منذ أربعة أيام فقط قبل نجاح ممدانى كنت فى وسط نيويورك بالقرب من ميدان تايم الشهير وخسارة أننى لم أستمر أربعة أيام أخرى لأقوم بدور الصحفى للمصرى اليوم ووصف الحدث وتصويره فور حدوثه. لم يكن فوز ممدانى بمنصب عمدة نيويورك مفاجأة، فخلال الأسابيع العشرة الماضية كانت جميع وسائل الاستطلاع تضعه فى المقدمة بفارق كبير، وبالرغم من ذلك، وفى الظروف العادية كان الجميع سوف يعتبرون نجاحه أمرًا مستحيلًا. ولكن كل المحبين لأفكار ممدانى وآرائه كان عندهم قلق شديد. فى البداية لم يتوقع أحد من المحبين له أن يفوز ضد تكتل كل مليونيرات نيويورك الذين أنشأوا صندوقًا به مئات الملايين من الدولارات بغرض واحد وهو إسقاط ممدانى فى الانتخابات، وحين أعلن ترامب أن ممدانى ليس اشتراكيا ديمقراطيا على غرار الدول الاسكندنافية وإنما هو شيوعى رسمى وأنه ضده وأنه لن يتركه، تصور الكثيرون أن هذه المدينة التى بها نسبة ضخمة من اليهود ومن الأغنياء ومن يعملون معهم فلن يحدث ذلك. وفى الخلفية الذهنية لشعوب العالم الثالث أن مثل هذه الشخصيات الكاريزمية التى لها آراء مخالفة تمامًا للحكام وتنتقدهم علانية ليس لها مكان ولا نجاح فى أى انتخابات. فتحت الكمبيوتر على صفحة النيويورك تايمز فى الثالثة صباحًا وهو أمر مستحيل أن يقوم أحد من نومه فى الفجر ليعرف نتيجة انتخابات عمدة فى بلد آخر. ولكنى كنت أود أن أعرف ماذا حدث لممدانى. هل من المعقول أن يفوز على كل بليونيرات نيويورك ونفوذ ترامب، فوجدت نتيجة حاكم نيوجرسى وعدد من كبار المناصب المنتخبة تعلن وكلها لصالح الحزب الديمقراطى ثم ظهرت نتيجة بنسلفانيا وفى الرابعة صباحًا ظهرت النتائج الأولى لانتخابات عمدة نيويورك وكانت تشير بوضوح إلى تقدم ممدانى وأوضحت الخريطة أن شمال شرق مانهاتن وجزيرة ستاتن وهما أكثر الأماكن ثراءً قد صوتوا لمنافسه. لماذا هذه الفرحة العارمة التى عمت بلاد العالم الثالث ومن ضمنها مصر بنجاح ممدانى؟ أنا شخصيًا مازلت فى دور لخبطة النوم منذ العودة من أمريكا، فحين استيقظت فى الثالثة صباحًا فوجئت بعشرات الرسائل تهنئنى بفوز ممدانى وكأنه صديقى أو أننى أعلنت تأييدى له. كل ما فى الأمر أن هناك الآلاف وربما الملايين كانوا سعداء بنجاحه فى الانتخابات. حاولت أن أفكر فى الأسباب ووجدت أولها أنه واحد حقانى وعادل وقال رأيه بصراحة فى مشكلة الشرق الأوسط ومعروف أنها كلفته أصواتًا، وهو شىء لم نره أو نسمع عنه من قبل. وأمر ثان هو أنه واحد شبهنا وزينا، الموضوع ليس له علاقة بالدين، هو شبهنا كمصريين مسلمين أو مسيحيين وبيتكلم زينا. ولد لعائلة مهاجرة فى كمبالا وهاجر إلى جنوب أفريقيا وعمره 5 سنوات ووصل الولاياتالمتحدة وعمره 7 سنوات، فهو أمريكي بالكامل ولكنه يحمل جينات وثقافات عريقة وأهم منها أخلاق عظيمة. وثالثًا أن أصله هندى ويحب نهرو جدًا ويكره مودى الرئيس الحالى جدًا، ووجدت نفسى مثله تمامًا، نهرو أحد مثلى العليا ومودى عنصرى مزعج. ممدانى عنده خطة لمحاولة السيطرة على أسعار