يبدو أن مقولة الفيلسوف نيشة «كل الذى لا يقتلنى يقوينى» حقيقة شاهدناها مؤخرا فى أحد أهم روائع السينما العالمية فى السنة الأخيرة، والذى عرض فى قسم المسابقة الدولية، ليتوج فيلم A Twelve-Year Night «ليلة اثنا عشر عاما» للمخرج ألفارو بريشنر، بجائزة الهرم الذهبي، إلى جانب جائزة الاتحاد الدولى للنقاد (فيبريسى)، التى تحمل اسم الناقد الراحل سمير فريد. أحداث الفيلم المستوحى من قصة حقيقية، تتناول الأوضاع السياسية فى أوروجواى تحت حكم الديكتاتورية العسكرية خلال فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وفى هذ العمل الرائع أنت أمام سيناريو إنسانى ملئ بالتفاصيل المثيرة للتأمل والشجن وبعث الأمل؛ صاغه بحرفية ألفارو بريشنر مركزا على ثلاث سجناء مضطهدين من قبل النظام، يتعاملون معهم بكل ما حملت به كلمة وحشية من قسوة، فيحرمون من أدنى حقوقهم داخل الحجز الانفرادى لمدة 12 عاما. ويبدأ السرد السينمائى بإيقاعه الشجى فى ليلة خريف، بأخذ ثلاثة سجناء سياسيين من زنازين السجن فى عملية عسكرية سرية ستستمر بعد ذلك لمدة اثنى عشر عاماً؛ يظل خلالها السجناء الثلاثة معزولين فى زنزانات صغيرة يقضون معظم الوقت فيها بأغطية فوق رؤوسهم. من بينها بيبى موخييكا رئيس أروجواي؛ لحقا وأديب؛و لاعب كرة كانا شهيرا حينذاك؛ وهذا العمل الرائع سبق له المشاركة لأول مرة فى المسابقة الرسمية فى مهرجان البندقية السينمائى الدولى الخامس والسبعين، وتم اختياره كأحد أفلام أوروجواى لأفضل فيلم بلغة أجنبية فى حفل توزيع جوائز الأوسكار رقم 91... أنت هنا مع تجربة لها خصويتها للمخرج ألفارو بريشنر الذى كان أول ظهور له فى عام 2009 «يوم سيء للذهاب الصيد» و 2014 «السيد كابلان، ليرسم من خلال فيلمه المبهر A Twelve-Year Night معركة الشخصيات من أجل الكرامة؛ من خلال استعراض للحياة الحقيقية المستلهمة من السجن لمدة 12 سنة فى الحبس الانفرادى من عام 1973 الى 1985 لأحد أبطال أوراجواى ورئيسها الملقب بأفقر رئيس فى العالم موخيكا الذى تم تعذيبه فى سجنه مع صديقيه فى ظل الديكتاتورية العسكرية فى أوروجواي. والعجيب أن موخيكا عندما أصبح رئيسًا كان نموذجيًا، ولم يسع إلى الانتقام من معذبيه؛ وربما من تلك الروح استلهم المخرج ألفارو بريشنر دراما البقاء على قيد الحياة والانغماس فى الإثارة الوجودية فى تحفته السينمائية «ليلة اثنا عشر سنة» وهى بمثابة عزف سينمائى عن الشجاعة لعظمة الروح الإنسانية لهؤلاء الرجال الذين عاشوا فى عزلة تامة؛ ولم يتمكنوا من خلالها معرفة الفرق بين الليل والنهار أو أى شهر كان، بغض النظر عن الحرارة أو البرودة من الليل والنهار والصيف والشتاء. ولكن استطاع المخرج إظهار الخلط العقلى المستمر لهم؛ لذلك استغرق التحضير لهذا العمل بكل تفاصيله ما يقرب من أربع سنوات من التحقيق والمقابلات، لينقل لنا ما فعله هؤلاء ليظلوا بشرا أسوياء؛ ولأنه ككاتب سيناريو عرف من خلالهم السر فى البقاء على قيد الحياة وهو أن لديهم ثقل عقلى هائل مكنهم من العثور على لحظات للراحة والترفيه لا يراه سواهم من خلال التفكير ، وهى المساحة الوحيدة التى لا يمكن لأحد أن يخترقها؛ وأظهر السيناريو هذا بالفلاش باك لحياة كل واحد فيهم مع أسرته؛ بل أن لاعب الكرة كان يسمع هتاف الجماهير. بل والعظيم انهم استفادوا من تلك المأساة لذلك قال موخيكا فى أحد لقاءاته عن تللك الفترة: «لن أكون من أنا إذا لم يكن ذلك الوقت الذى أمضيته مع نفسي». كل واحد من أبطال الفيلم عثر على ما هو ضرورى ليساعدهم على البقاء كإنسان؛ وليس فقط البقاء على قيد الحياة، بطريقة جعلتهم لا يفكرون فى الانتقام. واستطاع النهج البصرى للمخرج الذى اتخذه للتأكيد على هذه القصة الحميمية للبقاء على قيد الحياة؛ بتصوير نوع آخر من الظلام الملئ بالوحشة فى المكان والأنس الذاتى وعمق هذا الأحساس بكاميراته المرتبكة كالشخصيات؛ ليقدم تمثيل للعزلة الكاملة يفوق حدود دراماتيكية التصوير السينمائى ، مقتربا قدر الإمكان من التجريبي؛ وساعد على توصيل ذلك أن ألفارو بريشنر قبل كتابة السيناريو التقى مع علماء