شهور طويلة ظللت أبحث فيها عن عمل يعينني علي المعيشة حتي وإن كانت علي حدود الضنك وليس في القلب منه كما أنا الآن، ولكن دون جدوي، فلم تكن الصحف أو القنوات التليفزيونية الخاصة قد ظهرت بعد، فليس هناك سوي الصحف الحكومية التي لا يملك أحد من القائمين عليها تمكنه من الموافقة علي الاستعانة بأحد الموصومين بالمعارضة "المسجلين خطر لدي سلطات الأمن" حتي لا يضحي بمنصبه ثمنا لخطأ التعاطف معه، فأصبحت عالة علي بعض أصدقائي الذين كانوا يرأفون بحالي فيضعون بعض الأموال تحت باب شقتي تجنبا لشعوري بالحرج، أو الذين كانوا يتطوعون بتقديم بعض المنح المالية في صورة قرض مستحق السداد حين ميسرة. كانت هذه هي صيغة الاتفاق التي أقبل بمقتضاه إعانة بعض أصدقائي، وذات يوم وبينما أنا جالس مع بعض الزملاء من (حزب الجنينة) بنقابة الصحفيين حيث اعتاد العاطلون عن العمل أن يجلسوا معا أغلب الوقت، فإذا بأحدهم - أتذكر أنه المرحوم مجدي مهنا- يخبرني بأن جريدة المساء تحتاج لمحرر شئون أدبية وثقافية بعد أن انتقل محررها محمود فوزي إلي مجلة أكتوبر، فأصبح مكانه خاليا لمن يتقدم له بجريدة المساء، وبالفعل ذهبت لمقابلة سمير رجب وقدمت له نفسي علي أنني كنت المسئول عن النشر بسلسلة "اقرأ" الثقافية بدار المعارف كما كنت سكرتيرا لتحرير مجلة الثقافة مع يوسف السباعي ومجلة الكاتب مع صلاح عبدالصبور، وللحقيقة فقد رحب بي سمير رجب كثيرا، وأسند لي علي الفور الإشراف علي الصفحة الأدبية والثقافية وهي صفحة أسبوعية علي أن أتقاضي مكافأة شهرية مقدارها ثلاثمائة جنيه، لم يكن أمامي أي خيار سوي القبول بالمبلغ الذي بدا لي كبيرا رغم ضآلته نظرا لظروفي العسرة. وما إن شرعت في نشر الصفحة الأولي تصدرها حوار مهم أجريته مع نجيب محفوظ ومواجهة ثقافية أخري مع ثروت أباظة، حتي طلبني سمير رجب لمقابلته عاجلا، فذهبت إليه في مكتبه لأقف علي سبب استدعائه علي هذا النحو العاجل، بادرني سمير رجب بسؤاله (هل أنت بعثي)؟!.. قلت له: مستحيل أن أكون كذلك، فأنا ناصري ولكني غير منظم أو منضم لأي حزب، وأنت تعلم مدي الخلاف التاريخي بين الناصريين والبعث، ثم سألني هل أنت متزوج من سورية؟! فقلت له: وهل يعني ذلك أن أكون بعثيا بالضرورة؟ اذا كانت هي نفسها غير بعثية ولا تنتمي لأي من الأحزاب هنا أو هناك، ثم أنهي حديثه معي طالبا أن أحضر له موافقة كتابية من ضابط أمن الدولة المسئول عن الصحافة الرائد (وقتها واللواء فيما بعد) حمدي عبدالكريم لإتمام إجراءات تعييني بجريدة المساء، أدركت علي الفور أن أمن الدولة وقتها قد وجدها فرصة للمساومة أو المقايضة.. لقمة العيش مقابل الولاء والخضوع. ترددت كثيرا قبل أن أتخذ قراري بالذهاب إلي هناك، خاصة وأن علاقة شخصية بها قدر من المودة كانت تربطني بالرائد حمدي عبدالكريم، فقد كان الشقيق الأصغر للحاجة فاطمة عبدالكريم إحدي القيادات النسائية ورائدة التعليم عندنا بالإسماعيلية، وكانت تربطني بها علاقة احترام متبادل خاصة أنها - رحمها الله - كانت سيدة فاضلة وجادة تتمتع بروح المسامحة وسعة الأفق، قررت أن أذهب إليها أولا لأشكو لها شقيقها حمدي عبدالكريم الذي يريد أن يقايضني علي لقمة العيش، فاستنكرت الحاجة فاطمة أن يكون شقيقها بهذه الأخلاق مهما اقتضت ظروف عمله ذلك، وعلي الفور وجدتها تمسك بسماعة التليفون لتطلبه وما أن رد عليها حتي بادرته بدفعة شتائم من العيار الثقيل الذي كانت الحاجة فاطمة مشهورة بإطلاقها خاصة لمن تربطها بهم علاقة بها قدر لا بأس به من المودة والعشم.