دائما ما يقول أي فنان عن نفسه ( موهبتي ظهرت مبكرة .. وبدأت الرسم منذ صغري ) ..أما أنا فاستطيع أن أعلن بكل شجاعة : الفن كان نطفة في تكويني الجنيني والخامة الأولي في تشكيلي والمضمون الأول والأخير في تفكيري .. ولعلي بدأت الخيالات الفنية قبل أن أولد .. وأنا في بطن امي .. ولعل أمي قاومت ذلك كثيرا.. مثلما قاومته بعد ولادتي وانا طفل وشاب ورجل .. رافضة الفن الذي ولد معي ومازال يلازمني ليرحل معي ونتواصل سويا في الدار الآخر . أما ( ما هو الفن ) فلا أعرف .. ولا أحد يطلب مني تعريفه .. أعايشه ويعايشني وأتعامل معه يوميا دون أن أضع تعريفا له أو حتي تعريفا لذاتي التي أتركها علي سجيتها وحريتها .. ولقد عرفت منذ طفولتي المبكرة أن هذا ( الفن ) الذي أعايشه وأعشقه وأعيش به وله ولا غني لي عنه أبدا .. هناك أيضا كثيرون يحبونه ويمارسونه ولا يستطيعون الاستغناء عنه.. مما طمأنني واشعرني بأني لست وحيدا في هذا العالم . المولد فن وقد شاهدت في طفولتي مظاهر فنية كثيرة وأنا في أماكن متعددة أهمها مولد سيدي أبو العباس المرسي في ساحة المساجد بحي بحري المطلة علي الميناء الشرقي وقلعة قايتباي .. يمتليء المولد بالناس والأزياء والأشكال والزينات والرسوم الشعبية التي تبهرني ومازالت في أي مكان واي زمان .. زخارفهم وألعابهم ومراقصهم.. وكان أهمها حلقة الذكر وتطويحات الذاكرين ومدائحهم مع الأناشيد والأغاني والطبول والمزامير والطراطير وعربات الكارو المزدحمة بنا نحن الاطفال نصفق ونغني ونرقص والأضواء المبهرة من لمبات النور الملونة أو توهج كلوبات الاضاءة والشموع المتناثرة هنا وهناك تشع بالبهجه.. كان للمكان عبق المولد ورائحته .. البخور والطقوس وعرق الكادحين فيه والمتيمين به وراكبي المراجيح والدوارات .. كان المولد بالنسبة لي عمل فني متكامل .. أعايشه بكل تفاصيله وحيويته وتوهجه وتنوعه .. وجاءت فيما بعد بعض معارضي من وحي المولد وكأنها مولد اخر بدون شيخ أو والي أو مجاذيب .. مثل معرض ( المعلقات عام 1990 بجا ليري زاد الرمال بالقاهرة ) .. وكنت اعود لمنزل جدتي بشارع وكالة الليمون أمام باب خمسة بالجمرك وأقوم بنصب مولد آخر خاص بي وبإمكانياتي البسيطة المتواضعة .. ولكن أطفال المنزل والجيران كانو يجدوا فيه معظم مفردات المولد .. الأراجوز وخيال الظل والألعاب والحلويات المختلفة .. وبعد ذلك حين كبرت قليلا وأصبح عندي آلة لعرض الشرائط السينمائية القديمة كنت أعرض عليهم أفلام شارلي شابلن وغيرها من الأفلام الصامتة .. وقتها وضعت جانبا صندوق الدنيا الذي صنعته بيدي من الكرتون وأحكي فيه قصة الزناتي خليفة وأبو زيد الهلالي وبعض حكايات جدتي بعد أن أحولها الي رسوم بريشتي .. وأصبحت السينما متعتي وغايتي حتي أصبحت قادرا علي صنع أفلام بنفسي بمختلف الطرق والحيل الفقيرة والبسيطة. وفيما بعد عام 1988 أي بعد خمسين عام تقريبا أقمت معرض من وحي (صندوق الدنيا) بقصر التذوق بالشاطبي بالأسكندرية . كنت أنصب هذا المولد في بير السلم حيث يلتف الأطفال حولي مبهورين بهذا العالم المبهج الذي جاء حتي عتبات منزلهم ..لقد ترك المولد والحي الشعبي في منطقة بحري (المدينة التركية بالإسكندرية) وهي غير مدينة الخوجات التي تمتد من ميدان المنشية وحتي محطة الرمل ... والميناءين الشرقي والغربي والخليط السكاني للبحر الأبيض المتوسط ومناخه .. ترك كل هذا بصماته في تكوين شخصيتي وملامح فني واهتماماتي الإبداعية .أستاذي الأول ... الوحش شاهدت الفن الذي أحبه في دكان الحاج الوحش الموجود أسفل منزلنا في شارع وكالة الليمون بحي بحري .. كان الحاج الوحش خطاطا ورساما .. هكذا تقول اليافطة الكبيرة الجميلة المكتوبة بالخط الثلث المذهب .. وهكذا أيضا تقول هيئته .. كان يرتدي بالطو أبيض وباريه أسود للرأس يميل تجاه اليمين .. وبابيون أسود حول رقبته .. ويمسك بالتة ألوان والفرشاة ويقف أو يجلس أمام حامل لوحة الرسم داخل دكانه المكشوف للمارة .. دكان متخصص يرسم وجوه زبائنه نقلا عن صور ضوئية لهم .. أو يرسم تابلوها للفاكهة ليوضع في حجرة الطعام أو تابلوها لمنظر طبيعي ليوضع في حجرة الصالون أو تابلوها لامرأة عارية نائمه ليوضع في حجرة النوم حسب رغبة الزبون .. وكانت هذه التابلوهات رائجة في هذا الزمن يكثر الطلب عليها وخاصة عند تجهيز العروس لمنزلها .. وكنت أراه أيضا يكتب اليفط علي الزجاج او علي القماش او علي لوحات خشبية كبيرة بعد أن يجهزها بالألوان .. أو أراه جالسا ممسكا بالبايب يقرأ في مجلة غالبا ما تكون أجنبية او في جريدة مصرية . و هكذا أصبح الحاج الوحش هو الصورة المثالية للفنان بالنسبة لي .. ولم أكن أعرف من قبل أي صورة أخري تميز الفنان عن غيره من الناس.. ولم اكن أعلم أن ما يفعله الحاج الوحش هو فن وعندما عرفت ذلك أصبح هو ما أريد أن أتعلمه