النفس وعلماء الفيزياء ، ليعرف معنى العزلة من كل جوانبها الانسانية والمكانية وتأكد مما فعل ابطال فى أثناء تواجدهم فى السجن؛ لأنه عندما تبدأ حواسنا بالفشل ولا يكون لديك بداخلك مرجع تلجأ اليه ينقذك؛ يبدأ الدماغ فى الانهيار. ونحن فى هذا العمل نفتقر الى شيئين أساسيين بالسجن؛ الأول نية الهروب؛ ووجود مجتمع صغير داخل السجن. ولا شىء من هذا يحدث هنا.. إنه فيلم عن دفع المساجين دفعا إلى أعماق الجحيم الداخلي. لذلك فأن الفيلم عن معجزة الإنسان؛ ومحاولة استكشاف الحالة البشرية. ولقد كانت بعض الجمل الحوارية من الام والطبيبة النفسية تظهر النهج الذى عاش من خلاله الابطال فى السجن والمعتمد على فلسفة انك منتصر طالما انت تقاوم ولم تستسلم؛ لذلك فلاعجب بعد ذلك أن يكون أحد منفذى تلك الفلسفة هو المسجون خوسيه ألبرتو «بيبي» موخيكا كوردانو الذى قدمه الفيلم مقاتلاً سابقاً فى منظمة توباماروس الثورية اليسارية وكيف تم سجنه وعاش تلك المأساة ولكن عندما خرج من السجن أصبح وزيراً للثروة الحيوانية والزراعة والثروة السمكية من سنة 2005 حتى 2008 وعمل بعدها بمجلس الشيوخ، ثم فاز بالانتخابات الرئاسية لسنة 2009 وتولى الرئاسة فى الفترة من 1 مارس 2010 إلى 1 مارس 2015. وتم وصفه «أفقر رئيس فى العالم» بسبب أسلوب حياته التقشفى وتبرعه بقرابة تسعين فى المائة من راتبه الشهرى الذى يساوى 12.000 دولار أمريكى للجمعيات الخيرية والشركات الناشئة. والطريف أن يقتنى خوسيه سيارة فولكس فاجن بيتيل صنعت عام 1987؛ ويقيم فى مزرعة بسيطة فى منزل زوجته لوسيا توبولانسكى بالقرب من العاصمة الأوروجوانية مونتفيدو؛ زوجة خوسيه لوسيا توبولانسكى وهى عضو فى مجلس الشيوخ الأروجوانى وتبرعت هى الأخرى بجزء من راتبها بهدف تحفيز مشاريع الشباب و المشاركة فى الأعمال الخيرية.. وفى الحقيقة أن موخيكا ظهرت قصته بالفيلم بالتوازى مع قصة البطلين الأخرين؛ وأن كان هو أصيبب بالرصاص ست مرات و لكنهم جميعا تعرضوا للتعذيب بعد أن وضعتهم قوات الأمن فى الحبس الانفرادى ولكن موخيكا وضعه الامن فى بئر عميقة، وأفرجت عنه السلطات بموجب عفو بعد انتهاء الحكم العسكرى الديكتاتورى للأوروجواى الذى استمر من عام 1973 حتى عام 1985. ولقد كان المخرج موفقا عندما استعان بثلاث ممثلين محترفين فى الأدوار الرئيسية وهم أنطونيو دى لا توري، وتشينو دارين، وألفونسو تورت. بل وعقد عدة جلسات جمعت بين الممثلين والشخصيات الحقيقية المجسدة على الشاشة، كما استعان بأطباء نفسيين وخبراء تغذية لمساعدة الممثلين على فهم التجربة وأيضًا لإنقاص وزنهم حوالى 15 كيلوجرام؛ وهناك لقطات تظهر عظم جسد موخيكا.. الطريف أن فيلم A Twelve-Year Night «ليلة اثنا عشر عاما» للمخرج ألفارو بريشنر لم يكن الاول عن حياة موخيكا وسبقه فيلم المخرج العالمى الشهير إمير كوستوريتسا فيلم «إل بيبي: حياة عظيمة» والذى عرض ايضا فى مهرجان البندقية فى إيطاليا، وتناول فيه حياة رئيس الأورجواى السابق، خوسيه موخيكا، تقديرا لإصلاحاته السياسية والاقتصادية فى بلده، ووثّق فيلم «إل بيبي: حياة عظيمة» حياة الزعيم الثورى السابق، موخيكا، الذى اكتسب لقب «رجل الشعب». وجاءت أهمية هذا الفيلم فى وقت دخلت فيه البلاد اللاتينية بأزمات سياسية واقتصادية، إذ شهدت فنزويلا توتّرات اقتصادية، وأعلن الحكومة الأسترالية نقل تعزيز قوّاتها على حدودها مع فنزويلا لمنع عبور اللاجئين من فنزويلا هربا من أوضاع بلادهم. ومنعت المحكمة رئيس البرازيل السابق لولا دا سيلفا، من الترشّح مجددا لرئاسة البرازيل، لاتهامه بقضايا فساد، فقرر المخرج كوستوريتسا، الذى فاز مرتين بالسعفة الذهبية، استعراض حياة الرئيس الاشتراكى موخيكا، والذى يعرف بكفاءته وأعماله الخيرية وبمنحه الاشتراكية سمعة طيبة. وقال كوستوريتسا إنّ موخيكا كان «الرئيس الوحيد فى العالم الذى أبكى 150 ألف شخص عندما ترك كرسى الرئاسة». وفى النهاية يبقى جمال فيلم «ليلة اثنا عشر عاما» للمخرج ألفارو بريشنر ليس فقط فى أسلوب إخراجه وتفاصيله المبهرة ولكن لكونه ملهما لمن فقدوا حبهم وإيمانهم بالأمل.