انتقدت كلمة «مستجير» فى أغنية ل «خالتى» أم كلثوم فقالت لى: اتلهى يا نهى المستجير بالله رويت بصوتى فيلم كوكب الشرق الذى أنتجه ابن شقيق ميتران قصة عنتر وجوليت تعكس الفرق بين أهل بولاق وأهل الزمالك أحترم رجاء النقاش .. لكن وصفه لغضب عبد الناصر من أبى مبالغ فيه. صباح الخير استاذة نهى صباح الخير أستاذ ..... آسف.. مر ت سنتان بعد آخر اتصال .. ولا يهمك أعرف جيدا ترس الصحافة المشغول باستمرار بإذن الله يوم 9 ديسمبر ذكرى.. فقاطعتني عارفة ذكرى أبويا الأديب الكبير يحيى حقى.. أليس لى حق عليك كإعلامية ، وكاتبة وأديبة أيضا لدى تجربة فنية وأدبية ، لماذا يضع الناس فوق رأسى دائما شمسية أبويا ولا تتصلوا بى إلا فى ذكراه خجلت ولم أعرف بماذا أرد أعرف والله عندك حق... تجربتك كإعلامية وصاحبة برنامج وخبرة وكاتبة وصديقة وقريبة كوكب الشرق أم كلثوم وقبل كل ذلك أعرف أنك لا تسرفين فى الحديث للإعلام.. والله أتصل بك لأعرف آخر كتاباتك وإبداعاتك لكن المناسبة فرضت نفسها. فقالت: شكرا إذا كان كده سأخصك بجولة حصرية عبر مقالات مطوية من تراث يحيى حقى وهو آخر كتبى تحت الإعداد .. لكنها .. قاطعتها ضاحكا: تااانى شمسية يحيى حقى؟ ضحكت وقالت: سندخل إلى عالم يحيى حقى من باب أم كلثوم .. واتفقنا أن يكون لقاؤنا فى اليوم التالى. ...................................... وفور وصولها إلى الأهرام فى الموعد المحدد بادرتها: ما هى حكايتك مع أم كلثوم؟ أجابت نهى حقى: أقول لأم كلثوم ياخالتى لأنها كانت بنت خالة أمى، انتقدت أم كلثوم فى مجدها ، ففى أواخر أيامها ذهبت لزيارتها، فقالت : أنت تعرفى يا نهى ثقتى بك وأريد رأيك فى هذه القصيدة التى أنوى غناءها بعد شفائى.وراحت نهى حقى تتذكر ما قالته لها أم كلثوم وطريقة القائها ابيات القصيدة ربما كانت للشاعر عبد الوهاب محمد بصوتها العميق الذى يجيد احترام مخارج الألفاظ : مستجير الحب منك / من عمايلك مستجير ياللى باسم الحب قلبك / خان وغدر ناس كتير مش حرام الشوق ياظالم / لما يتدارى ف حرير ياما نفسى تروح وتسأل ع اللى قلبك جار عليهم يا ما نفسى تروح وتعرف عاملة ايه الدنيا فيهم مستجير الحب منك / من عمايلك مستجير وبعد أن سمعت هذه الكلمات تضيف نهى حقى قلت لأم كلثوم مش شايفة يا ست إن كلمة مستجير دى صعبة فردت أم كلثوم : اتلهى يانهى.. المستجير بالله! فحكيت لأبى وقلت له أخشى أن تكون الست أم كلثوم زعلت منى ، فقال أبدا الناس الكبار يسعون إلى معرفة آراء الآخرين وخاصة الشباب وقد حدث لى نفس الموقف وكنت شابا مرافقا لعمى الأديب طاهر بك حقى فى مجلس أمير الشعراء أحمد شوقى عندما ألقى علينا فى مجلسه ألأسبوعى قصيدة فاستحسنها كل الحاضرين فوقفت وقلت له رأى فى بعض كلماتها فوكزنى عمى قائلا: عيب يا يحيى أنت فى حضرة أمير الشعراء فقال له شوقى : اتركه يا طاهر بك أنا أريد أن أسمع رأى هذا الجيل ثم إن ملاحظة ولدنا يحيى ذكية وتنبئ عن مستقبل واعد ينتظر هذا الشاب .. قلت لها: وقد