هى السينما.. ذلك الفن الذى يؤرخ ويرصد ويروى حكايات البشر والشعوب.. نعرف عن طريقها ثقافات مختلفة.. تمدٌ جسور التواصل بين الشعوب.. نعرف بها الآخر الذى يقطن فى أى مكان فى العالم.. هى السينما التى تحمل راية التنوير وتحرض على التفكير. من هذا المنطلق يمكن قراءة الفيلم الفائز بالهرم الذهبى فى الدورة الأربعين لمهرجان القاهرة السينمائى «ليلة الاثنى عشر عاماً»، «انتاج إسبانيا والأرجنتين، وأوروجواى وفرنسا» ذلك الفيلم الذى كشف عن صفحة مهمة فى تاريخ دولة الأوروجواي، وقصص بشر ناضلوا لأجل بلدهم وللقيم والمبادئ الإنسانية. يقول مخرج العمل ألفارو بريخنر، إن الفيلم يتناول قصصا حقيقية لمعتقلين سياسيين، ومنهم أعضاء المجموعة اليسارية «توباموس»، وهم: خوسيه موخيكا، وماوريسيو روزينكوف، وإيليتريو فيرنانديز هويدوبرو. ويضيف أن هذه القصة كانت تشغله منذ سنوات، فمعاناتهم وفقدهم أحيانًا لحواسهم، وتخيلهم لأصوات تسيطر عليهم، والشعور بالوحدة والخوف والقهر، لم يسلبهم القدرة العجيبة على المقاومة والصمود. ومن هنا كان دافعه ومصدر حماسه لتقديم عمل إنسانى عن هؤلاء الأبطال.. كان من الممكن أن يقع مخرج العمل فى فخ التقليدية والمباشرة والخطابة، إلا أنه نجح وبشدة فى تقديم عمل سينمائى رفيع المستوي، يحفل بجماليات على مستوى السرد الدرامى وطريقة الحكى وتوظيف ال «فلاش باك»، وعلى المستوى البصرى أيضا. «أيها الداخلون تخلوا عن كل أمل» تلك الجملة المنسوبة لدانتى هى أول ما وقعت عليها عينا أحد المعتقلين الثلاثة محفورة على جدار الزنزانة التى تم سجنه بها بعد إلقاء القبض عليه فى ليلة خريفية من عام 1972 هو واثنين من رفقاء الكفاح، حين كانت الأوروجواى تحت حكم الديكتاتورية العسكرية، لنرى حياة ثلاثة ثوار اعتقلوا بحجة الاشتراك فى عملية عسكرية سرية، لكن يبقى الرجال الثلاثة معزولين فى زنزانات صغيرة يقضون معظم الوقت فيها بأغطية فوق رءوسهم، ومن بينهم بيبى موخيكا الذى يصبح رئيسا للأوروجواى فى وقت لاحق، وآخر صار من أشهر الأدباء، والثالث صار من بين أعضاء الحكومة. من خلال كاميرا المخرج الشديدة الرهافة والحساسية - حيث رصدت معاناة الثلاثة فى السجن الانفرادى - يبدأ الشريط من خلال زوايا ضيقة، وإضاءة قاتمة معبرة عن حالة القهر والعزلة وفقد الأمل فى بعض الأحيان.. تبدأ الكاميرا فى رصد التفاصيل كافة، إذ لا يوجد سوى القليل من الطعام والشراب.. هى الوحدة فقط بين جدران الزنزانة الخالية.. فقط جدران صماء تضيق أو تتسع قليلا حسب السجن الذى ينقلون إليه. «كنتم تريدون تغيير العالم.. انظروا لحالكم الآن» جملة كان أحد الضباط يصر على ترديدها على مسامع المعتقلين الثلاثة - جسد أدوارهم: سيلفيا بيريز كروز، وسوليداد فيلاميل، وسيزار ترونكوسو -المناضلون الثلاثة والذين بفعل السجن