تعتبر عمالة الأطفال بصورها البشعة من أسوأ أنواع التجارة بالبشر .. و أكدت دراسة حديثة صادرة عن المركز القومى للأمومة والطفولة بالتعاون مع جهاز التعبئة والإحصاء أن عمالة الأطفال بلغت فى مصر حوالى 2,8 مليون طفل دون سن 12 عاماً يتم استغلالهم الأطفال فى العمل القسرى فى الورش والمحاجر .. تصوير : محمود شعبان وأرجعت الدراسة هذه المشكلة إلى ارتفاع نسبة الفقر فى مصر ولجوء الأسر إلى الاعتماد على الأطفال فى تحسين مستوى دخلها وفى الإنفاق على البيت فى ظل مرض الوالد أو موته أو فى ظل ضآلة دخله وهنا يدفع الأطفال الثمن ، وقد سعينا لتقصى هذه الظاهرة التى لن تنتهى مهما حاولت الأجهزة المعنية للحد منها .. فلا تزال الحياة الفقيرة فى القرى تدفع الأطفال لتحمل المسئولية مبكراً ففى أثناء جولتنا فى قرى الظهير الصحراوى لمحافظات المنيا وبنى سويف والفيوم وجدنا الظاهرة على أشدها .. حيث يترك آلاف الأطفال المدارس فى سن مبكرة ويتجهون للعمل فى الحقول أو فى المناطق الجبلية المحيطة بالقرى التى يسكنون فيها .. هذه المناطق الفقيرة للأسف لا يصلها وعى ولا دعاية ولا منظمات أهلية ولذلك يزداد حجم المشكلة .. ملامح الأطفال تدعو للكآبة .. فالهموم ضاعفت أعمارهم فى ظل الفقر الشديد الذى تعانيه أسرهم ، وقد زرنا قرى تابعة لمراكز سمسطا وببا والفشن وإهناسيا والفشن فى بنى سويف وقرى تابعة للعدوة فى المنيا وقرى تابعة لمركز إطسا فى الفيوم .. والظاهرة تكررت بنفس الشكل ، الطفل محمد عبد المحسن(12 سنة) من قرية عزبة الصعايدة مركز سمسطا يقول " أبويا راجل فقير ومفيش عندنا أرض وما فيش فلوس فى بيتنا ... أبويا قالى يا محمد إطلع اشتغل وسيب المدرسة .... وبعدين كل يوم أستنى الخولى بتاع الأرض علشان يا خدنى أشتغل ، والأجرة 10 جنيهات .. وأفضل أشتغل لغاية قرب صلاة العصر وبعدين أروح.. اتفرج على التليفزيون وممكن أشتغل فى الحجارة او اطلع الجبل أشتغل فى أى صنعة " سألت محمد طيب ليه تركت المدرسة فقال" الأستاذ كان كل يوم يضايقنى علشان هدومى شكلها مش حلو ويقول لى دى أشكال جاية تتعلم وكما كان عايزنى آخذ عنده مجموعة ( درس خصوصى) بس أنا ماكانش معايا فلوس واتعقدت من التعليم وقلت أشتغل فى الغيط وأول ما أكبر ها سافر وأجيب فلوس كتير.." الطفل حسن جابر ( 11 سنة) من قرية ميانة التابعة لإهناسيا وجدناه شاحب الوجه هزيل الجسم فرغم صغر سنه وجد نفسه أمام مأزق كبير حيث توفى والده العام الماضى وهو أكبر أخواته .. ولذلك دفعته الظروفه للعمل الشاق الذى لا يتناسب مع قدراته البدنية على الإطلاق ، حسن ترك المدرسة ليقتحم مدرسة الحياة مبكراً جداً فلا مشاعر الطفولة تجدها فى كلامه ولا ملامح البراءة تتلمسها على وجهه الذى سادته التشققات من العمل فى البرد والصقيع .. حاولت أتكلم معه فلم أجد فى عقله قدرة على الحديث ربما من معاناته النفسية ولكنه اكتفى بأن يقول لى" صورنى وهات الصورة عشان أمى تشوفها وأنا طالع أشتغل" عرفت من حسن أيضاً قصة غريبة جداً حكاها لى وأكدها عدد من أصدقاءه الكبار طبعاً حيث عرفت منه أن الشغل فى الجبل يحتاج البنات وأنه قعد فترة طويلة دون عمل ، فأرتدى جلابية بناتى ووضع منديل على رأسه حتى يقنع صاحب الأرض أنه لازم يشتغل وإلا أهله ممكن يموتوا من الجوع فعرف صاحب الشغل الحكاية وصار صديقاً له ولأسرته فلا يرد له طلباً للشغل بل يوفر له العمل فى حقول أخرى! . الكارثة الأخرى أن عدد كبير من هؤلاء الأطفال يتعرضون للانحراف .. البداية بالسجائر ثم يصل به الحال إلى إدمان البانجو لغياب الوعى والقيم ، والصور التى أمامكم لا تكذب. تحدثنا مع رجل كبير من قرية تابعة لمركز سمسطا عن عمالة الأطفال فى هذه القرى وهو عم محمود عبد العظيم البالغ من العمر نحو 72 عاماً فقال " كل عيل ييجى للدنيا وفى إيده الرزق بتاعه اللى ربنا كتبه له .. والعيل لازم يساعد والديه مادام عنده الهمة والعزم على الشغل وبعدين العيل لما يشتغل بدرى يعرف معنى الدنيا ويشيل المسئولية فيطلع راجل من يومه ، والعلام مش للفقراء العدمانين أمثالنا ، ده إحنا بنكمل عشاءنا نوم ، وبعدين العلام بقى بفلوس ودروس خصوصية وتقوية واللى زاد وغطى إن مفيش شغل فى الحكومة ..يعنى الحكاية خسرانة يبقى العيل يطلع يشتغل أحسن ولا لأ.. أهو يجيب مصروفه ويجهز نفسه وكمان يصرف على أمه وأخواته وإذا قدر يتعلم من شقاه يبقى يتعلم ! . كلام عم محمود للأسف ينقل الحقيقة المرة فى هذه المناطق التى لا يصلها أى اهتمام أو وعى من الحكومة .. مع العلم أن هذه المشكلة تزداد مع الوقت وتهدم الكثير من الجهود التى تقوم بها الدولة فى مجال التعليم ومحو الأمية لأن عمالة الأطفال للأسف أصبحت تقترن بالخروج من التعليم بعد أن كان السائد فى الماضى أن الطفل يشتغل ويتعلم ، لذلك نحن ندعو الجهات المعنية التى حصرت عمالة الأطفال فقط فى الورش والمحاجر لزيارة مثل هذه المناطق المنسية التى تحولت لمستعمرات لعمالة " أو تجارة " الأطفال فى جميع المجالات للتحقيق فى هذه المشكلة وتوعية الناس بخطورتها .