ظاهرة فريدة جسدها لنا بروعة الكاتب يوسف إدريس في روايته الحرام , حيث لا يزال هناك في بطون الريف المنسية عمال تراحيل بالفعل بكل ما تحمله الكلمة من معان , حيث إنهم ليسوا مجرد عمال عاديين يفترشون أرصفة المدن وإنما نحن الآن أمام هذه الظاهرة في شكلها القديم . المكان عند مجاهل الجبل خلف مدينة إهناسيا التابعة لمحافظة بني سويف في منطقة تسمي اليافطة حيث يتجمع في صباح كل يوم آلاف من عمال التراحيل في مشهد إنساني مؤثر سعينا لنقل قدر من تفاصيله المتشابكة عبر سطور التحقيق التالي .. عم جابر محمود 66 سنة من قرية ميانا بمركز إهناسيا والذي لم تمنعه سنه الكبيرة من العمل مع التراحيل حيث يقول : يوميا نرحل من قريتنا ونركب العربية النقل وننحشر في بعض علشان نصل لسوق التراحيل من مطلع الفجر والشغل لا يعرف تعبا أو مرضا فلو قعدت يوما تضيع فرصتك في أكل العيش وعيالي كلهم خرجوا من المدرسة لأنه لا يوجد فلوس ولما نلقي نأكل الأول يبقي يتعلموا .. الحياة صعبة جدا ولولا الجبل والشغل كنا متنا وبلادنا فقيرة وأغلبنا لا يحتكم علي أرض ولو فتشت القرية كلها أو عمال التراحيل كلهم ربما لا تجد جنيها واحدا في جيب كل واحد منهم والحياة لم تتغير عن زمان فالفقر ما زال معششا داخل جيوب وبيوت الناس والذي اختلف عن زمان هو أننا كنا نعمل في تراحيل الطين يعني وسط القرية أو من قرية لقرية ولكن دلوقتي أصبحنا نرحل للجبل والصحراء . قصة إنسانية أخري ننقلها لكم علي لسان صاحبها معوض عبدالفتاح 76 سنة وهو رجل مسن جدا ومع ذلك حضر ليعمل ويقول : أنا جاي أشتغل هنا في الجبل من مركز إهناسيا في سني ده يبقي ظلم ولا عدل؟ ظلم طبعا .. أنا كنت موظفا في مسجد واتركنت وكان معاشي 250 جنيها ودي فلوس يأكلوا بها حلاوة أولاد الناس المرتاحين , وبناتي باروا وفاتهن سن الزواج , لأنه لا يوجد فلوس ومن يرضي أن يتقدم لواحدة من بناتي وأنا عامل ترحيلة علي باب الله . عالم الحريم في سوق التراحيل ذو طبيعة خاصة جدا حيث يرتدي أغلبهن ما يسمي البيشة وهي أشبه بالنقاب الإسلامي ولكنه ليس نقابا حيث لا يرتدينه لأغراض دينية وإنما من أجل الحفاظ علي بشرتهن من البرد حفاظا علي ما تبقي فيهن من أنوثة قتلها الفقر هذا ما عرفناه من وصيفة عبدالحميد (22 سنة ) والتي قالت لنا : أحيانا نلبس النقاب علشان الكسوف وأحيانا حتي نحافظ علي وشوشنا لعل وعسي حد يتقدم لنا فيلاقي فينا اللي يشجعه علي الزواج , أيضا النقاب مهم علشان نتخفي لأن الشغل في الجبل عيب للبنات لكننا لازم نسعي علي أكل عيشنا لأن وراءنا كوم لحم في البيت وأهلنا اعتمدوا علينا فلازم نكون رجالة ونسد وكمان الواحدة منا لازم تصرف علي نفسها وتجهز طلبات الزواج . الست في الترحيلة فعلا بمائة رجل فمع كل الحالات التي قابلناها أكدت لنا أنهن يقمن برعاية أسرهن محل أزواجهن الذين إما يكونون مرضي أو موتي حيث تقول وهيبة أحمد محمود حمد (34 سنة ) من البهسمون : أنا زوجي متوفي من 13 سنة وكانوا قد كتبوا كتابي علي واحد تاني ولكن زواجي لم يتم وحصلت علي ورقة الطلاق وأسرتي فقيرة فكان لازم أصرف علي أولادي اليتامي فخرجت للجبل حتي أربي عيالي ومعاش زوجي لم أحصل عليه ولا أحتكم علي أي شيء غير فضل ربنا ووالدي رجل فقير لا يحتكم علي زرع ولا قلع .. والحياة صعبة معايا .. وطبعا أهل البلد ينظرون لنا كستات من تحت لتحت وبسبب خروجنا للجبل لكن أعمل إيه .. نقول يارب . أما عن الأجرة اليومية فيقول علي عبدالله من قرية البهسمون بإهناسيا : الأجرة تبدأ من 20 جنيها وتصل ل 30 جنيها طوال اليوم وممكن يوم نشتغل ويومين نرجع لبيوتنا من غير شغل وأنا واحد من الناس كنت هنا من الفجر إمبارح ولم أجد شغلا طيب مافيش فلوس نعمل إيه؟ ويحكي عم أحمد خميس عن أسلوب عمل حياة التراحيل قائلا : صاحب الأرض يحضر بالعربية النقل صباحا ويقف ويقول يا جماعة أنا عايز 10 عمال فيتدافع علي العربية 100 واللي عنده صحة وسرعة هو اللي يلحق , وطبعا الشغل يستمر في الأرض طوال اليوم لحد الليل ما يليل والأجرة ثابتة 30 جنيها بس , وطبعا الأكل عبارة عن رغيفين وقرص طعمية وحتة جبنة وكوباية شاي . أزمة الحياة أحيانا تدفع الأسرة كلها للخروج كعمال تراحيل حيث يرحل الزوج وزوجته وأطفاله جميعا لمكان التجمع طلبا للرزق حيث يقول حامد حسين (34 سنة ): أنا وزوجتي نحضر يوميا وأحيانا نركب مع بعض في عربية نقل أو مقطورة واحدة وأحيانا نتفرق يعني هي تروح لأرض وأنا أروح لأرض مختلفة , ثم نتقابل في البيت في آخر النهار . عمالة الأطفال ظاهرة موجودة بلا شك بين تراحيل الجبل فعندما يبلغ الطفل 10 سنوات وربما أقل يدفعه أهله للرحيل وسط الكبار وبعضهم يتعرض لأمراض عديدة في الصدر والمفاصل من العمل وسط البرد القارس الذي لا تتحمله أجسامهم النحيلة والهزيلة من سوء التغذية .. دردشنا مع الطفل أحمد محمد (10 سنوات ) من قرية ميانة حيث قال لنا : أنا خرجت من المدرسة علشان أشتغل زي أبويا .. كل يوم أصحي الصبح بدري من النجمة بتاعة ربنا يعني والناس بتصلي الفجر علشان أروح الجبل وأجرتي في اليوم 10 جنيهات أعطيها لأبويا علشان نصرف علي البيت ومش كل يوم أشتغل علشان صاحب الأرض بيحب البنات أكتر من الصبيان .