"من حسن الحظ ألا ينقطع عن ذكرك أناس، وألا ينقطع عن نسيانك أناس، وأن ينساك أناس ثم يذكرونك". قالها يحيى حقي، الأديب الكبير، الذي نحتفل اليوم 9 ديسمبر بذكرى رحيله الثانية والعشرين. روايتا "قنديل أم هاشم" و"البوسطجي"، من أهم ما أنتجت السينما المصرية، وقد شكلت "السيدة زينب" -المكان الذي وُلد فيه "يحيى حقي" في 17 من يناير 1905-وجدانه وفكره وروحانياته، مما جعله يقول في أحد مقالاته "إني لا أعترف بأي نتاج أدبي فني ناتج من سكر أو خمر لأني أعلي من قيمة العقل والذي لا يجوز العبث به أو المساس به". ويحيى حقي يُعد رائدًا لفن القصة القصيرة العربية؛ فهو أحد الرواد الأوائل لهذا الفن، وخرج من تحت عباءته كثير من الكُتاب والمبدعين في العصر الحديث، وكانت له بصمات واضحة في أدب وإبداع العديد من أدباء الأجيال التالية، وتعريف الأدب عند يحيى حقي هو "تغذية العقل والروح"، والأديب هو إنسان صاحب نظرة شاملة، بما يمثل النضج وصحوة الروح. عندما نطالع كتب ومؤلفات يحيى حقي نجد أنَّه كتب في كثير من مجالات الأدب والفنون، فقد تكلم في الترجمة والقصة والمسرح والموسيقى والسينما وغيرها؛ وهذا التنوع يعكس ثراءً في الشخصية والأفكار، كما يدل على مخزون ثقافي وإنساني كبير جدًا. تقلب يحيى حقي في وظائف كثيرة، كل واحدة منها ارتبطت بمجتمع مغاير، لما كان يعيشه من قبل، حتى استقر به المقام في القاهرة سنة 1939م عندما عمل مديرًا لمكتب وزير الخارجية، بعد مدة طويلة من العمل في السلك الدبلوماسي، تشبع خلالها بكل أعراف السلك السياسي، بخاصة في نظرته إلى من تشاركه الحياة؛ كان حينئذ يعيش عازبًا وحيدًا، قد بلغ السابعة والثلاثين من عمره. وتولى يحيى حقى رئاسة تحرير مجلة الفلسفة من مايو 1962 وحتى نهاية عام 1970، وهي أطول فترة يقضيها رئيس تحرير للمجلة في تاريخها.. لذا ارتبط اسم "المجلة" باسم يحيى حقى، حتى لقد كان شائعاً أن يقول الناس: "مجلة يحيى حقى" واستطاع الرجل العملاق أن يحافظ على شخصيتها كمنبر للمعرفة، والعقل محولاً إياها إلى معمل تفريخ للمواهب الحقيقية.. يكتشفها ويرعاها، ويدفعها للأمام.. وفتح صفحاتها للأجيال الشابة من المبدعين، في القصة والشعر والنقد والفكر ليصنع نجوم جيل الستينيات في "شرفة المجلة" بشارع عبد الخالق ثروت، هذه "الشرفة" التي كان يحاور فيها هذا الجيل القادم من الريف بنصوصه الأولى يناقشهم ويحاورهم ويطور من ثقافتهم.. وينشر لهم جنبًا إلى جنب الرواد والراسخين في الفكر والعلم.. وما زال دور يحيى حقى في تقديم، واكتشاف هؤلاء مجهولًا ولم يدرس بعد. ويُعد يحيى حقي "الأب الروحي" لجيل الستينيات من المبدعين. وهو الذي رعاهم وطمأنهم على مواهبهم وشق أمامهم طريق النجومية الحقيقية، وظل يحيى حقي يقوم بهذا الدور حتى العام الأخير من رئاسته للتحرير، حيث فوض نائبه الدكتور شكري محمد عياد لإدارة المجلة في خلال الشهور الأخيرة قبل أن يحتدم الخلاف بينه وبين المؤسسة الرسمية ويتركها في أكتوبر 1970 ليتولى رئاسة تحريرها الدكتور عبد القادر القط منذ نوفمبر 1970 حتى قرار أنور السادات بإغلاقها، وإغلاق المجلات التي كانت تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب في أكتوبر 1971 وهو ما عرف بقرار إطفاء المصابيح الثقافية، وبعدها بقليل أعلن اعتزاله الكتابة والحياة الثقافية. في عام 1991 صدر له كتاب "خليها علي الله" مبيناً على غلافه الداخلي أنه "السيرة الذاتية لأديبنا الكبير يحيى حقي، عاشق اللغة العربية تحدثاً وكتابة وقراءة، وأحد أبرز رواد الرواية والقصة القصيرة واللوحة القلمية في الأدب العربي الحديث والمعاصر. ويعد كتاب "هموم ثقافية" مصدرا مهما لمعرفة الجانب الثقافى والتكوين الفكرى ليحيى حقى. الكتاب يضم مجموعة من المقالات المنشورة في منتصف الستينيات وأوائل السبعينات. هو مثقف موسوعي ارتاد آفاق الثقافة الغربية مع حبه الشديد للغة العربية وحضارتها، لذلك آمن بحركة الترجمة كوسيلة لنقل أفكار النص الأصلي بأمانة ودقة من زاوية، وأداة إبداعية لها قدسيتها وخصوصيتها من زاوية أخرى، كما يقول في مقدمة ترجمته لرواية "الأب الضليل": "لن تجد في هذا الكتاب إنسانا هو مجرد اسم أو حتى مجرد شبح، بل كل من تحدث عنهم أشخاص ينبضون بالحياة، يروي أخلاقهم ونزواتهم، فضلهم وحمقهم، جانبهم البطولي وصفاء طبعهم.. وما في الحياة من تناقضات وعواطف متضاربة يجعله يلمس بيديه أن الفن هو أيضاً نجاة للنفوس وتطهير لها. ترجمت أعمال حقي إلى لغات عدة بما فيها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية نذكر منها قنديل أم هاشم (1944)، والبوسطجي (1955) التي ترجمها إلى الفرنسية كذلك د.السيد عطية أبو النجا، أما الإنجليزية فقد كانت أوفر حظاً بكتابات حقي حيث ترجم إليها قنديل أم هاشم، وأم العواجز ، والسرير النحاس ، والفراش الشاغر ، وقصة في سجن، وإزازة ريحة، واحتجاج، وصح النوم، وعنتر وجولييت على سبيل المثال لا الحصر. نال يحيي حقي أكثر من جائزة في حياته الأدبية، من بينها جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1969، كما منحته الحكومة الفرنسية وسام فارس من الطبقة الأولى عام 1983، كما نال العديد من الجوائز في أوروبا وفي البلدان العربية، منحته جامعة المنيا عام 1983 الدكتوراه الفخرية؛ وجائزة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته السادسة عشرة؛ جائزة الملك فيصل العالمية فرع الأدب العربي لكونه رائداً من رواد القصة العربية الحديثة، عام 1990. رحل الأديب يحيى حقي في صبيحة يوم الأربعاء، التاسع من ديسمبر، عام 1992، في القاهرة، عن عمر يناهز سبعة وثمانين عامًا؛ مخلفاً وراءه تركة من الكنوز الأدبية من القصة وفن المقال، منها: (قنديل أم هاشم صح النوم أم العواجز ناس في الظل دماء وطين رجل وامرأة).. وغيرها من مجموعات قصصية وكتب نقدية وأدبية وصحفية.