وأشتغل به ولا شئ غيره .. لذلك طلبت من جدي إبراهيم وأنا مازلت في المرحلة الابتدائية وغالبا لم أبلغ بعد العاشرة من عمري أن يطلب من الحاج الوحش السماح لي بالتواجد في دكانه بعد انتهاء دراستي أي فترة بعد الظهر لأتعلم منه الرسم و التلوين و كتابة الخطوط وذلك دون مقابل .. وقد وافق الحاج الوحش وأصبح هو و دكانه مدرستي الأولي الحقيقية في حياتي الفنية المبكرة . بقيت مع الحاج الوحش حتي إلتحاقي بالمدرسة الثانوية الزخرفية عام 1959.. بعدها كنا قد انتقلنا من حي بحري إلي حي الرمل وسكنا في شارع أحمد قمحه في الابراهيمية .. فكنت أزوره من حين لآخر . كنت قد تعلمت عنده مهاراتي الأولي كلها .. وقد وضح لي أن طموحي من الفن أبعد من أن أحققه حسب طلب الزبائن .. وإنما لأعبر بواسطته عما يجيش في صدري وكياني من أفكار وأمنيات وأحلام وخيالات تستحوذ علي عقلي الواعي وغير الواعي ليلا ونهاراً . ورشة أبي ومدرستي الثانية في تعلم الفن كان عمي مصطفي كمال ورعايته المبكرة لموهبتي في الرسم و تزويدي بالألوان والأوراق وتوجيهاته لي بأن أرسم عناصر يرصها أمامي (طبيعة صامتة) من زجاجات ولمبة جاز أو آنية زهور ومما هو متوافر في المنزل مصنعة من خامات مختلفة زجاج و خزف و فخار و نحاس و حديد و خلافة .. في وقت لم أكن أعرف فيه الفرق بين ملمس الاسطح .. أو ما معني (طبيعة صامتة) و(طبيعة حية) .. ولعل عمي كمال كان مشروع فنان أبتلعته الحياة و مطالبها .. فقد ترك هو الآخر مثل أبي المدرسة والدراسة مبكراً ودون أن يكملها وانخرط مع أبي في تعلم ميكانيكا السيارات و الخراطة عند المعلم الخواجة لويجي الايطالي وكانت ورشته في أبي الدرداء .. وهناك بجانب ضريح الشيخ أبي الدرداء افتتحا أبي وعمي أول ورشة لهما قبل أن يكمل أبي الثامنة عشرة من عمره وبعدها بعام تزوج من أمي و بعدها بعام حضرت أنا للحياة مهووس بالفن والفنون لأب مغرم بالاختراعات وكان أشهر ميكانيكي سيارات في الاسكندرية ويطلقون عليه الخواجة عبده كان يشبه اليونانيين .. أليست جذوره من اليونان وبالتحديد من جزيرة كريت. وكان يستطيع إصلاح أي سيارة وخاصة من الموديلات القديمة لا يستطيع أي ميكانيكي آخر إصلاحها .. وهوايته شراء السيارات القديمة أو المحطمة وإعادتها كما كانت جديدة وكأنها خرجت من مصنعها . كان يأمل أبي في أن أصبح مثله ميكانيكي سيارات أو أن أدرس الهندسة الميكانيكية لأنفذ معه اختراعاته ..أنا بتصميم الاشكال والتصاميم و هو بتحريكها.. ولكن لم أحب الميكانيكا أبدا ولم أهتم بها و حتي عندما أصبح عندي سيارة غالبا ما أطلب من أبي شراءها لي بنقودي أنا طبعاً .. فلم أكن افهم في السيارات.. كانت السيارة عندما تتعطل مني أتركها في الطريق و أطلب أبي تليفونيا ليصلحها لي وعندما يحضر كان بمجرد أن يدير ماتور السيارة تعمل علي الفور و كأن لم يكن بها أي عطل علي الاطلاق .. فأبتسم و أقول لأبي السيارة خافت منك .. فيبتسم هو الآخر و كأنه يريد أن يقول لي : ( أنت اللي مش فاهم حاجة خالص .. خلي الفن ينفعك) . من صغري كان يأخذني أبي إلي الورشة من أجل أن أتعلم هذه المهنة و ربما كنت في السابعة من عمري وبالبنطلون الشورت و قد تشحمت يداي و اتسخت ملابسي و أبي يعلمني كيف أحضر له مفتاح عشرة.. أو يطلب مني غسل قطعة من ماتور السيارة فأهرب منه إلي بنك العمل وأفتح علبة صفيح فارغة من علب الزيت و أفردها و أبدأ في تشكيل سيارة كاملة بنفسي .. وقتها يفرح أبي و يخبرني بأنه قادر علي وضع نظام ميكانيكي لتحريك هذه السيارة اللعبة التي شكلتها بسذاجة ة.. وأنه يمكن عندما أكبر أن نفتح مصنع للعب الأطفال الميكانيكية وكنت أصمت لا أرد ة. في منطقة أبي الدرداء وهي منطقة صناعية مشهورة بالاسكندرية وكان يسيطر عليها االطليان فأفتتحوا بها مدرسة ( دون بوسكو) الشهيرة لتعليم المصريين الحرف الصناعية ومنها حرف الزخرفة و النقش والأويما .. و كان أبي يفكر في أن يلحقني بهذه المدرسة ولكن كان لي اتجاه آخر فيما بعد.. بني الايطاليون أيضا مدارسهم وملجأ للعجزة ومستشفي في هذه المنطقة التي خصصها لهم محمد علي باشا.. لقد قسم الاراضي المحيطة بميدان المنشية (ميدان القناصل) إلي أقسام كبيرة منح كل قسم إلي جالية من الجاليات الأجنبية بالمدينة.. ويبدو أن الطليان كان نصيبهم الأرض الواقعة من المنشية الصغيرة إلي مقابر العامود و التي تمر بضريح أبي الدرداء والمسجد العمري بالاسكندرية الذي كان أول مسجد يبني بها بعد الفتح الاسلامي لمصر . كانت مدارس الطليان يشرف عليها الرهبان والراهبات و تفتح أبوابها طوال يوم الجمعة لأطفال الحي.. فتقدم لهم وجبة غذاء وألعابا رياضية و تعرض عليهم أفلاما سينمائية صامتة كنوع من الخدمة الاجتماعية لأهالي الحي وهناك شاهدت لأول مرة في حياتي الافلام السينمائية.. كما شاهدت تماثيل متنوعة في هذه المدارس و رسوما حائطية كبيرة وكان المكان كله جميلا و نظيفا و به حدائق و زهور و عرفت أن هؤلاء الناس يعشقون الفن ويحيطون حياتهم به .