د. سرية صدقي مع الأسف الناس اعتادت القبح حتي إنها لم تعد تري القمامة، وعلي عكس كثير من دول العالم التي تهتم بتنمية الثقافة البصرية وتخصص لها مواد دراسية، نفتقر نحن إلي تلك الثقافة ولا نهتم بتنميتها . للدكتورة سرية صدقي علاقة وثيقة بمدرس الرسم وبحكايات مادة التربية الفنية إذ إنها تولت عدة مناصب من بينها أستاذة مناهج وطرق تدريس التربية الفنية، بكلية التربية الفنية، كما تولت رئاسة لجنة بناء معايير وتطوير مواصفات الورقة الامتحانية في مادة التربية الفنية للمرحلة الأولي من الثانوية العامة بوزارة التربية والتعليم، 2002 حتي الآن، وهي من الشخصيات المؤمنة برسالتها وبدور الفن ومادة التربية الفنية في حياة طلبة المدارس. وكانت سرية صدقي قد حصلت من جمعية الدولية للتربية عن طريق الفن "INSEA" التي تمثل الجناح المعني بالتربية الفنية لهيئة اليونسكو الدولية جائزة السير "هيربرت ريد" وهي أعلي جائزة لأصحاب الإنجاز المهني والأكاديمي والتطبيقي المتميز قوميا وعالميا في مجال التربية الفنية. تستهل د.سرية حكاياتها قائلة: كانت البداية في الرابعة أو الخامسة حين رسمت شجرة بالقص واللصق وكان ساق الشجرة بنفسجيا والفروع زرقاء وأورقاها بمبي، وتصادف وجود ضيوف عندنا في البيت وحين رأي أحدهم الرسمة سألني مستنكرا: هو في شجرة بنفسجي وورقها بمبي؟؟ عمرك شفتي شجرة كدا؟؟ فأجبته: أنت تقصد الشجر بتاع ربنا إنما هذه شجرتي أنا؟؟، وقتها قام والدي ووالدتي ببروزة الصورة وتعليقها في الصالون مع لوحات كبار الفنانين التي كان أبي يقتنيها.. وشعرت بالفخر أن تكون لوحتي ضمن تلك اللوحات الجميلة، وكانت والدتي حريصة علي أن تشيد بها أمام الضيوف. كنت آنذاك خجولة وقليلة الكلام، وكأن الرسم أصبح وسيلة تواصل مهمة مع المجتمع. تضيف د.سرية: كانت والدتي عائدة للتو من إنجلترا فقد كانت من أوائل السيدات اللاتي سافرن في بعثة للحصول علي درجة الدكتوراه في التربية الفنية من إنجلترا ذلك في أواخر الثلاثينات.. وقتها كان هناك عدة أنظمة مدرسية هناك الكليات الأمريكية (الأمريكان كوليدج) والنظام البريطاني وغيرها.. وقد ذهبت إلي الكلية الأمريكية لإجادة والدي للإنجليزية، هناك يدرسون الفن بطريقة تقليدية سيئة قائمة عن الأمشق ( المقصود بالمشق رسوم خطية ذات بعدين جاهزه يقوم المعلم برسمها علي السبورة ويطلب من التلاميذ نقلها كما هي) - فذهبت والدتي إلي المدرسة وأخبرتهم أنهم يدرسون الفن بطرق يشوبها بعض العيوب فأصابهم ذلك بالغضب، فكيف لسيدة مصرية أن تقوم بالتعديل عليهم، وهنا أخذتني والدتي من المدرسة وظلت تبحث عن مدرسة لا تقوم بتدريس رسم مطلقا وبالفعل ألحقتني بمدرسة راهبات.. في ذلك الوقت كانت مدارس الراهبات تدرس الموسيقي والبالية وأشغال الإبرة لكن لم يكن هناك رسم.. وكانت هي من تعلمني الرسم في البيت. وفي البيت لم تكن أمي توجهني كيف أرسم، لكن كانت تحترم رسمي وتتحدث عنه بفخر، وفي هذه السن الصغيرة كان عندي وسائل التعبير من ألوان وأوراق وغيرها وهو المهم، أما المنتج فكانت أمي تبتعد عن أن أقوم بتقليد رسومات، بل كان لابد أن يكون الرسم من إبداعي وكانت سمات الفترة حرية التعبير فيما درسته في الخارج. في ثانوي انتقلت لمدرسة حكومية وهي مدرسة الجيزة الثانوية وكانت مبنية حديثا في الخمسينات، في تلك الفترة كان نظام التعليم في المدارس الحكومية هو الأقوي، فالخائبون والمدللون فقط كانوا يلتحقون بالمدارس الخاصة ولذا لم أحب فكرة الالتحاق بمدرسة خاصة، وفي تلك المدرسة الحكومية درست التربية الفنية كما يكون. وتستطرد د. سرية: كانت أبلة وجيدة هي مدرستي في فترة الثانوي، كانت شخصيتها قوية ومحبوبة وكلمتها مسموعة، فقد كان لمدرس التربية الفنية هيبة، وكانت مدرسة التربية الفنية مسئولة عن تجميل المدرسة وكان لها مكانة، ولم تكن التربية الفنية تقتصر علي تعلم الرسم فقط بل كانت تمتد لتعلم حرفة، فقد كان عندنا غرفة رسم كبيرة جدا، إضافة إلي غرفة الخزف التي كانت مجهزة بالفرن والجليزات، كنا نتعلم كل تفاصيل الحرفة، أما المنتج فكان يتم بيعه في معرض يحضره أولياء الأمور. وكان هذا يغرس احترام ثقافة العمل والمنتج. وكان احترام الحرفة ينعكس بعد ذلك في كافة أوجه الحياة، وليست التربية الفنية وحدها التي كان لها مكان كبير بل أيضا الاقتصاد المنزلي والتربية الموسيقية، أذكر أننا كنا نقوم بتمثيل مسرحية جديدة كل عام. وعن ذلك التحول الذي شهدته مادة التربية الفنية تقول د.