبطة"، فهناك من يعتبر التدين مظهريا فقط، بينما يستخدمه آخرون بشكل نفعي وانتهازي، وهذان النوعان يعتبران ضمن التدين المنقوص، القائم على الجانب المعرفي فقط أو الطقوسي، ولذلك قمت بعمل دراسة عن أنماط التدين في المجتمع المصري، وتبين لي أن هناك 10 أنماط للتدين، وكانت غالبيتها أنماط منقوصة ومشوهة وتنطبق على المصريين ، بالإضافة إلى هذه الأنماط هناك الخطاب الديني الذي كان يوجه بشكل كبير ناحية العقائد والعبادات وجزء ضئيل جدا نحو المعاملات والأخلاق، ولهذا سقط هذا الجزء الهام جدا من تدين المصريين، فتجد رجلا لا يسهو عن صلاته أبدا ويرتدى زيا به رمزية دينية ويصوم رمضان، إلا أن تعاملاته مع الآخرين بعيدة كل البعد عن كل ما سبق، ولهذا يعتبر تدين المصريين منقوصا.
* في ظل الأزمات الاقتصادية الراهنة.. كيف يمكن التعامل نفسيا مع كل هذه التطورات المحبطة؟ هناك تعامل سلبي وآخر إيجابي، والشائع في مثل هذه الأزمات هو السلبي الذي يقوم على انتشار عمليات النصب والسرقة والغش والنهب، كي يتغلب على غلاء المعيشة عن طريق استغلال غيره، أما الاتجاه الإيجابي والذي تقوم به اقتصاديات كبرى في العالم، ويعتمد بالأساس على ترشيد الاستهلاك وتقليص النفقات، والاعتماد على الإنتاج المحلي سواء على مستوى الدولة أو حتى على النطاق الأصغر، أي على مستوى الأسرة الواحدة، ففي دولة كالصين مثلا، تجدهم يتبعون نظام الورش المنزلية، وفيها يقوم كل فرد في الأسرة بالقيام بمرحلة من مراحل إنتاج منتج معين، تمدهم به الشركات والمصانع بمقابل مادي، وهنا نجد المواطن الصيني حقق هدفين، فلم ينزل إلى الطرقات ليتسبب في ازدحامها، وساهم في دفع عجلة التنمية على المستويين العام والخاص.
* برأيك هل الشعب المصري يحتاج إلى من يحنو عليه؟ لا يحتاج لا لمن يحنو عليه ولا لمن يقسو عليه، لأن الشعب المصري ليس طفلا يحتاج للحنان، وليس أيضا عبدا تقومه القسوة، فالشعب في حاجة لمن يتعامل معه كبالغ وراشد، وهكذا تتعامل الدول العظمى مع شعوبها، ولكن للأسف الشديد حكام مصر على اختلاف عصورها تعاملوا مع الشعب على أنه قاصر، لا يعرف شيئا عن تقرير مصيره، وبالتالي وجد الشعب هذه الفكرة مريحة، وبدأ يعتاد عليها باحثا عن الحاكم، الإله ،الأب الذي سيصنع له كل شيء بينما يجلس هو مستكين.
* هل نتعرض كمصريين لما يسمى ب "الحرب النفسية" ؟ من أبجديات النرجسية المصرية أننا أذكى وأقوى وأشجع شعوب الأرض، وأننا سنقف لنبني قواعد المجد وحدنا، والحقيقة أنني لا أرى منطقا في أن نبني قواعد المجد وحدنا، لماذا لا نبنيها مع الآخرين؟ لكن نظرا لأن الشعب المصري يرى نفسه دائما بعين الإنصاف فهو الأذكى والأقوى وما إلى ذلك يرى أنه هدف يحاول الآخرون النيل منه، وهذا غير صحيح، فنحن شعب مثل أي شعب آخر، وقناعتنا بذلك هي نقطة انطلاقنا نحو البناء، وصحيح أن الصراع على المصالح شيء بديهي في العلاقات الدولية، إلا أن ذلك يوضح أننا لسنا وحدنا المستهدفين. * وما هي أكثر الأمراض النفسية انتشاراً والتي تتعرض لها في العيادة كل يوم؟ الاكتئاب و القلق، وتمثل نسبة من يعانون منهما في النساء ضعف الرجال، وبشكل عام من 60% إلى 70% من زوار العيادات النفسية من النساء، ومؤخراً ظهر نوع جديد من المرضى النفسيين وهم المتأزمون، إما عائليا أو نفسياً أو اجتماعيا أو اقتصاديا، أو سياسياً، فتجد من زوارنا أما لا تستطيع السيطرة على أبنائها، أو أزواجا تفاقمت مشكلاتهم حد التأزم، ومنها العلاقات خارج إطار الزواج لأحد الطرفين نتيجة تطور وسائل التواصل والاتصال، ووقوع الخيانة الزوجية، وهناك حالات التأزم الاقتصادي مثل أصحاب الشركات أو المصانع المتعثرة أو المغلقة، والتأزم السياسي نتيجة الهزات المتتابعة في الحياة السياسية مؤخرا وظهور أحزاب وتيارات وزوال أخرى، وهذا يعبر بشكل إيجابي عن ارتفاع في الثقافة التي أصبح معها المريض يتفاعل إيجابيا مع فكرة حاجته لطبيب نفسي دون أن يجد في ذلك حرجا.
* ما رأيك في مقاطع التنمية البشرية التي يتم تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي؟
أغلب البرامج التي يتم تطبيقها في مصر تعمل على عنصر التحفيز، كأن يقول له مدربه أنت تستطيع أن تحكم العالم، أنت بداخلك قوة هائلة، فقط بالإرادة تستطيع" ، والحقيقة أن كل هذا لا قيمة له بدون التمكين، و ذلك بتدريبه على ماذا يمكن أن يعمل؟ وهو الذي تستهدفه عملية التعليم القائم على إكساب المهارات لا المعلومات فحسب، وللأسف الشديد أن مثل هؤلاء يقومون بعمليات نصب على طلابهم لأنهم يحصلون عن طريقهم على مبالغ طائلة دون أن يكون هناك جدوى مما يقومون به.