(و أنا أكتب هنا الان توفي الي رحمة الله والدي عبد الحليم ابراهيم عبد الحليم عن 91 عاما في مغرب الخميس الموافق 14 أكتوبر 2010) . المدرسة الابتدائية في المدرسة الابتدائية (بعد مرحلة الكتاب الذي ندرس فيه القرآن الكريم و ننضرب فيه من شيخ الكتاب بالفلكة وكان كتابي خلف مسجد المرسي أبي العباس وكان بداية سيئة لتعليمي لأنه جعلني أكره التعليم المدرسي بكل أشكاله) . في المدرسة الابتدائية وجدت مكانتي التي أسعدتني كصاحب موهبة ورسام المدرسة الأول وجعلوني مسئولي عن غرفة سحرية أصبحت هي كل عالمي (غرفة الاشغال الفنية) ورغم ذكائي المبكر إلا أني كنت تلميذا بليداً في كل المواد الدراسية الأخري .. لم تكن لدي القدرة علي الحفظ مطلقاً و حتي الآن .. و كل المواد الدراسية تحتاج إلي حفظ خاصة اللغة العربية والانجليزية ولكني كنت بارعا في الجغرافيا ففيها تجد ذاكرتي البصرية مكانها وهو رسم الخرائط .. كما كنت أحب التاريخ فهو ايضا مشحون بالصور البصرية التي يمكن أن أتخيلها للملوك الأبطال والبلاد والحروب وفي التاريخ أيضاً توجد خرائط .. وكنت قادراً علي رسم خريطة العالم وأحدد بها كل بلاد الدنيا من ذاكرتي .. كانت ذاكرتي البصرية قوية .. فإن استطعت استيعاب نص لغوي شكلا فمن الممكن أن أعيده بالرسم و بالتالي فالنصوص المحفوظة عندي حجمها صغير ونطقها بسيط ولابد من أن تتميز بشي خاص أو تركيبة شكليه غير عادية . كان الضرب نصيبي في حصة الانجليزي و التشجيع نصيبي في حصة الرسم و الأشغال الفنية التي تعلمت فيها أعمال الاركت و عرفت تشكيل التماثيل بالصلصال و عمل الزخارف المختلفة و طبعها علي أي سطح و كتا ندرس الخط العربي و أنواعه وكانت المدرسة بالنسبة لي هي الرسم والاشغال الفنيه فقط . (وأنا أكتب الآن اصدر وزير التربية والتعليم قرارا بالغاء مجموع مادة الرسم من نتائج الامتحانات .. بمعني الغاء حصة الرسم نهائيا بحجة أن الرسم موهبة يتمتع بها عدد قليل جدا من الطلبه .. ونسي أن الهدف منها هو تربية فنية وثقافة جمالية للطلبة وفي سن مبكرة وليس لها اي علاقة بالموهبة الفنية) . ثورة يوليو 1952 وأنا في التاسعة من عمري قامت ثورة العسكر علي الملك فاروق الذي كنت أشاهد قصره وسفينته في رأس التين من نافذة منزل جدتي.. وهكذا مشيت في مظاهرات تؤيد الحركة المباركة ثم تهتف لمحمد نجيب. و كنت من قبل أمشي في مظاهرات مختلفة أيام الملكية لا أدري عنها أي شئ.. كان طلبة المدارس الثانوية (ولم يكن هناك بعد نظام الدراسة الاعدادية) يأتون لمدرستنا و يخرجوننا منها بالقوة لنسير معهم في مظاهرتهم التي تهتف بفلان أو تشتم فلانا وأنا لا يعنيني من كل هذا أي شئ .. وأجدها فرصة لأزوغ من المظاهرة إلي المنزل لأرسم. وقد أخذونا في أحد الايام في أفواج طويلة من الاتوبيسات إلي منطقة العامري في ضواحي الاسكندرية لنزرع شجرا وقالوا إن محمد نجيب زعيم الثورة هناك يزرع شجرة .. كان موضوعاً جميلاً بالنسبة لي.. الناس تزرع شجرا و رسمت ذلك علي فرخ ورق كبير وعلقته في حوش المدرسة و هكذا بدأت اللوحات الجدارية تظهر فقد طلبوا مني في المدرسة رسم حائط كامل يمثل فرحة الشعب المصري بالثورة.. فرسمت الموضوع علي الحائط بشكل مباشر و كانت تجربة جديدة و صعبة علي طفل في العاشرة من عمره أن يصعد سلم و يمسك بفرشة أو عليها لون ليرسم الخطوط الأولي للوحة جدارية بدون سقالات أو معاونين . وفي عام 1956 حدث العدوان الثلاثي علي مصر (انجلترا و فرنسا و اسرائيل) وقتها وصلت لوحاتي الحائطية الي الشوارع والميادين العامة .. حتي فوق سطح منزلنا رسمت لوحة كبيرة علي السطح مباشرة حتي يراها الطيارون المعتدون علينا والذين يمرون بسرعة فوق مدينتنا ويرمون بقنابلهم تجاه الميناء الغربي التي أسكن بجوارها .. وكنا نجري من حارة إلي حارة حتي نصل إلي مكان موقع سقوط القنابل لنتفرج .. وقد رسمت كل هذه الأحداث و خاصة الانزال بالمظلات في منطقة قنال السويس وعلي مدينة بورسعيد وكانت لوحات اسقاط المظلات علي بورسعيد من أهم رسوماتي التي أرسمها علي أفرخ كرتون كبيرة وأوزعها هنا و هناك وتعجب الجميع . في الكتب كنوز فنية وكانت الكتب بمثابة مدرستي الثالثة في تعلم الفن .. وهي مصدر ثقافتي العامة التي حرصت علي تنميتها دائماً .. و من الكتب أحب جمع المعلومات والوثائق والاحتفاظ بالأشياء وأرشفتها و توفير المراجع تحت يدي وهو الأمر الذي انتهي بي الي ما أنا عليه اللأن من ورطة كبير في حجم ما أحتفظ به من محفوظات خاصة الورقية من كتب ومجلات ودوريات ووثائق و طوابع البريد و الكروت التذكارية وتذاكر المواصلات والبوسترات المختلفة وكل ما هو ورقي يمكن حفظه من