كان، وصار هذا الشاب كاتبا عظيما ترك تراثا أدبيا مميزا ، وهذا بالضبط مافعله يحيى حقى مع الشباب فقد ساعدهم دون ضيق أو ضجر وأعطاهم الكثير من وقته وسعة صدره لآرائهم سواء وهو رئيس لمصلحة الفنون أو هو رئيس تحرير مجلة «المجلة», وقدم كتاباتهم بمقدمات تفيض بالحنان، شأن كل عاشق لمصر وعروبتها وثقافتها ولغتها كما فعلت معك أم كلثوم. تقول نهى يحيى: أم كلثوم ستبقى دائما رمزا للوطنية سألوها مرة عند زيارتها لباريس عما أعجبها فى مدينة النور ، فقالت لهم : المسلة المصرية، فضحكوا ثم كرروا السؤال فكررت أم كلثوم الإجابة وهى تريد أن تلفت انظار العالم إلى قيمة مصر وكل قطعة منها تدعو للفخر وكأنها ترد على الفتاة التى اشمأزت من مياه النيل ، وأن مايزين باريس هو أثر مسروق من مصر! ونهى حقى تعتز بكوكب الشرق كما تعتز بمعرفتها بالفنان فريد الأطرش (فقد كان يسكن معنا فى البيت وكنت صغيرة فى الابتدائى ويداعبنى ويقول بتحبى مين فى الغناء عبد الحليم أم فريد، فأقول له عبد الحليم ، فيضحك، وكنت أقول لزميلاتى إن فريد الأطرش خالى، وكان يتعمد أن يسلم على وسط صاحباتى فى مدرسة الراهبات ، ويقول لى أحيانا: إدعى لى يا نهى ، كنت أحب عبد الحليم كصوت وفريد الأطرش أيضا أحبه كصوت وأيضا لأخلاقه وإنسانيته ، أما أم كلثوم فكانت بنت خالة أمى أقول لها يا خالتى ، فجدتى لأمى خالة أم كلثوم كانت واحدة من السبع بنات اللائى تخرجن فى مدرسة الليسية مع سيزا نبراوى التى كانت تزورنا بالعجلة ، ومنهن كانت الماريشال منيرة صبرى كانت مسيحية مثل سيزا كانت مسئولة عن الكشافة بدرجة ماريشال، حكايات وكنوز عن البشر ترويها نهى حقى فى كتابها تحت الطبع بتحليل عميق وأسلوب فى الحكى يمتع النفوس. قلت لها للدخول فى الموضوع الحديث عن صاحب الذكري: نهى حقى الكاتبة ماذا لديها من قطوف فى بستان يحيى حقى اليوم بعد 25 سنة على رحيله؟ ما لدى بعيد عن الروايات وقنديل أم هاشم التى ظلمت عطاء يحيى حقى الآخر فى مجال الفنون والموسيقى، لو قرأت كلامه عن تمثال سيدنا موسى الذى صممه المثال العالمى مايكل أنجلو ستشعر وكأن التمثال يتكلم، وكأنه يهمس إليك كصديق، فى كتابى الذى سيصدر خلال أيام فصل عن المعمار المصرى وعطاءات يحيى حقى فى محراب الفن وفصل عن الموسيقى وقراءتى فى رائعته تعال معى إلى الكونشير بالإضافة إلى الموسيقى والمسرح. سألتها: كيف استقبلت كتاب الراحل العظيم رجاء النقاش عن (يحيى حقى..الفنان والإنسان والمحنة) ؟ كتاب جميل فعلا شأن كل كتابات الناقد رجاء النقاش غير أنها تبقى كتابات محب عن حبيبه، صورة يحيى حقى من وجهة نظر رجاء، فى مقالات سبق نشرها منذ عام 1992 وحتى عام 2005 ولكنها وجهة نظر كاتبها وليست بالضرورة حقائق مسلمة ، فقد ذكر فى هذا الكتاب وقائع ليست بالضبط كما حكاها يحيى حقى منها حكاية غضب عبد الناصر عليه ، فقد كان مجرد حديث تليفونى مع محمود شاكر الذى كان معروفا بسلاطة اللسان وقد وردت الواقعة على أكثر من لسان وبأكثر من