هل يتزايد الإلحاد بين الشباب فى السنوات الأخيرة؟ وهل أصبح ظاهرة اجتماعية أم مجرد موجة عابرة؟ وهل يشكل خطرا على المعتقدات الدينية فى المجتمع؟ هل هو جديد على البشر أم أنه ظاهرة قديمة؟ هل الإلحاد نمط واحد أم عدة أنماط ومستويات؟ ما دوافع الإلحاد وبواعثه فى السنوات الأخيرة خصوصا بين الشباب فى الدول العربية؟ هل الإلحاد ظاهرة دينية أم رد فعل لمشكلات سياسية وعائلية ونفسية؟ هل هو حالة تمرد وعدوان على المجتمع؟ كيف تتعامل الأسرة مع ابنها الملحد (أو ابنتها)؟ ما علاقة الإلحاد بالحالة النفسية؟ ما علاقة الإلحاد بالأوضاع السياسية والمجتمعية؟ هل ثمة علاقة بين الإسلام السياسى والإلحاد؟ ما علاقة الإلحاد بتعثرات ثورات الربيع العربى؟ هل أسهم الخطاب الدينى فى السنوات الأخيرة فى تنامى ظاهرة الإلحاد؟ كل هذه أسئلة تحتاج إلى استقصاء وتستدعى بالضرورة مراجعة لكثير من جوانب حياتنا ليس فقط لاستعادة الشباب الذى اندفع نحو دائرة الإلحاد، وإنما لاستعادة حالة السواء للمجتمع الذى ضربت فيه أمراض وعلل كثيرة؟ لماذا ارتفعت معدلات الإلحاد بعد ثورات «الربيع العربى»؟ السبب الأكبر للإلحاد فى التاريخ هو الرغبة فى التخلص من القيود التى يفرضها الدين على الناس الإلحاد ظاهرة متكررة فى كل العصور والمجتمعات.. حتى فى وجود الأنبياء والرسل كان جرس الإنذار العام الماضى (2013) فى مقال افتتاحى فى صحيفة «الواشنطن بوست» يتحدث عن تنامى الإلحاد فى كثير من دول العالم بين الشباب، وأوردت الصحيفة حالات الإلحاد فى بعض الدول العربية والإسلامية مثل السعودية ومصر والعراق وتركيا وإيران، وتوالت الأخبار والتقارير، وظهر بعض الشباب الملحدين فى الإعلام يجاهرون بإلحادهم، وزادت مجموعات الملحدين ومواقعهم على الإنترنت مثل «رابطة الملحدين المصريين» و«رابطة الملحدين العرب» وغيرها، إضافة إلى تدوينات فردية عديدة تحكى خبرات شخصية لشباب الملحدين. والإلحاد ظاهرة متواترة فى كل العصور والمجتمعات البشرية حتى فى وجود الأنبياء والرسل، فالله قد منح الإنسان الاختيار الحر فى ما يخص معتقداته الدينية، ومنحه الإرادة الحرة فى اختيار طريق حياته وجعله مسؤولا عن كل ذلك. ومع هذا يلاحظ أن دائرة الإلحاد تتسع بشكل ملحوظ فى بيئات معينة وفى ظروف معينة، بما يعكس الحاجة إلى فهم الظروف التى تغذى الرغبة فى الإلحاد وكيفية تلافيها أو إصلاحها. والبعض يرى أن الإلحاد بدرجة معينة يعد فيروس مناعة (كالتطعيم فى الطب) يقوى حالة الإيمان ويوقظها ويصحح أخطاء المتدينين. أنماط ومستويات الإلحاد للإلحاد أنماط ومستويات متعددة، فمثلا هناك «الإلحاد المطلق» (إنكار الألوهية والربوبية وما يتفرع عنهما من رسل ورسالات)، و«الإلحاد الجزئى» (الاعتراف بوجود إله مع إنكار تصرفه وسيطرته على شؤون البشر، أى إنكار الربوبية)، و«اللا أدرية» (تأجيل الإيمان لعدم توافر الأدلة)، و«العدمية» (اليأس من عدالة الأرض والسماء والشعور باللا جدوى)، و«الإلحاد العابر» (فى مرحلة من مراحل العمر خصوصا المراهقة والشباب)، والإلحاد