كتالوجات المعارض والصور الفوتوغرافية و الأفلام التي صورتها عن الفنانين سواء بكاميرا 8مم سوبر أو بعد ذلك بالفيديو ثم ظهور الكمبيوتر و كأنه اختراع اخترع خصيصا لي و لتلبية هواياتي هذه و أصبح ما أحفظه أو أرشفه الكترونيا من الكثرة بحيث أني اشتري اجهزة خاصة لحفظ مئات من الاسطوانات الالكترونية لوضع المواد الفنية و كتاباتي عليها حتي لا تضيع ودخلت في متاهات كبيرة تجعلني في لحظة أقف أمام هذا الكم من المواد العلمية مشلولا لا أدري ماذا سأفعل بها أو ما هو مصيرها بعد أن أموت . في طفولتي وجدت الكتب و المجلات حولي .. كان أبي يشتريها مثل مجلات ألف ليلة و ليلة وقد بهرتني الرسوم التي بها .. ومثل أعداد مجلة الهلال الشهرية و كتاب الهلال وروايات الهلال و من مجلة الهلال تعرفت علي الفن المصري الحديث ورواده العظام مثل محمود مختار الذي له تمثال عظيم لسعد باشا زغلول في ميدان محطة الرمل كنا نذهب إليه كل عيد لنتصور أمامه بآلة التصوير المائية التي كانت منتشرة في ذلك الوقت .. وعرفت محمود سعيد و محمد ناجي وكنت أخلط بينه وبين الشاعر ابراهيم ناجي ولكني علمت ان محمد ناجي كان أيضاً شاعراً في شبابه يكتب الشعر بالفرنسية و كان صديقا لشعراء سكندريين أصبحوا عالميين مثل انجريتي و كفافس .. ثم بدأت من صغري أشتري الكتب و المجلات القديمة بالجملة من بائع الصحف الموجود في شارعنا ببحري .. أستلف من جدتي نينه شبرا هانم جنيها كاملا وأشتري به ( لوط ) كتب قد تحتوي علي أكثر من مائة كتاب ... أنقلها مع أصدقائي لمنزل جدتي و أقوم بفرزها فأحتفظ بكل الكتب العربية ايا كانت وبالكتب الاجنبية التي بها لوحات ورسومات وصور ثم أبيع ما يتبقي منها لأشتري من جديد مجموعة كتب أخري .. وهكذا أصبحت عندي مكتبة في وقت مبكر ما زالت معظم كتبها موجودة عندي حتي الآن في مكتبتي التي أنتشرت في معظم حجرات مرسمي وبيتي بالعجمي . الناس و الفن و هكذا عرفت من وقت مبكر أن الناس في كل الدنيا مشغولون بالفن .. ولكل شعب من شعوب العالم فن خاص به و فنانون يفخرون بهم ويقيمون للفن وآثاره متاحف و معارض و يضعونه في منازلهم و محل عملهم وشوارعهم و ميادينهم .. و كنت في ذلك الوقت المبكر من حياتي أقف مبهوراً أمام تمثال محمد علي باشا في ميدان المنشية مبهوراً بواقعيته ودقة تفاصيله و كأنه علي وشك التحرك للأمام من فوق المنصة التي يقف عليها و قد علمت فيما بعد أن أهل الاسكندرية خرجوا في مظاهرات غاضبة عند نصب هذا التمثال التذكاري لمؤسس مصر الحديثة محمد علي باشا و كان اعتراضهم علي أن التمثال الذي يحيط به أربعة أسود سيتوسط ميدان القناصل (المنشية) والناس ستطوف حوله و هذا حرام .. و لم ينقذ الموقف إلا فتوي الشيخ محمد عبده الشهيرة التي لا تحرم التمثال طالما كان لذكري شخصية معروفة و ليس محل عبادة .. و تم نقل تماثيل الأسود إلي كوبري قصر النيل بالقاهرة ووضع التمثال داخل مستطيل كبير حتي لا يشكل المرور حوله طوافا دائريا أستهجنه شعب الاسكندرية .. و كنت أقف أيضاً أمام تمثال الخديو اسماعيل علي البحر في المنشية و نأخذ أمامه صورا تذكارية أيام العيد في صحن النصب الرخامي الرائع الذي يتوسطه الخديو المصبوب بالبرونز و أصبعه تشير إلي البحر وإلي الشمال حيث أوروبا التي أغرم بها و أراد أن يجعل مصر قطعة منها . و قد علمت فيما بعد أن هذا التمثال هدية من الجالية الايطالية بالاسكندرية للمدينة التي رحبت بهم و أصبحوا من أهلها .. و تمثالها محمد علي و الخديو اسماعيل من عمل نحاتين أجانب . أما تمثال سعد زغلول في محطة الرمل و هو نصب تذكاري عظيم به عمارة متميزة و لوحات من النحت البارز و تمثالان لسيدتين تمثلان الشمال و الجنوب المصري .. هذا التمثال كنت أعلم منذ صغري أنه لفنان مصري هو رائد النحت المصري الحديث محمود مختار و علمت بعد ذلك أن الشعب المصري كان يكتتب و يتبرع لكي تقام تماثيل مختار سواء تمثال نهضة مصر الذي وضع في أول الأمر أمام محطة مصر بالقاهرة (باب الحديد) ثم نقل إلي ميدان جامعة القاهرة .. او تمثال سعد زغلول بالاسكندريه و أسعدني أن الشعب المصري كان لدية هذا الوعي وهذا الحافز لإقامة أعمال فنية لتخليد زعمائه.. وكانت الاسكندرية و القاهرة تمتليء ميادينها بالتماثيل .. ووجهات مؤسساتها بالأعمال الفنية .. و قد شاهدت بنفسي بعد ثورة يوليو توقف هذه المظاهر الجمالية و حين عادت في بدايات القرن الواحد والعشرين وتم إقامة بعض التماثيل الميدانية و الجداريات نفذت اعمال فنية ضعيفة و تزينية و بخامات غيرنبيلة (السراميك )وكان لابد ان تنفذ من الجرانيت أو البرونز أو الاحجار أو الخشب.. وحتي الآن لا أدري سبب ضعف الأعمال الفنية المعاصرة التي توضع في ميادين مصر الآن هل مرجع ذلك ضعف الفنانين مبدعيها أم ضعف الحس الفني العام في مصر بشكل شامل ولد منه