في كتابه » خلود المحبة« الصادر حديثًا عن الهيئة العامة للكتاب، يكتب سمير غريب عن أشخاص أحبهم، وعن أماكن وأحداث أحبها، وكانت المحبة هي الرابط الوحيد في كتاباته هذه. هنا استعاد غريب وجوهًا أحبها، رحلت أو ما زالت علي قيد الحياة، استمتع بها وتعلم منها. كما راجع هنا كتبًا قرأها وتأثر بها، واسترجع تجارب وأحداثًا عاشها في حياته، ومدنًا أحبها.غريب الذي عاش عمره كله يحب، محاولًا ألا يكره، كتب عن أحباب آخرين وكتب وأماكن أخري في كتب أخري أيضًا.هنا أيضًا، ورغم أنه لا يدعي أنه شاعر أو قاص، ينشر غريب قصتين قصيرتين، ونصين شاعريين. هذا الكتاب يحمل عنوان نص كتبه غريب بعد وفاة زوجته، التي لم يستطع أن يعبر عن أثر رحيلها فيه إلا بعد مضي ثلاث سنوات. غريب يري أنه يمكن اعتبار كتابه هذا نتفًا من سيرة ذاتية ومدخلًا وثائقيًّا بما فيه من معلومات وصور فوتوغرافية وصور لخطابات شخصية تنشر للمرة الأولي.المهم، يؤكد غريب، أن كل نصوص هذا الكتاب تعبر عن محبته لأشخاصها وأماكنها، وهل هناك أجمل وأنقي من المحبة؟ وهل هناك أكثر خلودًا من المحبة؟ كما يتساءل. في رسالته التي وجهها الكاتب لزوجته بعد رحيلها يقول: «أحاول الحياة منذ رحيلك بدون قُبلة منك. فلقد ازدادت الحياة شراسة من بعدك.وكأنهم كانوا ينتظرون رحيلك لينفردوا بي». انتهي الأدب الأناني في معرض حديثه عن حبه لجلال الدين الحمامصي، يقول غريب إن السنوات الأولي من عقد السبعينيات كانت تموج بالحركة والنشاط السياسي داخل الجامعات المصرية، خاصة جامعة القاهرة، وكانوا يخرجون في مظاهرات تطالب السادات بالحرب مع إسرائيل، وكانت الجماعات والاتحادات الطلابية نشطة وفعالة، وليست كما نراها اليوم تكاد لا يكون لها وجود. هنا أيضًا يقول غريب إن الوجوديين ينظرون إلي الإنسان باعتباره مشروعًا لا يكتمل إلا بموت صاحبه، وبين لحظة الميلاد ولحظة الوفاة يمكن لهذا المشروع أن يتخذ مسارات عدة، وهذا ما حاول الكاتب أن يتلمسه في حالة المفكر والكاتب لويس عوض الذي كانت حياته مليئة بالمواقف التي يختلط فيها العام بالخاص.هنا يورد غريب ما قاله لويس عوض عقب لقائه بسلامة موسي إذ يقول إنه بقدر ما وجد طه حسين مهيبًا وعباس العقاد شامخًا، وجد سلامة موسي متواضعًا، وقد كان موسي غزير العلم في غير تكلف، ولم تكن هيئته تدل علي شيء، إلا أنه حين يبدأ في الكلام حتي يتدفق علمه الموسوعي ويتجلي ذكاؤه الحاد كالنصل القاطع.هنا أيضًا يذكر غريب ما قاله لويس عوض وأسهم في تقدم الأدب والفكر العربي الحديث: «انتهي الأدب الأناني..