الباحث عن اليقين (الخروج من دائرة الإيمان والنظر فى الأمر بلا ثوابت أو مقدمات دينية ولتحقيق أكبر قدر من الموضوعية والعقلانية واليقين المحايد)، و«الإلحاد الكيدى الانتقامى» (الموجه ضد رمز أو رموز أو ممارسات دينية مكروهة أو مرفوضة أو مفروضة)، و«الإلحاد التمردى» (تمرد على السلطة أيا كان نوعها)، و«الإلحاد الابتزازى» (ابتزاز الأسرة أو المؤسسة الدينية أو المجتمع بهدف تحقيق مكاسب مادية أو معنوية)، و«الإلحاد الاستعراضى» (لجذب الانتباه وإثبات التميز)، و«الإلحاد الاستهزائى» (السخرية من المقدسات والثوابت ومن الكبار)، و«الإلحاد بالنمذجة» (التقليد لشخص أو أشخاص محبوبين). دوافع الإلحاد وبواعثه هى ليست بالضرورة دوافع أو بواعث دينية، بل من خلال التعامل مع أعداد كبيرة من الملحدين بشكل متعمق يتضح أن أغلب الحالات وراءها دوافع نفسية أو عائلية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو فلسفية أو فكرية. وعلى الرغم من أنه يبدو على السطح أنها مسألة دينية عقيدية فإن الأبعاد سالفة الذكر تكون كامنة ومحركة لسلوك صاحبها حتى دون أن يدرى، كأنه يختزل كل صراعاته ومعاناته ومشكلاته فى الشكل الدينى (أو اللا دينى) يحاول أن يحقق من خلاله توازنه النفسى، ولهذا يجب أن تدرس كل حالة إلحاد على حدة، ويتم التعامل معها على أنها حالة متفردة لها خصائصها المميزة من حيث النشأة والظروف البيئية والأحوال النفسية. ولهذا نجد أن كثيرا من حالات الإلحاد لدى الشباب لا يجدى معها الحوارات الدينية ولا يجدى تقديم الأدلة والحجج والبراهين، لأن الأصل فى المشكلة ليس دينيا، بل إن تقديم الحجج والبراهين الدينية من جانب بعض العلماء والوعاظ الذين لا يدركون عمق حالة الإلحاد قد يغرى الملحد بكثير من الجدال (الذى يتقنه جيدا) لا لشىء إلا لإثبات قدرته على إفحام محدثه وتحقيق انتصار على الرموز الدينية التى يكرهها وعلى المجتمع الذى يرفضه وعلى السلطة التى يتمرد عليها. ولعل أكبر سبب للإلحاد فى التاريخ البشرى هو الرغبة فى التخلص من القيود التى تفرضها الأديان على الناس، خصوصا الأشخاص الذين يكرهون أى قيود مهما كان مصدرها ومهما كانت درجتها، ويرغبون فى الانطلاق فى حياتهم بتوجيه عقولهم وخياراتهم الشخصية. ومن العوامل الدافعة إلى الإلحاد لدى المراهقين والشباب الهوة العميقة بين القيم المعلنة والقيم السائدة فى المجتمع، وهنا يشعر المراهق أو الشاب أن المجتمع الذى يعيش فيه مجتمع منافق يقول شيئا ويفعل شيئا آخر، يتغنى بالصدق ويكذب ليل نهار، يتحدث عن العفة والفضيلة فى العلن بينما يأتى أبشع المنكرات فى الخفاء، وهنا تسقط مصداقية المجتمع وتسقط مصداقية السلطة وعلماء الدين والآباء والكبار عموما، وأخيرا تسقط مصداقية الدين ذاته الذى يصله عبر هذه الرموز المرفوضة. وقبل أن يصل الشاب إلى مرحلة الإلحاد يعيش فترة يعانى فيها من الإحباط والغضب وفقدان المعنى فى كل ما حوله، ويعيش صراعا هائلا بين متناقضات عديدة فى حياته لا يجد لها مخرجا من وجهة نظره إلا إنكار كل الثوابت