هذا الهزال الفني .. و عندما سافرت إلي أوروبا و بعض البلاد العربية في المشرق والمغرب وجدت الاهتمام الرفيع بالاعمال الفنية و الميدانية و الجداريات وحزنت لحالنا . لقد أسعدني أن الفن الذي أحبه .. يحبه الناس أيضا و يعتنون به .. و أن هوايتي الفنية هواية جماهيرية و شعبية فنحن نرسم بمجرد دخلونا المدارس و سيظل الرسم و النحت و الطباعة في محور حياتنا اليومية حتي نموت وحين نرحل عن الدنيا يستمر الفن في الحياة . لوحاتي الأولي بدأت في ذلك الوقت من عام 1956 تقريبا و عمري ثلاثة عشر عاما .. في رسم أولي لوحاتي التي تتابعت بعد ذلك و عرضت في معرضي الأول عام 1961قبل تخرجي من مدرسة الفنون الزخرفية .. و ما زالت معظم هذه اللوحات محتفظ بها حتي الآن .. (قدمتها في معرض ثان أهداءالي شباب و هواة الفن عام 2006 ليعرفوا إن بدايات معظم الفنانين متشابهة إلي حد كبير) . جهزت أسطحا من الكرتون للرسم عليه فهو أرخص ما يمكنني شراءه في ذلك الوقت الذي كان مصروفي لا يتعدي قرشا واحدا أي عشر مليمات كاملة . و دهنت الكرتون بمزيج من السبداج و الزنك الابيض و الغراء الطبيعي ثم طحنت الالوان بزيت بذرة الكتان الني .. ووضعت كل لون في برطمان خاص به .. فهكذا تعلمت في دكان الحاج الوحش أصول الصنعة.. أسندت اللوحة علي ظهر كرسي فلم يكن عندي حامل للرسم و رسمت أولي لوحاتي .. رسمت نفسي في زي فنان ببالطو أبيض و كاسكيت أسود و بابيون في رقبتي ممسكا بالتة الألوان و الفرشاة و أمامي حامل الرسم عليه شاسية مشدود بتوال الرسم الأبيض .. و أمامي موديل عاري أرسمها داخل مرسمي المتخيل الذي به نافذة كبيرة يدخل منها ضوء النهار .. كانت لوحة ساذجة بكل المعايير ولكنها عبرت أقوي تعبير عني في ذلك الوقت حين وضعت نفسي داخل العالم الذي أحبه بشكله التقليدي الذي عرفته من الفنان الحاج الوحش أو من بعض الصور واللوحات الفنية التي أطلعت عليها في الكتب والمجلات الفنية للفنان في مرسمه .. والظريف ان هذا الموقف الذي رسمته لنفسي كفنان لم أقفه في الواقع علي الأطلاق .. لم ألبس بالطو ابيض أو كاسكيت أسود و لم يكن لي مرسم به نافذة مائلة كبيرة كمصدر ضوء ولم ارسم موديل عاري خارج كلية الفنون الجميلة منذ تخرجي وحتي الآن رغم أن كثيرا من لوحاتي الأخيرة معظمها لنساء عاريات .. وعموما لم أكن أبداً فنان موديل أو أي نماذج أخري يجب أن توضع أمامه وإنما أنا فنان خيال أرسم مباشرة من خيالي و في مرحلة من مراحلي كنت أستعين بالموديل لأضعه أمام اللوحة و أحدد حوله بالقلم خطوطه الخارجية لينتهي دوره عند هذا الحد . و كانت لوحتي الثانية التي أتذكرها و هي مهمة جداً عندي لموضوع من الطبيعة الحية يمثل ميناء الاسكندرية.. رسمته من نافذة منزل جدتي و الذي يطل علي الميناء الغربي .. و ما زلت معتزا بهذه اللوحة التي كشفت براعتي في تسجيل منظر طبيعي بأسلوب تقليدي لم يتكرر بعد ذلك في لوحاتي و ظهرت في اللوحة السفن التجارية في الميناء و خلفها منارة الاسكندرية و سراي الملك فاروق في رأس التين . هكذا افتتحت مرسمي الأول في منزل جدتي علي ظهر كرسي و تحت رعايتها المادية و المعنوية فقد كانت تمدني بالنقود التي اشتريت بها الخامات علي وعد مني بردها عندما أبيع لوحاتي .. و تحت رعاية معنوية من عمي كمال الذي كان مشروع فنان حالت ظروف حياته من أن يتحقق.. و كذلك بمباركة من أستاذي الحاج الوحش .. و لا أدري هل كان جدي ابراهيم يشاهد لوحاتي و يعلق عليها و اعتقد انه لم يهتم بها رغم انه كان يستقبلني عندما أذهب إليه في مقهي باب خمسة بالجمرك (قهوة الجرتلية) استقبالا حافلاً و يناديني أمام الجميع بالباشمهندس عصمت و يقدم لي المشروبات التي أحبها و خاصة الكاكاو باللبن أو القرفة بالبندق أو السحلب بالمكسرات . الفنان الصغير و هكذا استقر الحال و أعلن عن مولد فنان صغير.. ولم أعد رسام المدرسة الشاطر .. و انما فنان ينفذ جداريات كبيرة علي الحوائط ويبدع لوحات فنية.. رسمت طوال خمس سنوات (1956 - 1691) كل لوحات معرضي الأول وكانت معظم موضوعات لوحاتي من استلهام البيئة المحيطة بي و هي بيئة سكندرية سواحلية أصيلة .. رسمت المباني و مراكب الأنفوشي و الموالد و الأفراح الشعبية و المساجد و أولياء الله و الدراويش .. كما رسمت موضوعات من خيالي عن الانسان و رحلته في الحياة و خاصة آدم و حواء .. و استمر حضوري في د كان الحاج الوحش لأساعده في بعض الأعمال التي تعلمتها منه و معظمها أعمال حرفية مثل تجهيز الأسطح للرسم ثم وضع الأرضيات الملونة علي المساحات التي خططها للوحة المرسومة و يقوم هو بعد ذلك بإنهائها .. و كذلك ملء الخطوط التي يكتبها في اليفط الكبيرة و لكنه لم يسمح لي بوضع أوراق الذهب في أمكانها و خاصة في يفط الخط الثلث أو الكوفي و اضطررت لشراء دفتر ورق ذهب و أدواته لأجرب وضعه فوق