سرية: الآن غابت حجرة التربية الفنية وأصبحت حصص الرسم متاحة للجميع من يريدها يأخذها، أما الرسومات بعد أن ينتهي منها الطالب تلقي أمامه فلا يدرك لها قيمة، لقد فقد الرسم مكانته منذ أن تم سحب ميزانيته وميزانية كل الأنشطة.. كان التعليم والبحث العلمي أعلي ميزانية في الدولة.. أضف لذلك أنه بسحب درجات الرسم، وهو ما رسخ عدم أهمية تلك المادة للطلاب وأولياء الأمور.. فقد كانت تلك الدرجات مهمة للأهل وكثير منهم لا يدرك أهمية الفن. لكن المشكلة لم تتوقف عند حدود المدارس، فإن ذلك التدهور الذي حدث في مادة التربية الفنية انعكس أثره في المجتمع ككل، حيث تقول د.سرية: الثقافة البصرية مهمة جدا، مع الأسف الناس اعتادت القبح حتي إنها لم تعد تري القمامة، وعلي عكس كثير من دول العالم التي تهتم بتنمية الثقافة البصرية وتخصص لها مواد دراسية، نفتقر نحن إلي تلك الثقافة ولا نهتم بتنميتها . وفي الوقت الذي يتم التركيز علي تعليم الفن كحق أصيل للإنسان وتنص الأممالمتحدة علي أن تعلم الفن حق الإنسان، نجد أنه ليس لدينا مناهج متخصصة ومعلم متمكن.. وتضيف د.سرية: أنا لا ألوم المعلم في الحقيقة فهو يعاني من الفصول المكدسة والمرتب الهزيل وليست هناك إمكانيات أو غرفة مخصصة للرسم فماذا بإمكانه أن يفعل ؟؟ ولذا فإن الجميع يهربون من هذه المهنة، فالمبدعون ومن يجدون مهنة أخري لا يستمروا في مهنة التدريس. وعن تجربتها الشخصية تقول د.سرية: لقد حاولت أن أتبع مبادئ التربية الفنية السليمة مع بناتي دينا وهالة فمنذ طفولتهما كنت أحرص علي أن أحضر لهما كراسات رسم كبيرة تصل لمتر في سبعين تشبه الجدار حتي يطلقوا العنان لطاقتهم الفنية.. كذلك كنا نحرص أنا ووالدهم الفنان مصطفي الرزاز علي لفت نظرهم لمواطن الجمال في كل شيء حولنا.. لدرجات الألوان في السماء.. لانعكاس أشعة الشمس ودرجاتها اللونية.. كنا نصطحبهم للمتاحف، فمثلا حين كنا في أمريكا أثناء دراستي للدكتوراه كنا نصطحبهم للمتاحف هناك ونمضي ساعات نلتقط الصور ونتحدث عن القطع الفنية أمامهم، في البداية كانوا يشعرون بالملل، لكن بعد بعض الوقت كانوا هم من يهتمون بالسؤال.. أتذكر موقف حدث مع ابنتي دينا وكانت في طفولتها ترسم شخصيات غريبة، وكان هناك باحثة تعد بحث عن الطفل المبدع الذي يتسم بعدم تكرار رسوماته وعرضت عينات كثيرة في بحثها، وحين رأيتها أخبرتها أن ابنتي بإمكانها وحدها أن ترسم كل هذه التنويعات في رسوماتها بما يصنع بحثا كاملا، وحين رأت رسوماتها انبهرت وطلبت أن تراها، وهناك أحضرت لها ورقا وقالت لها ارسمي، وأصدرت لها شهادة أنها فنانة وأخبرتها أنها ستكون فنانة متميزة.. هذه المواقف تؤثر تأثيرا بالغا في سيكولوجية الطفل.. فلابد من دعمه وتشجيعه وإشعاره بقيمة ما يفعل.. وأري أن طفولتهما انعكست في مسار حياتهما حيث اتجهت البنتان لدراسة الفن فهالة بكالوريوس كلية التربية النوعية وهي عضو مؤسس في جمعية الخزف المصري 2000، أما دينا فدرست بكلية الفنون الجميلة قسم جرافيك. تضيف د. سرية: بلا شك أن للبيت دورا مهما، لكن دور المدرسة لا يقل أهمية، وإذا كان التشكيل في ازدهار إلا أن التربية الفنية في تدهور، لأنه لابد من وجود إمكانيات، وكذلك يجب الاهتمام بوضع مناهج للتربية الفنية، تحقق أهداف الفن الثلاثة المتمثلة في: أولا كونه لغة تواصل مهمة، ثانيا: تنمية ثقافة العمل ودعم متعة العمل والإتقان والتعامل مع كل حرفة علي أنها فن، بما ينعكس علي الصناعات الإبداعية وهي ما يطلق عليه ريادة الأعمال الإبداعية حاليا.. ثالثا: دعم القيم والمفاهيم فليس هناك فنان سيرسم لوحة ويحمل سكينة، وهي ثلاثة أهداف مهمة جدا في الحياة. ولابد من التأكيد علي أن يكون واضعو مناهج التربية الفنية من المتخصصين لأن المنهج يقوم علي عدة أسس منها ممارسة الأنشطة والتذوق الفني وعلم الجمال وتاريخ الفن، ولذا فإن صياغة أهداف التربية الفنية لابد أن تأتي من شخص عنده ثقافة تلك المجالات.