والتعذيب والإهانات لسنوات أصبح بينهم وبين الجنون «شعرة».. بعضهم كان يشعر بالفعل أن حواسه معطلة، لذلك يبدأ فى الاستماع لصوت النملة الحشرة الوحيدة التى تلامس جسده.. موخيكا يواجه ما هو أصعب: أصوات عقله الذى لا يتوقف عن التفكير أو التصورات، حوارات بينه وبين والدته، تتداخل معها أصوات من قاموا بتعذيبه، بكل وسائل التعذيب غير الآدمية، إلى أن يلجأ واحد منهم إلى النقر على الحائط لتبادل الحوارات والجمل البسيطة، لتصبح هناك لغة تجمعهم، يتبادلون من خلالها الحوارات والذكريات. كاميرا المخرج، مع براعة الإضاءة، وزوايا التصوير، وعدم المبالغة فى الأداء أو الميل إلى الميلودراما المبالغ فيها « مع أن خطوط ودراما الفيلم تتحمل ذلك»، تشعرنا بأن الكاميرا تتماهى مع الأبطال، حيث يرى المشاهد السجن والزنزانة كما يراها الأبطال.. الوحدة والقاع الذين يعيشون فيه من دون آدمية.. الموسيقى فى أماكنها مع توظيف الصمت فى أحيان أخري.. المونتاج المنضبط الذى منح الفيلم إيقاعا يحمل الكثير من التناغم فى النقلات الزمنية دون أدنى شعور بالملل. لم يخل الفيلم من الشاعرية فى رسم تفاصيل علاقة موخيكا بوالدته، وإيليتريو فيرنانديز بابنته، وكيف تحول إلى كاتب الخطابات الغرامية للضباط الذين يرغبون فى التقرب من النساء إضافة إلى حس السخرية العالى وتحديدا فى مشهد الحمام ومن سيأخذ القرار بفك قيد السجين من أجل قضاء حاجته، الجميع يتنصل ويلجأ إلى من هو أعلى منه وأيضا اللقطات السريعة للنجوم التى تزين السماء ويحلم الأبطال برؤيتها، وكأنه فى نهاية النفق المظلم، سيكون هناك أمل بالتأكيد، مشاهد ولقطات خروجهم من المعتقل، واستقبال أسرهم،ويرددون: «الشعب المتحد لا يهزم». فشعب أوروجواى هو سبب خروجهم للنور عندما رفض التعديلات الدستورية، وأعاد الديمقراطية إلى الحكم، ليخرج جميع المعتقلين: فيلم «ليلة الإثنى عشر عاما»، هو تحفة سينمائية بحق، وأحد الأفلام الملهمة فى تاريخ السينما العالمية. بعد 12 عاماً من الحبس الانفرادى يعرف المشاهد أن هذا البطل «بيبى موخيكا» فاز بالانتخابات الرئاسية لسنة 2009 وتولى الرئاسة فى الفترة من 1 مارس 2010 إلى 1 مارس 2015، وعرف بأنه كان أفقر رئيس دولة فى العالم. «المهزوم هو من يكف عن القتال» المخرج وكاتب السيناريو ألفارو بريخنر قال: «استلزم هذا المشروع أكثر من أربع سنوات من الأبحاث والتوثيق، وطلب منى أن أكون دقيقا للغاية فى الجانب الجمالى والإنسانى للأشياء، وإن أول ما أدهشنى هو سماع جملة الرهائن: «كان ينبغى علينا قتلهم فى ذلك الوقت».. لقد كنت مفتونا بفكرة استكشاف هذا الكون حيث يكافح شخص ما حقا، وكنت مهتما باستكشاف كيف أن عليه فى عزلة الأسر، أن يعيد اختراع نفسه ليتمكن من معارضة خطة تهدف إلى إزالة آثار المقاومة الأخيرة المتبقية على الذات».