انتهي الأدب الذي يعبد نفسه ويزعم للناس أنه يعبد فنه. وإذا لم يكن قد انتهي فسوف نعمل علي إنهائه. فنحن علي أعتاب عصر جديد ونحن نكتب الأدب في سبيل الحياة الجديدة». ونقرأ هنا كذلك ما يقوله عوض من أن الأدب ليس وسيلة ولا ينبغي أن يكون وسيلة، والأديب لا ينشئ أدبه لتحقيق هذا الغرض أو ذاك، الأديب لا يستطيع إلا أن يكتب.. كالزهرة التي لا تملك إلا أن تنشر العطر أو النحلة التي لا تُسأل لماذا تنتج العسل. ومما يراه غريب كذلك أنه في الأيام الصعبة يتشبث الإنسان بمن يحب تشبثَ من يتعرض للغرق بقطعة من الخشب، وفي هذه الأيام الصعبة يصبح كل إنسان شريف ومحترم عملة نادرة، ثروة يجب الحفاظ عليها، خاصة وأن الأطفال لم يعودوا يتعلمون المبادئ، وكثير من الشباب لا يجدون نماذج مجسدة لها، ولا تتيح ظروف الحياة فرصة متسعة لممارستها. غريب، متحدثًا عن سمير سرحان ومرضه الذي رحل إثره، يقول إنه لا يريد أن يُعد قائمة مفتوحة لمن سقط مريضًا أو مات، لكنه يدعو هنا للتآزر والتعاضد لحماية أنفسنا ومبدعينا المحترمين من غوائل الحال التي تعني بشرًا وظروفًا وأقدارًا. أما حين يتحدث عن الفنان جورج حنين فيقول إنه قام بدور مزدوج، شديد الأهمية في تاريخ الإبداع المصري الحديث، إذ فتح فيه عالمًا جديدًا من الأفكار والتصورات، والأساليب ذات الوهج الثوري والحالم في آن، ومن جهة أخري أدخل هذا الإبداع في أتون حركة الفن العالمية بما جعله جزءًا منها، وجعل مبدعين مصريين متميزين معروفين في أوروبا. أين النقاد؟ وإذا كان غريب يري أن خطأ جورج حنين أنه لم يكتب بالعربية، وهو المصري أبًا عن جد، فإن خطأنا أننا لم نترجم كل ما كتبه إيميه آزار إلي العربية، مضيفًا أننا عادة ما نهتم بالفنانين ولا نهتم بنقادهم، نهتم بالفن ولا نهتم بمؤرخيه، مع أن النقاد والمؤرخين لازمان لازدهار الفن وتطور الفنان، لكن أين النقاد اليوم وأين المؤرخون؟ وفي عرضه لمحبته للدكتور أحمد مستجير يقول غريب إن موت الكبار خسارة، لكن الخسارة الأكبر هي عدم تعويضهم بأمثالهم أو بأحسن منهم، ذاكرًا أن مستجير يثبت أهمية التربية والموهبة في حياة الإنسان، وقد ظل وفيًّا لكل السمات الطيبة للفلاح المصري الأصيل، ومات علي أخلاق الفلاح ذاته. هنا يكتب سمير غريب، ناثرًا محبته ومخبرًا بها الجميع، عن جمال بكري، علي الشلقاني، محمد سيد أحمد، محمد عفيفي مطر، صلاح مرعي، إبراهيم أصلان، فؤاد رياض وغيرهم.كما يكتب عن ثورة 23 يوليو، عن العيد الذي كان في منفلوط، وعن الموت المبكر، وعن يوميات رحلة فرنسا، وعن شمس اليسار وغيرها من موضوعات.هنا يعلن غريب عن حبه لمدينة باريس التي قضي فيها سنواته الذهبية من سن الخامسة والعشرين حتي الثلاثين، وأنجب فيها ابنته الوحيدة وكتب فيها كتابيه الأوليْن «السريالية في مصر» و «راية الخيال» وهي الدرس الأول المعماري، والمهم في الطابع المعماري ليس الشكل الخارجي فقط، بل علاقة المبني بمحيطه وعلاقته بالزمن، وقدرته علي مقاومة المتغيرات البيئية، وعلاقة المبني مع الزمن تحوي في طياتها معاني وأخبارًا عن ماض ولي وحاضر معيش.