عندما يقف الروائي علي هضبة الكتابة يطل علي الحياة كأرض بكر ولأنه مزارع يعرف جودة الأرض الخصبة يتجه مباشرة لحرثها قاصدا نية الزراعة، يزرع عوالمه المتخيلة، يشيد بنيانا، يقيم مدنا، ويشق بحارا وأنهارا، ويستعير الكلمات كأرحام يَصْب فيها أناسا وأحداثا وأقدارا. منذ البدء وقفت علي قوله تعالي: (نحن نقص عليك أحسن القصص)، فتنبهت أن الله أرتضي لنفسه القص، وارتضي أن يتخذ القرآن الصياغة السردية كمواز لثقافة العرب المتخمين شعرا، فلماذا كان السرد هو السنام الذي حمل الرسالة الجديدة؟ ولماذا نهض القص كمعادل موضوعي للشعر ؟. ثمة سر مخبأ يمتلكه السرد، ففي كل زاوية منه عالم يموج بالأسرار، إن السر هو لغز الكون، ونظرة فاحصة سوف نجد أن كل آية قرآنية هي عالم سردي متوالد في متوالية هندسية ليس لها مدي أو حد .. وعندما ينص الله عز وجل علي أنه ينزل القرآن وقصصه بالأحسن، فمن أساسيات الروائي البحث عن الأحسن وما لم تجد أحسن قصة تحوم في خلايا مخيلتك فلا تقص.. يقول أساتذة الأسطورة أن الكون مجتمعا يسير علي ثلاث وعشرين حكاية وهي المداميك أو الاوتاد لكل السرد الكوني، وهم بهذا يقفون عند الحدودة ولو اتسعوا لعرفوا أن للكون ملايين الحكايات التي سوف تصل إليها المخيلة لترويها.. وكاد أجزم أن الأب الشرعي لكل المخترعات هي الحكاية، ولكي لأمضي بعيدا وألبرهنة هذا القول يمكن أي منكم أن يجول بعقله متابعا كل المخترعات فسوف يصل الي حقيقة أن الحكاية يتوالد منها الاختراعات ولكي أذهب بعيدا وأكون أكثر تطرفا فسوف وأقول: - إن الحكاية هي أم المستقبل. إن اكتشاف سر الخلق من خلال الكلمات وامتزاجها بالمخيلة اكتشاف يقود الروائي إلي تأسيس حياة موازية لها جنون المستحيل، وتريث الحكيم.. وحماقة الصدف ومتانة الغزل، هناك وفِي الشوارع العريضة والمنحنيات الضيقة والواجهات اللامعة ووميض الجباه ومغالق الدروب يأتي وحي المخيلة في اجتذاب السائرين في الغيب لكي يحضروا.. الروائي هو جامع العفاريت ومفرقهم، سمعتم بواد عبقر ؟ نعم سمعتم به فخلال صدفة حمقاء قيل إن الجن يمنحون الشاعر مخيلتهم والحقيقة أنهم يمنحون الروائي كل وجودهم ومقدرتهم، ولكي يتم نبش التاريخ وفضح طرق الغياب، وتقديم دانة للواقع عما يضمره من اخفاء نصالا حادة لكل عابر ولكل حالم ولكل غاضب ولكل باحث عن حرية أو خير أو عدل، فإن مخيلة الروائي سيدة النبش الاولي، تجتث ماهو كائن إلي ما يمكن أن يكون .. وفكرة الخلق الأولي كن فيكون هي ميزة لله تعالي قد منح جزءاً منها للسارد، فكما منح الإنسان صفات: الكريم والرحيم واللطيف والقادر منح الروائي منحة عظيمة حينما يستطيع أن يخلق بشرا من كلمات، الروائي يقول لشيء كن فيكون.. في الرواية يكون التاريخ صوتا لمن لا صوت له، تخرج الأصوات المهمشة ولكل واحد منهم لديه قضية ..شكوي..ألم ..حلم ..بحث عن تغير يكسبه الجدة في الحياة، وخلق الشخصيات يأتي وفق مزاج الروائي والقارئ معا »القارئ الذي تتناسب ذائقته مع الكاتب». وكل شخصية روائية تخرج لتحكم العالم قليلا ولأنها غير مدركة بالألاعيب القذرة الممارسة في الواقع ولعدم المعرفةتتسرعان ما يحدث تشابك بين الحقيقية والخداع ، والرواية تؤسس جزءاً من واقعها المكتوب علي عنصر الخداع وهي ما يسمي شد القاريء، لعبة ممتعة يمارسها الروائي ويتقبلها القاريء... الواقع عالم متداخل من الحيل والرغبات والصراعات بينما الشخصية الروائية تبحث عن واقع يمثل ذاتها وبين الحالتين تقف عناصرتتالشد والجذب والتصعيد وتنامي الاحداث والهروب من التكرار والترهل .. ربما أقول إن هذا الخداع مجاز في عالم الرواية، وهو يمثل الطبق المقلوب لتغطية وجبة ساخنة.!. وأثناء كتابة الرواية نعيد لعبة تبادل الطعنات إلا أن الروائي يكشف ان الحياة تنتقل من زمن الي زمن أخر بسرعة فائقة لتنقل الحدث بين المتن والهامش، بين الكذب والكذب، بين المكتوب والوحي، بين التاريخ والتاريخ. الكتابة مراوحة بين الذات وبين رؤيتها للأشياء وكلما استفحل العالم في مجونه تأخذ الكتابة لنفسها موقعا تصادميا بحثا عن تعرية واقع يمنحنا الطمأنينة ظاهريا بينما أعماقه تحمل الفزع كله.. ويكون الروائي في كل حالته مكتشفا لتضاريس النفس ويضع علامات لكل جهة يقف عليها .. هذه النفس التي كلما اخرجها اختبأت وكلما أضاء جنباتها أظلمت.. وبين الظلمة والنور يتزاوج الوحي والتاريخ لا شيء يثبته سوي الكتابة. لتصبح جملة: في البدء كانت الكلمة والكلمة هي: التاريخ والوحي.. الكلمة هي حقيقة الكينونة فيأتي الروائي ليكمل رسم أضلاع الوجود، يبدأ من التاريخ »زمان ومكان وحدث» ويستكمل البناء بماء الوحي، نعم وحي، ومن يكتب سيعرف المعني.. الوحي الكتابي يسترد المخيلة الاولي للوجود، كيف يحدث هذا؟ ثمة سر عظيم يتلقاه الروائي، فكما يتغذي الجنين من خلال الحبل السري كذلك يفعل الروائي الساكن لرحم الحياة والمتغذي بحبل يمتد الي العقل البدائي الاول، وكلما أوغل في تضاريس النفس كشف عن شيء مخبأ .. أحيانا تكون الحكاية مثبتة كقصة خلق أدم وحواء وإبليس هذه الحكاية يمكن استعادتها بتفاصيل مغايرة إلا أن كل زاوية من حكاية الخلق يقابلها خلق رروائي إن ليس هناك صلة وأثناء النبش سوف نقف علي ابليس وعلي أدم وعلي حواء... الحكاية هي حدث أنثوي لأن صاحبة الخلق هي حواء ولو لم تخلق من أدم لضمر حدث خلق أم ولما كانت هناك حياة وطبيعي تضافر العناصر المكونة للحكاية لكن احداث الحدث يكون ما خلفه سلسلة من الحكايات.. أخيرا دائما أقول لو علم الملوك والسلاطين بما يمتاز به الروائي من سلطة لقاتلوه من أجل تلك الهبة..