بعض رسوماتي لأتعلم التذهيب وكنت أجهز معه إطارات الوحات من تحضير العجينة الورقية ووضعها في قوالب الزخرفة التي تحيط بالبرواز و بعد جفافها ألصقها في أماكنها و أدهن البرواز كله بالسبداج والغراء لسد اللحامات والشقوق إلي أن ينتهي العمل فيه بدهانه باللون الذهبي أو لصق ورق الذهب الفينو عليه وتبتينها بالاكاسيد . ليضع داخلها اللوحات التي رسمها للزبائن و هي عادة لوحات تقليدية.. فصورالزهور وأطباق الفاكهة للسفرة .. والمناظر الطبيعية و معظمها كروت لمناظر في إيطاليا لحجرة الصالون .. وامرأة عارية مستلقية علي فراشها لتوضع فوق سرير حجرة النوم .. و كانت هذه الثلاثية من اللوحات التجارية منتشرة في مصر وربما فيي العالم كله ذلك الوقت واختفت الآن من بيوتنا .. هذا بجانب رسم الصور الشخصيه للزبائن الذين يعطونه صور أبيض و أسود صغيرة فيكبرها ويرسمها ويلونها في تابلوه كبير و كأن الزبون كان جالسا أمامه طوال الوقت . تعلمت كل هذه الحرف و أفادتني كثيراً فيما بعد و لكن أهم ما أنجزته في دكان الحاج الوحش هو زخرفتي لعشر عربات يد من التي يتجول بها الباعة السريحه في حواري و أزقة المدينة وفوقها البضاعة التي يبيعونها.. و كانوا يستأجرونها باليوم من معلم له وكالة أو مخزن تضم هذه العربات وقد أحضر المعلم عشر عربات جديدة من ورشة النجارة وطلب من الحاج الوحش زخرفتها و كتابة بعض الآيات القرآنية عليها . بهرتني الفكرة ووجدتها فرصة لأثبت مهارتي وحصيلة ما تعلمته من معلمي.. وطلبت منه أن يترك هذه العربات لي أزخرفها واكتب فوقها الآيات المطلوبة .. وكانت هذه العربات أول عمل فني مركب أمارسه قبل أن أعرف أي شئ عن الأعمال المركبة أو المفاهيمية و لعلها لم تكن قد ظهرت بعد في الساحة الفنية العالمية في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي . كان لدكان الحاج الوحش طابع فريد.. مزين بلوحات جميلة.. أتذكر لوحة للميناء مستطيلة وبها سفينة تجارية ومرسومة بألوان زيتية خفيفة وكأنها ألوان مائية وسألت الحاج الوحش هل هو الذي رسمها فأخبرني أن الفنان الذي رسمها اسمه (هدايت) وهو فنان تركي عاش فترة في الاسكندرية .. كانت هناك لوحات أخري وكتب ومجلات متناثرة هنا وهناك.. كان الدكان بمثابة أول متحف أدخله وأول مكتبة عامة أتعامل معها وأول أكاديمية شعبية للفن أتعلم بها وبمجرد التحاقي بالمدرسة الثانوية الزخرفية تركت كل هذا . أحلام الفتي الصغير كنت حتي ذلك الوقت فتي ضئيل الحجم .. خجولا صامتا وانطوائيا .. و لعل روح الفن الكامنة داخلي كانت بمثابة المحرك الحيوي الذي أعيش به .. فلم أكن أتكلم إلا قليلاً وبصعوبة ولكني كنت أرسم كثيراً .. ولم أكن اجتماعيا في أسرتي .. ولكني كنت زعيما و قائدا بين أقراني من أطفال الحارة والمدرسة .. فأنا الذي ينظم لهم الألعاب والأنشطة والجولات الميدانية بعيداً عن شارعنا و حتي حدود حي بحري دون الخروج منه إلي المنشية حي الخواجات .. فأخذهم إلي الميناء الشرقي حيث قلعة قايتباي والمركب المصدية الغارقة أمام مسجد أبي العباس للبحث عن الكنوز التي لم نعثر عليها مطلقاً .. أو نذهب إلي ورش تصنيع المراكب و الفلايك.. متمنيا أن تكون لدي فلوكة صغيرة مربوطة في الميناء الشرقي الذي أحلم بأن أقوم بتفريغه من المياه و اكتشاف ما في قاعه من كنوز وآثار ومراكب غارقة.. ثم تكبر الفلوكة الصغيرة و تصبح سفينة شراعية كبيرة أطوف بها العالم كله وأتزوج في كل ميناء عروسة جديدة .. كانت أحلامي و فني يعوضاني عن سلبيتي الاجتماعية والدراسية فقد كنت متمرداً علي دروس المدرسة و مهملاً لها ومهتما كل الاهتمام برسومي و أحلامي ووقتها بدأت أكتب كتاباتي الأولي الساذجة وكانت معظمها قصصا رومانسية أوأشعارا ساذجه او مغامرات صبيانية . ساعد علي إنعزالي ووحدتي وجودي في منزل جدتي بمفردي بعيداً عن أخوتي البنات الثلاثة .. ولا أعرف حتي الآن ملابسات وجودي منذ صغري في منزل جدتي التي بقيت به حتي بلوغي سن الشباب حين تزوج عمي كمال فاضطررت للعودة إلي منزل أبي وأمي مع أخوتي البنات.. كنت الطفل الأول لأبي لذلك ربما حين أنجبت أمي ثلاث بنات واحدة وراء الأخري بعدي و أزدحم المنزل بالاطفال أقترحت جدتي أن تأخذني وقامت بتربيتي في حضنها تربية تقوم علي الحب والدلع والاستجابة لكل مطالبي.. هنا انتعشت خيالاتي الفنية وهواياتي المتعددة ودعمني عمي كمال بالتوجيهات فكانت بيئتي في حياتي الأولي بيئة ثرية وحيوية باللعب والحرية.. وعندما أنتقلت لمنزل أمي كأني انتقلت من الجنة إلي النار وصارت حياتي حجيماً فقد رفضت امي كل ما أفعله. المدرسة الثانوية الزخرفية حصلت علي الشهادة الاعدادية بصعوبة وأراد أبي أن أكمل دراستي للحصول علي الشهادة الثانوية العامة لأدخل كلية الهندسة.. رفضت ذلك تماما و قلت لأبي: لو دخلت الثانوية العامة لن