هل ظلمنا يحيي حقي عندما حصرناه في ذاكرتنا برواية واحدة هي قنديل أم هاشم ؟ الحقيقة اننا ظلمناه ولم نظلمه في آن فقنديل أم هاشم واحدة من العلامات الفنية في تاريخ الرواية المصرية, وهي رواية فيها من يحيي حقي الكثير.. ذلك الساخر العظيم والكاتب الذي استطاع أن يلخص الشخصية المصرية بعمق بلا مبالغات الحداثة أو الجمود المتخفي باسم الكلاسيكية, فقدم الحكمة والسخرية والعمق في الكشف عن النفس البشرية في مصر باقتدار وببساطة متناهية. وفي قنديل أم هاشم الكثير من تاريخ مصر وحكمتها وضعفها وسيادة الخرافة علي عقلها. ولم يفعل حقي, ابن الأسرة التركية التي هاجرت إلي مصر ورضيت بمقام السيدة وطنا لها, سوي أن أزاح الستار عن مشكلة مصر في ضوء القنديل وزيته.. فقدم لوحة فنية وتحليلا عميقا لأزمة مصر آنذاك,_ أي في وقت كتابة الرواية_ وهي الأزمة التي يتخلي فيها المصريون عن العلم لمصلحة الخرافة. ولكن الرواية تجاوزت زمنها وصارت علامة علي واقعنا الحالي الذي لا يزال للأسف يقبل بزيت القنديل- أي قنديل- علاجا ويتنكر للعلم والعلماء والأمثلة كثيرة علي سطوة الجهل والخرافة في الكشوف العلمية الكاذبة والمضللة كما في الاحياء الشعبية , ولذلك يمكن القول إن حصر حقي في القنديل ليس انتقاصا من قدره, ورغم أن يحيي حقي غضب من ذلك في حواره مع الناقد فؤاد دواره وقال إن الناس لا يذكرون لي إلا قنديل أم هاشم وكأني لم أكتب غيرها.. فإن قنديل أم هاشم خلاصة تاريخ ورؤية عميقة لمشكلة تعرقل الشخصية المصرية الحكيمة الساخرة عن التقدم وتذكر المصريين للرواية كأنه تذكير دائم بمصيبة الشخصية المصرية التي تتكيء علي عقل يميل للخرافة. ولكن الظلم وقع علي أعمال يحيي حقي البالغة الأهمية فهذا الدبلوماسي العريق والكاتب والناقد الذي قدم في النقد الأدبي دررا لا يعرفها الكثيرون وقدم في الموسيقي والفن التشكيلي ما لا يستطيع فك ألغازه أدباء كبار الآن, فحقي كان واحدا من الموسوعيين العظام في مصر بثقافة سياسية وقانونية, بحكم تخرجه في المدرسة السلطانية للحقوق, ثم عمله في الصعيد وفي الخارج وفي الخارجية والفنون. وإذا كان نجيب محفوظ قد نجح في تلخيص الفضاء العام والعالم في حارة ضيقة اتسعت للملكوت كله والفلسفة الإنسانية التي يراها محفوظ في العلم كخاتمة الفصول الإنسانية في رائعته أولاد حارتنا, فان يحيي حقي خرج من الحارة التي ولد فيها بحي السيدة وكتب عنها وعن قنديلها, الي الحارة الأكبر مصر.. وكتب عن فلاحيها وبسطائها وكأنه درويش حقيقي للسيدة زينب والسيدة مصر.. يحيي حقي لا يمكن حصره في رواية وإن كانت بعبقرية القنديل أو تحفته الثانية البوسطجي التي تحتاج إلي ملف خاص بهاوحدهالقراءتها فنيا واجتماعيا, ولا يمكن التنكر لتراثه في الإبداع الأدبي والنقد الفني فقد كتب مقالات بالغة العمق والبساطة في نقد المسرح والسينما والفنون التشكيلية. ويكفينا فقط أن نشير الي مقدمته المميزة لديوان الراحل الكبير صلاح جاهين رباعيات لنكتشف كيف يكون النقد إبداعا يوازي إبداع الشاعر يكشف ماهيته وعمق رؤيته ويجعل القاريء شريكا في اللذة والوعي. كما يكفي أن نشير الي كتابه بالغ الاهمية تعالي معي إلي الكونسير لنعرف دقة التحليل الفني للموسيقي ومعها كتابه المهم عن الكاريكاتير في موسيقي سيد درويش والذي يمكن ببساطة أن يكشف عن عمق الصلة الروحية والنفسية والابداعية بين درويش وحقي ولن نستطيع مهما كانت لدينا مساحة للكتابة ان نقدم قراءة شاملة لاديب موسوعي عرف عمق تاريخ مصر وكتب عنها بروح المؤرخ للوجدان كما تحكي ابنته نهي بحق في مقالها المنشور في هذا الملف. آن الأوان لإعادة قر اءة مشروع يحيي حقي الفني والتاريخي لرفع الظلم عن واحد من أهم كتاب عصرنا الحديث إبداعا وتعبيرا عن السيدة مصر ودراويشها الطيبين.