وتحطيمها، وعلى رأسها الدين، لكى ينطلق متحررا من كل القيود التى تسببت فى معاناته. وبعضهم يتوجه نحو الإلحاد بحثا عن الحرية والتحرر من كل القيود، فهو يرى أن المؤسسات الدينية والمجتمع يستخدمان الدين بشكل نفعى ويوظفان السلطة الروحية لسلب حريته. وقد يكون الإلحاد رد فعل عنيفا على حالات التطرف الدينى السائدة فى المجتمع، كأنه تحقيق لقانون التوازن فى الكون الذى تضبطه قاعدة: لكل فعل رد فعل مساو له فى القوة ومضاد له فى الاتجاه. وتزداد الرغبة فى الإلحاد كلما كان التدين السائد فى المجتمع ظاهريا أو انتهازيا أو نفعيا أو هروبيا أو تسلطيا. ويشجع على الإلحاد رؤية الدين كنوع من التفكير الخرافى الذى لا يثبت أمام المنطق والعقل النقدى، خصوصا حين يحاول الشخص أن يقيس الخبرة الدينية والمعتقدات الدينية بنفس مقاييس العلم التجريبى ولا يراعى الفارق بين هذا وذاك، واحتياج الخبرة الدينية لمنهجية مختلفة فى النظر والقياس نظرا لاختلاف المجال. وبعض علماء الدين تكون لديهم الرغبة فى إقحام الدين فى كل تفاصيل الحياة البشرية، وحجتهم فى ذلك أن الدين يدخل (أو يجب أن يدخل) فى كل شىء، لأنه منهج كامل متكامل لحياة البشر، وهذه كلمة حق يراد بها باطل، إذ تسمح للدعاة والمشايخ بأن يتسلطوا على حياة البشر ويتحكموا فيهم ويصبحوا أوصياء عليهم، ويبدو بقية الناس ضعفاء قاصرين جهلاء سفهاء لا يعرفون ما يصلحهم لذلك يلجؤون إلى وعاظهم ومشايخهم فى كل صغيرة وكبيرة، خوفا من الوقوع فى الخطأ والمحظور، وهنا تتضخم ذوات القادة الدينيين ويزداد تأثيرهم على العامة والخاصة، وتتسع دائرتا الحلال والحرام لتحتل كل مساحة النشاط البشرى، وتتضاءل أو تختفى دائرة المباح التى تمنح الإنسان حرية التفكير والتصرف فى شؤون دنياه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم حين سألوه عن تأبير النخيل «أنتم أعلم بشؤون دنياكم». وهذه التسلطية الدينية تدفع الشاب الراغب فى الحرية إلى أن يتخلص ليس فقط من سلطة القادة الدينيين بل من سلطة الدين نفسه الذى يتحدثون عنه. وبعض الملحدين يزعجه التدين الصراعى الذى يفرق البشر إلى مجموعات متصارعة، ويخلق حالة من العنصرية والاستعلاء والكراهية والإقصاء والنبذ بين أصحاب الديانات المختلفة، وأن الدين يتم توظيفه سياسيا وعسكريا وبالتالى يؤدى إلى صراعات وحروب تزهق فيها الأرواح باسم الإله، ومن هنا يتنكر هؤلاء للدين الذى يفرق بين البشر ويعتقدون أن الإلحاد هو الدين الإنسانى الذى يسمح بالتواصل مع كل البشر دون تفرقة ودون صراعات، لذلك أصبحت كلمة «Non Believer» مصدر فخر واعتزاز لدى كثير من الغربيين والشباب الملحدين، لأنها تعنى بالنسبة إليهم أنهم غير عنصريين وغير متعصبين وأنهم إنسانيون وأحرار. ويقول علماء النفس بأن الإلحاد هو عقيدة «اللا أب» (Faith of the Fatherless)، أى أن الملحد لديه مشكلة مع الأب الأرضى (والده أو والدته أو ما يعادلهما من السلطة الأبوية أو الأمومية)، وهو يعمم صراعه مع الأب الأرضى فى علاقته بالأب السماوى فيرفضه