أخرج منها أبداً.. لابد من أن ألتحق بالمدرسة الثانوية الزخرفية في الشاطبي .. أخذت لوحاتي وتوجهت بمفردي للمدرسة التي تواجه مقابر الأجانب من ناحية وحدائق الشلالات من الناحية الأخري.. و طلبت مقابلة ناظر المدرسة.. بخجلي و صمتي وانطوائي .. تحركت بجرأة لتقرير مصيري التعليمي.. كنت أعرف أن هذه المدرسة هي التي تتوافق مع رغباتي وإمكانياتي وإن مناهج التعليم فيها هي التي أريدها.. استمع لي الناظر بهدوء وابتسامة لا تفارقه منذ أن قلت له: أنا فنان أرسم وأريد أن أتعلم في هذه المدرسة وهي منقذي الوحيد من الالتحاق بالثانوية العامة.. كان ينقص مجموعي درجة تسمح لي بالالتحاق بهذه الدراسة ولكن الناظر وافق وكتب في طلبي انه يوجد مكان لهذا الطالب وأخبرني أن أتوجه للإدارة التعليمية لأخذ الموافقة النهائية .. و هكذا أصبحت طالبا في المدرسة الثانوية الزخرفية وكان بها قسم للميكانيكا ويطلقون عليها (مدرسة محمد علي الصناعية) و أخبرني الجميع أنها مدرسة تضم (الصيع و المجرمين) ولم يكن هذا حقيقيا ولم أر بها أي صايع أي تصرفات إجرامية .. وكانت بمثابة معلمي الكبير الذي علمني أشياء كثيرة غير الرسم و الزخرفة مثل الرسم الهندسي والنجارة والنحت علي الأخشاب والتكنولوجيا والمقايسات و غير ذلك من العلوم والخبرات التي أفادتني طوال حياتي و سهلت علي تنفيذ أعمالي الفنية المختلفة بعد ذلك .. كنت طالباً متفوقاً ودائما الطالب الأول علي الفصل بل علي المدرسة .. بل علي المنطقة التعليمية كلها و أصبحت رئيس اتحاد الطلبة وكونت جماعة الصحافة و أصدرت صحيفة حائط أسبوعية حصلت علي العديد من الجوائز المدرسية وأنشأت جماعة التصوير الفوتوغرافي وجماعة الجوالة (الكشافة) و كنت أناالخجول الذي يتهته في الكلام ألقي خطبة الصباح في طابور المدرسة كل يوم .. لقد تفجرت طاقاتي وإمكانياتي كلها .. وكان لي حجرة خاصة بي أمارس بها أنشطتي و أجتمع فيها مع زملائي الطلبة رمزي حنا وشاكر المعداوي وغيرهم.. وقبل أن أتخرج منها في أوائل عام 1962 أقمت فيها أول معارضي المعترف بها في سيرتي الذاتيه (سبق و أن اقمت معارض لأعمالي بالشارع أو علي عربة يد ولكنها كانت معارض صبيانية لا أذكرها الان).. ودعوة الفنان سيف وانلي لافتتاحه وقد ضم هذا المعرض ثمانين لوحة تقريبا معظمها رسوم بالألوان الزيتية علي كرتون وهي حصيلة ما رسمته خلال الخمس أو الأربع سنوات السابقة.. والذي شجعني علي إقامة هذا المعرض قبل تخرجي من المدرسة هو حصولي علي الجائزة الأولي علي مستوي طلاب الأسكندرية في المعرض الجماعي الأول الذي شاركت فيه.. وضم الأعمال الفنية لطلاب المدارس الثانوية وطلاب الجامعة الذين يمارسون الفن وكان ضمن المشاركين طلاب كلية الفنون الجميلة وقد حصلت علي الجائزة الأولي في التصوير الزيتي عن لوحتي (في انتظار الفرج) وكنت قد شاركت بعشر لوحات واعتبرت هذه الجائزة هي العلامة الفارقة في بداياتي ،ان يكون الفن هو حياتي، وقد علمت ان الذي منحني الجائزة وقام بالتحكيم هو الفنان سيف وانلي .. وهذه الجائزة هي التي شجعتني علي إقامة معرضي الأول . عالم اوائل الستينيات وكانت بداية التحاقي بكلية الفنون الجميلة عام 1962 مرحلة جديده في رحلتي مع الفن .. كانت المرحلة السابقة وهي فترة الدراسة الثانوية فترة فارقة في حياتي الفنية ففيها تعلمت معظم الذي أعرفه الآن من تقنيات وحرفة .. وفيها استقر يقيني علي ان أعبر بالفن عن ما أريده أنا فقط وليس ما يريده الآخرون .. وخلالها قررت أن أهب حياتي للفن وأن أتوازن مع متطلبات حياتي الأخري بحيث يكون لفني الأولوية دائما. في ذلك الوقت عرفت أشياء كثيرة عن تاريخ الفن وعن معني الفن وزرت تقريبا معظم المتاحف الموجودة في مصر (القاهرة) والأسكندرية وخاصة المتاحف الفنية ولم يكن وقتها بالأسكندرية غير متحف الفنون الجميلة بمحرم بك (والمتحف اليوناني الروماني) وكنت اذهب اليه وأشاهد مقتنياته المتحفية أو دورات بينالي الأسكندرية الأولي... وكنت أقف مبهورا أمام أعمال فنية جديدة أراها لأول مرة وما كانت تخطر علي بالي اطلاقا هذه الاتجاهات الحديثة وكان يشغلني دائما كيف انجزها الفنان مبدعها.. وشاهدت أيضا لأول مرة في حياتي بعض المعارض الخاصة لبعض الفنانين المعروفين بالأسكندرية سواء في قاعة العروض بمتحف الفنون او قاعة العروض بأتليه الأسكندرية الذي كان معظم من فيه أجانب .. وكانت فتارين المحلات التجارية بالمدينة تضع لوحات فنية لفنانين أجانب يعيشون في الأسكندرية ويحملون الجنسية المصرية.. وعرفت في عام 1960 مرسم سيف وانلي في الجامعة الشعبية والتحقت به بخمسة صاغ في الشهر.. وكان هذا أول لقاء مباشر بيني وبين فنان مشهور وتلامذته.. ولكن لم أصبح واحدا منهم رغم حبي لسيف وتأثري بأعماله في بداياتي وتركت المرسم بعد ثلاث حصص... فقد كان يجلس