شكل فى مذكرات ثروت عكاشة وفى كتاب للشيخ حسن الباقورى مختلفة بعض الشىء عما وردت فى كتاب رجاء النقاش (فقد غضب عبد الناصر من يحيى حقى عندما رفع بعض أهل السوء تقريرا سياسيا ضد يحيى حقى مصحوبا بتسجيل صوتى ينتقد بعض الأوضاع فغضب عبد الناصر وطلب من ثروت عكاشة أن يطرد يحيى حقى من وزارة الثقافة لكن ثروت عكاشة استطاع أن يخفف الغضب ويطلب نقله كمدير لمصلحة الفنون الى دار الكتب كمستشار للدار).. فعلقت نهى حقى بأن كل هذه الواقعة من وجهة نظر رجاء النقاش والمسألة لا تتعدى أن أبى كان صديقا للدكتور محمود شاكر وقد حضر ندوة فى منزله جمعت لفيفا من أهل الفكر والثقافة والسياسة والدين وقد تعرض شاكر فيها للرئيس عبد الناصر ، فالمسألة لم تكن بهذا الشكل الذى صوره رجاء النقاش لكن هو يرى الموقف من وجهة نظره، يبقى يحيى حقى نبعا لكتابات المحبين والعارفين بفضله..أنه أسس لنهضة ثقافية واسعة فى المسرح والموسيقى والسينما والفنون الشعبية بحكم عمله رئيسا لمصلحة الفنون وهو منصب خطير ربما يتجاوز أهمية المنصب الدبلوماسى، ولو كان الغضب بهذه الحدة ربما لم يسند اليه الاشراف على الهيئة العامة للكتاب.. كيف ترين ذكرى والدك هذا العام ؟ تقول نهى حقى :كل عام يأتى شهر ديسمبر وتأتى الذكرى العطرة لرحيل الاستاذ يحيى حقى الكاتب والأديب والفنان وهذا العام أتذكر بيتا من الشعر كان يردده فى ذكرى الطهطاوى: احقا عباد الله ان لست رائيا رفاعه بعد اليوم الا توهما. ويحيى يختلف عن هذه القاعدة فلا اظن ان يكون توهما ولا اظن ان قنديله قد انطفأ.. بل انه لايزال يقطر فى أفق الادب نبضات هذا الكاتب وتراثه الذى يعيش فى نسيج الثقافة العربية هو اكبر دليل على تواجده فى الساحة العصرية وكأن كتاباته ورؤيته قد كتبت اليوم لانها تواكب الواقع بهذا الفكر المعاصر المتقدم.. وهذه هى عبقرية يحيى حقى، لكن ماهى الصورة المثلى لتقديم يحيى حقى اليوم للقارئ ، وباى زاوية ؟ تقول الابنة نهى يحيى : اقدمه كانسان قبل الفنان او كأب قبل الصديق.. او كمفكر قبل الاديب.. انها دائرة متصلة حلقاتها انسانا كان أو اديبا او فنانا تصب فى بوتقه واحدة ومشاعر واحدة واحاسيس واحدة تخرج من قلبه فى حنو الاب واستاذية المعلم مع خلاصة تجربته على مر السنين من دروب العمر فى عالم الثقافة والادب والفن.. وكتاباته التى تركها لاتزال تعيش عصرنا، كيف استطاع هذا الكاتب ان يبشر بهذه النظرة الشمولية للمستقبل رغم مرور الايام؟ فهو الى جانب انه رائد من رواد القصة القصيرة وصاحب اسلوب حديث فى الكتابة اسمه الاسلوب العلمى فى الكتابة وهو اختيار الكلمة فى موضعها بلا تطويل او تقصير، بل احترام الكلمة كى تكون همزة الوصل والمحبة بينه وبين القارئ زوجته الأولى عام 1944علاوة على ذلك هو صاحب تراث رائع أثرى الحياة الثقافية بتنوع المواضيع الحديثة والقديمة.. وكتب فى كل إبداعات الفنون.. سواء الفن الشعبى.. او الفن الأوركسترالى او الفنون الجميلة التى تأثر بها بكل اطيافها.. فهو عاشق للفن الى حد الوله متمثلا فى الشعر وهو سر النبوغ فى كل الفنون. هذا الجانب الفكرى والتأسيسى فى حياة يحيى حقى ظلم أمام يحيى حقى الأديب بل أن الأديب نفسه قد ظلم حين اختصره النقاد فى قنديل أم هاشم ؟ فعلا تشرح نهى حقى فى نفس الكتاب الذى نشرت به قنديل ام هاشم لأول مرة عام 1944 كانت توجد مجموعة أناشيد نثرية اعتبرها بعض النقاد من اروع ماكتب فى شعر النثر والشعر المنظوم لكن روعة القنديل صرفتنا عن هذا الشعر البديع الذى كان يحمل نفحات إنسانية صوفية وغزلية تصلح للفتيات الشابات، ونقل ابداعاته فى الفنون الجميلة فى اكثر من كتاب مثل كتابه «سهراية فى الفن الشعبى» وكتابه «فى محراب الفن» والذى سطر عن الفنون التى شكلت وجدانه وعشق محرابها وكتب عنها كعاشق لهذه الفنون وكناقد فنى يعرف بواطن الجمال والابداع ومن هذه الكتب كتاب «تعالى معى الى الكونشير»،، ومسيرة يحيى حقى ليست بالكم ولكنها بالكيف .. كل كتاب من كتبه نشم فيه عطر يحيى حقى بالنظرة الثاقبة والنظرة الانسانية فى رسم المشاعر والجمال الى أرض الواقع لتكون بين القاريء كأحدث دليل على محبة الكاتب الى قرائه.كيف تعيدين قراءة هذا التراث الآن؟ ولقد تميز يحيى حقى بالتنوع فى كل مواضيعه.. وكتابة «صفحات من تاريخ مصر» رؤية أخرى من تأملاته كقصاص يروى احداثا من تاريخ مصر وكأنه جبرتى العصر الحديث ويسرد الحياة عبر العصور من عادات وتقاليد وحوادث ونماذج من البيئة التى كانت تعيش فى نسيج هذا البلد من العصور الفرعونية الى العصر الحديث وهو كتاب شيق شامل كل أطياف الزمان حتى اللعب التى كان يزاولها الاطفال والبائعون وانواع البضائع انذاك والانسان وتصرفاته وفكره.. الى آخر النظرات من عبق التاريخ هذا هو الأستاذ يحيى حقى والذى لايزال فى تراثه المطوى الكثير من الآراء والافكار والمواضيع والجديرة ان نذكرها.. سواء كتاباته عن السينما أو عن المسرح او السير الذاتية او تأملاته الصوفية.. او نظراته الانسانية.. زخم من الابداع فى حقيبة يد الاستاذ يحيى حقى الذى سيبقى رغم أنف حركة الزمن وستبقى ابداعاته حية دون ان تطويها ستائر النسيان شان كل الابداعات التى هى تراث الامم المتحضرة. أنت إعلامية متميزة وكاتبة قدمت العديد من البرامج لو أردت أن تختارى عملا ل «الإنسان» يحيى حقى لتقديمه لجمهورك وجمهور الأسرة المصرية ما هو؟ بدات عملى معدة برامج ثم مذيع فى اذاعة الاسكندرية وكان من حسن حظى ان رئيسى كان العظيم حافظ عبد الوهاب، علمنا كيف نتكلم ونجرى احاديث وكيف نقدم الضيف ثم توليت مسئولية البرامج الثقافية وكتبت مسلسل اللقاء الثانى وحصل على عدة جوائز فقد كان اللقاء الثانى عبارة عن قصص متصلة ومنفصلة عملت فى تليفزيون البحرين وترجمت بصوتى فيلما عن ام كلثوم من اروع اعمالى انتجه ابن شقيق الرئيس الفرنسى الأسبق فرانسوا ميتران عاشق مصر. ومما أذكره بهذه المناسبة أن مدير مسرح الاوليمبيا بباريس تعاقد مع ام كلثوم لإقامة حفل بأعلى أجر وقتها، واستعدوا للحفل ولم تُبَع التذاكر واصيب الجميع بالقلق، لكن عندما اذاع التليفزيون صور وصول ام كلثوم إلى مطار باريس نفدت التذاكر عن آخرها فى نفس الساعة، وعندما التقاها مدير الاليمبيا لترتيب فقرات الحفل سألها كم اغنية ستغنين؟ فقالت :اغنية او اثنين بالكتير، فصدم الرجل لأن معنى ذلك أنها ستحصل على أعلى أجر مقابل خمس دقائق أو عشر دقائق على الأكثر، فسألها ما طول الاغنية فقالت أم كلثوم : ممكن ساعة ونصف أو ساعتين فلم يفهم شيئا ، فقد كشف له الحفل عن مستوى مذهل من الجماهيرية والغناء من مطربة فى الخيال. بحسب رواية فؤاد دوارة كما سجلها الراحل رجاء النقاش فإن قنديل أم هاشم صارت رواية قومية فى لغتها وتعكس قضية الصدام بين الشرق والغرب .. وبين الثورة على خمول الشعب وبين الرغبة المتأججة فى دفعه للحركة وتحديث أفكاره ..هل أنت على قناعة بأن أدب يحيى حقى تضرر من شهرة قنديل أم هاشم؟ ليس فقط قنديل أم هاشم وأم العواجز وصح النوم، هو نفسه كان يتضرر من قنديل ام هاشم لانها قتلت باقى الاعمال وتضحك نهى حقى وتضيف: رؤية يحيى حقى فى سائر الفنون تضررت منها مثلى تماما ، فقد ظلمنى بنوتى ليحيى حقى عن باقى الجوانب وكانى لم اعمل شيء فى الكتابة والتأليف والإعلام غير انى بنت يحيى حقى، وهذا جعلنى رغم انى اعشق ادب يحيى عامة إلا أننى أتعاطف مع أعماله الأنسانية الأخرى ضحايا «قنديل أم هاشم» وكنوزه التى من أجل الغوص فى اعماقها أعد كتابى الجديد، وسألتها هل النقد الذى وجهه يحيى حقى للشعب المصرى وعاداته كان نقدا جارحا حين وصف الشعب المصرى (أنهم يسيرون كالقطيع فليس فيهم من يسأل أو يثور، وأن بوله فيه دم وبلهارسيا وديدان) واستحقت أن يعتذر عنها ويقول «أنا قليل الأدب» فى حق المصريين فى آخر حوار نشر له قبل رحيله بشهر؟ فقالت نهى يحيى فعلا أنا مع يحيى حقى الناقد ضد يحيى حقى المعتذر، فالنقد هنا كان مباحا مثل فتح الجرح لتصفية الدم الفاسد وليس هدفه السخرية أو التطاول ، فلا يجوز أن نزعل من أديب استخدم كل أدواته فى كشف العلل وتنبيه الناس إلى أوضاع وجد أنها لا ترضيه ، فلا يجب أن نزعل من فنان قلبه علينا ، فالسخرية أحد أسلحة المصريين فى كشف العلل ونقد الذات وهى تختلف قطعا عن الاستهزاء ! ومن حق أديب كبير موهوب ونبيل وحساس أن يقول ما قاله عن شعبه عندما يجد تصرفات لا ترضيه ولا تتفق مع تحضره وشأنه شأن العظماء فى كل الثقافات واتفق مع رجاء النقاش فى وصفه بالغضب المقدس هدفه توجيه صرخة لإيقاظهم وتحريكهم إلى طريق النهضة والرقى والتحضر. نعود إلى أحب القصص الإنسانية الى قلبك فى الاعمال «المظلومة» من قصص يحيى حقى ؟ هناك مجموعة أدعو القارئ للالتفات اليها طبعتها نهضة مصر ورسمها بريشته الراحل الفنان مصطفى حسين ، «فلة ومشمش ولولو» و«عنتروجولييت» و«الديك الرومى» كلهما روائع انسانية ضحايا شهرة «قنديل أم هاشم»، وقصص هذه المجموعة كلما قرأتها ابكى فموضوعاتها شديدة العمق وايضا اسلوبها سهل ودقيق وشاعرى ، لا يشعر القارئ بالملل او التزيد منها قصة (فلة . مشمش . لولو)، وهى اول اعماله .. كتبها عام 1926إذا قرأتها تعرف مدى حبه لعالم الحيوان، وان كان أبطالها رموزا، وهى لوحة تعبيرية لمجموعة من البشر يضمهم مسكن واحد منهم من يعيش فى شرخ الشيخوخة ولا يجد من يؤنس وحدته الا قطة صغيرة اسمها فلة ، لكن حتى هذا الأمل يتبدد أمام رغبة البعض فى حرمان المحتاج من الأمل البسيط، ومن بينها أيضا قصة (عنتر وجولييت) التى نشرها عام 1955عندما أقرأها أستمتع بلغتها الشاعرية وأبكى، حتى وأنا أحكيها الآن تغلبنى دموعى. تمسح دموعها وتعتذر آسفة.. فالكلب عنتر يعيش راضيا مع كوكب هانم وحسن أفندى أمام بيتهما البسيط فى بولاق، (يقول فى وصف البيت: ماذا يظفر به اللص فى هذا المسكن الفقير؟ إذا دخل سيخوض أكواما من اللحم ولن يفلت من عنتر .كلب الست كوكب .لقيته ذات يوم ضالا فى الطريق .فترك الخلق وتبعها.لما دخلت البيت لم تكد تقفل الباب. حتى سمعت خربشة .لو كانت على وجه طفل لما خدشته .ففتحت له الباب وقلبها) .. وعلى الجانب الآخر من النهر تعيش الكلبة جولييت فى قصر إجلال هانم عيشة العز ولها شهادة ميلاد ونسب عريق، المفارقة فى عنتر وجولييت هى المقارنة بين الناس الذين يعيشون فى بولاق والناس الذين يعيشون فى الزمالك، فالكلب عنتر يعرفه كل حى بولاق منهم صبى نقاش .والنوبى بائع السجائر ويحبونه فهو طوال النهار هائم فى الشارع، أما جولييت فتعيش فى سجن وقصر ، بحى الزمالك نوافذه دائما مغلقة لا تفتح اول الصباح حتى تغلق لئلا تحيل الشمس الستائر الحريرية والصالون الأبسون فتظل النوافذ مغلقة والدار معتمة ، لا تسمع فيها ضحكة طفل .وإجلال هانم عاقر.فصبت كل أمومتها وحسراتها على رأس جولييت. وهى لم تضرب ابدا لكن الضرب عندها أهون من صراخ إجلال هانم. لذلك انتهزت فرصة فتح باب الفيلا وخرجت فقبضت عليها شرطة الحى ووضعتها فى سيارة الحيوانات الضالة التى تشبه قفص الاتهام وسيارة المساجين وزنزانة اللومان كما قبضت على «عنتر» والتقى الاثنان فى السجن على القش (هو عنده وثير وعندها شوك وبراغيث)، جاءت جولييت هانم ودفعت الغرامة عشرة جنيهات وأفرج عنها، أما أصحاب عنتر فلم يسألوا عنه فلم يلحظوا غيابه الا عند العشاء نصحها العسكرى بكلام مشوش بالذهاب للشفخانة لدفع الرخصة والغرامة . ليس مع كوكب أى فلوس ولو جاءتها النقود لكست بها العيال وهكذا تركوا عنتر فى السجن. وعادت كوكب على غير هدى وقدماها تقودانها الى البيت. رفعت وجهها للسماء فرأت الليل يطبق على الأرض .. وتسقط دمعة من عينى نهى حقى وهى تحكى، فأتدخل:ألهذه الدرجة أنت متاثرة ؟ اغرورقت عيناها. فأخرجت منديلها وتوقفت عن حكاية القصة لتمسح دموعها (إنها ماساة الغلابة فى كل مكان . زوجة أبى «جان مارى» كانت نحاتة رائعة .تأثرت بقصة عنتر وأعجبت بشخصيته ، ونحتت له تمثالا، مازلت احتفظ به فى مدخل الصالة، ولاأزال حتى اليوم أحييه كل صباح وأدعو لزوجة أبى بالرحمة . قلت لها: تعيشى وتفتكرى!