ويجحده ويجاهره بالعداء. إن الإحباط وخيبة الأمل من الأب (الأرضى) إما بسبب الغياب وإما سوء المعاملة وإما الموت، يؤدى إلى الكفر بالإله. وقد أوضحت دراسة حالات مشاهير الملحدين فى القرون الأربعة الماضية أن فرضية الأب المعيب Defective Father تمنح تفسيرا للإلحاد الحاد والعميق «Intense Athiesm» لدى هؤلاء الملحدين خصوصا المفكرين منهم. وللإلحاد فى التحليل النفسى جذور قوية، ففرويد نفسه كان ملحدا، وكان يرى أن الدين أفيون الشعوب، وأنه عصاب جماعى أقرب إلى الوسواس القهرى، وأنه وهم وصناعة بشرية (قتل بعض البشر فى بدايات التاريخ أباهم وشعروا بالذنب فعظموه وخلدوه وقدسوه واتخذوه إلها)، وأنه ينتمى فى نشأته إلى عقدة أوديب. ولا تخلو دوافع الإلحاد من الجانب الجنسى، حيث لوحظ تحرر الملحدين من كل التابوهات ومنها الجنسية والدخول فى علاقات لا يحكمها سوى الرضا والقبول والتوافق الشخصى بين الطرفين، وفى اعتقادهم أنهم حرموا أنفسهم من نعمة الجنس سنوات بناء على اعتبارات دينية وها هم بعد أن ألحدوا تحرروا من تلك القيود وعاشوا كما يريدون ويحبون، وهذا أمر شديد الجاذبية لدى المراهقين والشباب الذين تضغط على أعصابهم احتياجات جنسية يضع المجتمع أمامها عراقيل من العادات والتقاليد تمنع إشباعها لسنوات طويلة. ويرى علماء الاجتماع أن الإلحاد هو حالة من الخلع الاجتماعى، حيث يمر الإنسان بثلاث مراحل: المرحلة الأولى وهى «الاجتماعية العامة»، حيث ينتمى الشخص إلى عموم الناس وتكون فكرة الدين مقبولة لديهم ولديه، والمرحلة الثانية هى «الاجتماعية الخاصة»، وفيها ينتمى الشخص إلى «شلة» أو مجموعة خاصة تقبل أو تشكك أو ترفض الدين، والمرحلة الثالثة هى الخلع التام، حيث ينكفئ الشخص على ذاته ويتبنى قناعة شخصية ذاتية تماما ليس لها علاقة بالسياق الاجتماعى. ولوحظت موجات من الإلحاد فى العالم العربى إثر تعثرات ثورات الربيع العربى واختطافها أو إجهاضها بواسطة قوى يمينية أو يسارية أو سلطات عسكرية أو نظم قديمة فاسدة فى شكل جديد، وقد جعل هذا الشباب يكفرون بقيم الحرية والكرامة الإنسانية وإمكانية تغيير مجتمعاتهم إلى الأفضل، فهم قاموا بالثورات وقدموا شهداء ثم ضاعت جهودهم هباء، ومن هنا كفروا بكل شىء وتمردوا على كل شىء. ويرى خبراء السياسة أن موجات الإلحاد ليست كلها خيارات فردية تلقائية بريئة وإنما يكمن وراء بعضها تخطيط شبكى تدفعه بعض المنظمات والهيئات السرية والعلنية بهدف تحقيق مكاسب سياسية أو تغييرات فى الخريطة الاجتماعية لبعض الدول المستهدفة، ويستشهدون على ذلك بوجود روابط منظمة وشبكات عنكبوتية تجمع الملحدين فى أماكن كثيرة من العالم، أى أن الموضوع لا يخلو من قوى دفع تآمرية، خصوصا مع استخدام شعارات لبعض المجموعات تشبه شعارات الأناركية والماسونية. ومن المفيد لفهم هؤلاء الشباب تتبع كتاباتهم فى مواقعهم على الإنترنت ودراسة حالاتهم، وتكتمل الصورة بدراسة حالات العائدين من تجربة الإلحاد مثل الدكتور مصطفى محمود وغيره، حيث يصف الطريق ذهابا إلى الإلحاد وعودة منه.