أمام لوحتي التي رسمتها بالفحم لرأس من الجبس امامي ويمسحها بأطراف أصابعه ليرسم التمثال كاملا في لحظة واحدة ثم يقوم كما جلس صامتا لا يقول كلمة واحدة وعلي أن افهم مايريد ابلاغة لي: (ارسم كده زي ما انا عملت).. فأعود امام اللوحة التي رسمها سيف لتعليمي صامتا انا الأخر.. واقوم بلفها بحرص لأحافظ علي خطوط الأستاذ وأنصرف حاملا رسما سريعا اهداء من الفنان الكبير ولكن بدون توقيعه.. وقد ضاعت مني هذه الرسوم لبالغ الأسف. لم استطع ان أستوعب دروس سيف وانلي مثل تلامذته المحيطين به وكان اهمهم في ذلك الوقت محمد القباني ونور اليوسف وسمير المسيري وغيرهم الذين اصبحوا فيما بعد نسخة منه.. لم أستوعب تلك الأكاديمية التقليدية ، تمثال وورق وفحم وطبيعة صامتة، حتي بعد دخولي لكلية الفنون الجميلة.. وان ظلت معرفتي بسيف وانلي مستمرة ومتواصلة حتي وفاته. وعرفت كذلك بوجود (مدرسة تحسين الخطوط ) التي أنشأها أستاذ الخط العربي محمد إبراهيم وأخوه كامل إبراهيم فألحقت بهذه المدرسة لأتعلم الخط ولكني لم أتعلمه فقد اكتشفت أنه موهبة ... لقد تعلمت كيف أرسم الخطوط العربية وأنواعها وأدواتها وغير ذلك ... ولكن ظل خطي الذي اكتب به تصعب قراءته ... لم أكن موهوبا في الخط .. وعرفت خطاطين مهرة لم يدخلوا مدرسة تحسين الخطوط أبدا فتركت المدرسة بعد عامين من الدراسة التي افادتني كثيرا . (وانا اكتب الان في 23 / 11 / 2010 قرأت أن وزارة التربية والتعليم أغلقت من يونيو الماضي مدارس الخط العربي في جميع المناطق التعليمية بمصر وعدد هذه المدارس 60 مدرسة تقريبا.. حسنا فعلت وزارة التربية والتعليم فلا داعي للخط العربي ولاداعي لحصص الرسم والاشغال الفنية.. وكان علي الوزارة أن تلغي بالمرة التربية والتعليم) . كنت شغوفا بتعلم كل شيء يفيدني في عملي الفني وفي هذه الفترة اتيح لي أن أشارك في معرض فني جماعي نظمه الاتحاد العام لطلاب الأسكندرية في منتصف عام 1961 في المبني الذي يشغله الآن ( المركز الثقافي الفرنسي ) في شارع النبي دانيال الذي أخذته الثورة من الفرنسين وخصصته لاتحاد الطلبة ومقرا لانشطته في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي .. لقد اشتركت بعشر لوحات من أعمالي ذكرت في كتالوج المعرض الذي أحتفظ به حتي الآن .. وفزت لاول مرة في حياتي بأول جائزه أولي وربما اخر جائزة اولي عن لوحة ( في انتظار الفرج ) وكنت فيها متأثرا بأسلوب سيف وانلي ولكن لا أقلدة وكان هو رئيس لجنة التحكيم . جعلتني هذه الجائزة أقرر إقامة معرض شامل لاعمالي ( كما سبق وان حكيت ) و التي أنجزتها طوال الخمس سنوات الماضية لوحات تجمع بين طفولتي وأوائل شبابي .. ألم أصبح بعد هذه الجائزة فنانا معترفا به ..وطلبت من سيف وانلي ان يفتح لي هذا المعرض في قاعة المسرح بمدرستي الزخرفية الثانوية وقد رحب وحضر وافتتح المعرض .. كانت هذه الجائزة بمثابة إشارة ربانية لي بان الفن هو طريق حياتي الوحيد .. وقد اكسبتني الجائزة ثقة في نفسي وفي ابداعاتي ودعمت موهبتي . كنت أيامها من رسامي نادي الرسامين في مجلة صباح الخير التي أصدرت أول أعدادها عام 1956 ومنذ ذلك التاريخ أبعث اليها برسائلي التي بها رسومي وقصصي القصيرة وكنت اتمني ان اعمل بها بعد انتهاء دراستي الجامعية .. وقد نشرت لي المجلة كاريكاتيرا ملونا علي كامل غلافها الخلفي .. لذلك كانت اول زيارتي وانا في مصر ( القاهرة ) لأداء امتحان القدرات لدخول كلية الفنون الجميلة ان زرت مبني مجلة صباح الخيرفي شارع القصر العيني وطلبت من الحارس ان أقابل أحد رسامي المجلة فكان رده صادما : النهارده مفيش غير الأستاذ صلاح الليثي أطلعله .. وكنت من المغرمين برسوم الليثي فهو رسام بارع وخطوطه بسيطة وثرية ومعبرة وتشعر بأنه لا يرسم كاريكاتير وانما يبسط بعض مواقف الحياة الساخرة في خطوطه القوية السريعة .. عرفته بنفسي وقدم لي كوب شاي ونصحني بأهم نصيحة توجه لاي فنان شاب في مقتبل تجربته الفنية : ( لا تتوقف عن الرسم مطلقا ... ارسم كل شكل حولك ).. وهذا ما كنت افعله منذ ان امسكت بقلم في يدي ومازلت افعله حتي الأن . كانت فترة دراستي بالثانوية الزخرفية فترة فارقة في حياتي اكتسبت خلالها معظم خبراتي .. وتعرفت علي خاماتي التي سأستعين بها فيما بعد والتي شكلتني .. وخرجت من هذه الفترة كمشروع لفنان واع .. كما كان سيف وانلي يقولها لي دائما. كانت هذه الفترة من أجمل فترات حياتي واهم ما عرفته خلالها هو أن الفن والحياة متلازمان لاغني لأحدهما عن الآخر .. والفنان انسان محظوظ لدية الفن يعبر به عن كل شيء يجول في خاطره .. والفنان أكثر حظا من الأنسان العادي فقد وهبه الله موهبة عظيمة وهي القدرة علي الأبداع .. واكتشاف جمال هذه الحياة.. وقرابينه التي يجب أن يقدمها للناس هي أعماله الأبداعية ... عطاء مقدس بلا مقابل .