الإيجارات فى مدينة نيويورك وإعادة النظام والأمن للمدينة التى انتظمت أحوالها فى نظر الزوار منذ سنوات وإن كانت المشاكل مريعة فى نظر السكان. حين يقارن أهل العالم الثالث المرشحين فى المراكز الكبيرة كمحافظ أو عضو مجلس نواب من حيث الصدق والأمانة سيجدون أن الفروق بين مرشحيهم وبين ممدانى كالفرق بين السماء والأرض فى الخلق والأمانة. سكان نيويورك من اليهود عددهم أكثر من سكان إسرائيل، والمعروف أن نيويورك مدينة منحازة لإسرائيل والصهيونية بشدة وعنف. ماذا حدث إذًا؟ بالتأكيد صوتت أعداد من اليهود لصالح ممدانى. هل بدأ اليهود فى نيويورك يفرقون بين ما هو يهودى وما هو صهيونى؟ أم ماذا حدث بدقة؟ كل هذه الأمور والدعايات والضغوط والإغراءات لماذا لم تنجح فى إقناع الآلاف بعدم التصويت لممدانى؟ هل عنده كل هذه الكاريزما التى تقف أمام كل هذه الإغراءات؟ هل الناس عندها اقتناع أن انتخابه كعمدة سوف يحسن أحوالهم المعيشية؟ وأن هذا منصب محلى ليس له علاقة بالسياسة العامة؟ أم أن هناك تغييرا حقيقيا حدث فى قلوب وعقول مجموعات من الأمريكان جعلتهم يتطورون وينظرون بعين أكثر صفاءً وقلوب أكثر عدالة ليقرروا أين الحق وما هى الإنسانية. أن يقف مرشح فى نيويورك ليقول أنا مسلم هذا أمر غريب فى مدينة يعرف جيدًا أن الناخبين المسلمين فيها أقلية بسيطة، ومنذ تفجير أبراج نيويورك هناك مشكلة معهم، ومع ذلك لم تؤثر على دعايته. هل هى الشخصية الكاريزمية التى يشع الصدق من عينيها أمام الكذب الذى يشع من عيون المنافسين؟ لا أعلم. بالتأكيد هناك شىء غامض أو أن هناك تغييرًا حقيقيًا حدث. ربما تكون تصرفات الرئيس الأمريكى هى السبب فى حدوث التغيير واللجوء للشاطئ الآخر أو حتى منتصف النهر. ربما كان كلام الرئيس عمومًا أو كلامه الشخصى عن ممدانى من عوامل الإعجاب به. الصدق والمحافظة على المبادئ شىء إنسانى رائع يجذب إليك البشر. منذ بدأ ممدانى كلامه فى السياسة لم يداعب أحدا حتى ينال تأييده ولم يغير كلمته أنه ديمقراطى اجتماعى (وهى ترجمة لكلمة socialist) بالمفهوم العصرى. لم يحاول أن يقترب من كبار رجال الأعمال سياسيًا، هو لم يهاجمهم. وعندما سئل هل سوف تزور إسرائيل قال سوف أزور كل دول العالم التى تحترم القوانين والمواثيق الدولية والحقوق الإنسانية العالمية. لو كان ممدانى تحدث بلغة المرشحين السياسيين عمومًا الذين يسعون إلى اكتساب الأصوات من كل الجهات لخسر الأصوات وخسر نفسه. هو أعلن أكثر من مرة أنه مسلم إنما لم يتكلم عن الحرام والحلال ولا نلبس إيه ولا نأكل ايه. هو فنان ومؤلف موسيقى شريك فى فرقة موسيقية، وأخيرًا نجح بتأييد البسطاء وجاء لتأييده سيناتور محترم هو برنى ساندرز لأنه قدر قيمته. أخاف على ممدانى جدًا من الإجرام والاغتيالات لأنه قام بتغيير القيم والقواعد والنظم وهذا شىء خطير لأن التاريخ علمنا أن أصحاب المبادئ الواضحين والصرحاء ماتوا شهداء كما مات الحسين ومات مار جرجس. وربنا يحميه من الأشرار. قوم يا مصرى مصر دايمًا بتناديك