يكتب بعض الكتّاب رواياتهم ارتكازاً في الأساس على حياة الكاتب وخبرته، وتنهل نصوصهم من سيرتهم وتاريخهم والشخصيات المحيطة بهم، ومثال ذلك عالمياً «وليمة متنقّلة» لهمنغواي، و»الخبر الحافي» لمحمد شكري. على الجهة الأخرى هناك نصوص مبنية في كلّيتها على التخييل، سواء كان ذلك التخييل مجرد تأليف لأحداث قصة تشبه قصص الواقع، لكنها مبتكرة كلّياً بأحداثها وشخصياتها ومساراتهم، أو تلك التي تعتمد على الفانتازيا الصرفة، مثل «آليس في بلاد العجائب» للويس كارول، و«دون كيخوتة» لميغيل دي ثرفانتس. والسؤال الرئيس الذي يُطرح: هل يسود أحد هذين اللونين في السرد العربي؟ ما المسافات والفوارق الفنية بين اللونين، وهل تساهم الكتابة الملتصقة بالذات والواقع في أن يجد الكاتب صوته السردي؟ في المساحة التالية، تعرض آراء مجموعة من الروائيين، حول مسألة الواقع والتخييل في الرواية: أنظر إلى نجيب محفوظ عمرو عاشور – روائي مصري الأدب المفضل لديّ هو الأدب الجيد، بصرف النظر عن نوعه، فالأدب فن، والفن خُلق للاستمتاع، في النماذج السابقة مثلاً كانت درجة استمتاعي ب»وليمة متنقلة» قدر متعتي في قراءة «دون كيخوته»، كل ما في الأمر أن هناك كاتبا جيدا. وأنا شخصيًا أمارس كتابة اللونين، فرواية «كيس أسود ثقيل» مثلا جاءت أشبه بسيرة ذاتية، غارقة في الواقعية، كنت أنهل وقت كتاباتها من الذكريات والخبرة، وكنت مستمتعا بذلك، كنت أعيد قراءة الماضي، بعين أخرى. وفي المقابل جاءت رواية «رب الحكايات» مبنية على الخيال الصرف، أبطالها جني وعفاريت، وكانت لها أيضًا متعة خاصة، ففي رواية السيرة تتلهف على الكتابة بحنين للماضي، بينما في الرواية المتخيلة يدفعك الفضول لاكتشاف المستقبل، كنت أكتب فقط لأعرف ماذا سيحدث. الرواية فن ثري، وأعتقد أن الكاتب الجيد فقط هو من يدرك اللعبة، ويضع يديه على تنوعاتها، ولك في نجيب محفوظ مثال وقدوة، فالرجل كتب السيرة الذاتية في «المرايا» و»حكايات حارتنا»، وكتب التخيل في «ليالي ألف ليلة» و»رحلة ابن فطومة». غير أن التنوع المحفوظي أثرى من ذلك، فكتب الرواية التاريخية والسريالية والسياسية والاجتماعية والبوليسية، وكتب الرواية التي ترصد المجتمع، والرواية التي تتنبأ بمستقبله، حتى الأحلام استطاع أن يوظفها ويجد لها مكانة أدبية. إذن فالتفضيل بين صنفين مختلفين لا يجوز، وكأنك تخيرني بين نوعين من الطعام، كلاهما له مذاقه ومتعته. أعتقد أن الرواية المتخيلة أكثر انتشارا في الأدب العربي من أدب السيرة الذاتية، وهذا طبيعي، فالقارئ أساسا يبحث عن حكاية شيقة بعيدة عن واقعه، أو واقع المحيطين به، إلا إذا كان كاتب السيرة ذا مكانة خاصة عند القراء، ولكن في المجمل فإن معظم الروايات التي تتصدر ال«بيست سيلر»، وتفوز بالجوائز المحلية والدولية هي الروايات المتخيلة، حتى في الأدب العالمي، سنجد أن «وليمة متنقلة» أقل شهرة من «الشيخ والبحر»، و»أليس في بلاد العجائب» أشهر من مذاكرات هنري ميللر، وهكذا… فهل لأن الخيال محفز للعقل أكثر؟ لا أعرف، ولكن ما أعرفه تمامًا أنه ليس هنالك أمتع من الخيال. الكتابة عن الذات تحل لك أكبر عقدة يواجهها الكاتب، البحث عن الصوت، مخرج العمل الذي سيدير كل شيء دون أن يظهر أمام الكاميرا، لذلك فإن الكتابة عن الذات توفر لك هذا الصوت بسهولة وتلقائية، أنت تحكي عن نفسك، بطريقتك، حكاياتك التي عشتها أو سمعت بها، ليس هناك أسهل من ذلك. في المقابل، في الكتابة القائمة على الفانتازيا والتخييل، الكاتب حين يتخيل شخصيات عليه أن يتقمصها تمامًا، أن يكون هي، وإلا اكتشف القارئ كذبته، ولم يصدقه، فالكاتب الجيد كاذب ماهر، كلما أتقن كذبته كان عمله أكثر تصديقًا، لذا فإن الكاتب قد يُجبر أحيانًا على أن يسرد بصوت الشخصية التي قد تكون مناقضة لصوته الخاص، وأتذكر رواية «ثرثرة فوق النيل» وكيف كان السارد مسطولا أدخله ذلك في دوامة من التساؤلات العبثية والوجودية، وكيف كانت فلسفته في الحياة. أنت تعتبر أن رواية «المسخ» لكافكا هي رواية متخيلة، وأنا أراها قمة الواقعية. كان من الممكن أن يكتب كافكا سيرته الذاتية، معاناة مع المرض، مع الأب، مع العنصرية، مع الاضطهاد، مع الحياة نفسها، ولكنه عبر عن ذلك كله بافتراض بسيط، ماذا لو تحولتُ إلى حشرة؟ كيف ستسير بي الأمور؟ إنه يتحدث عن نفسه من خلال عمل متخيل أليس هذا مزجا. والسيرة أيضًا لا تخلو من التخيل، وإلا تحولت إلى اعترفات ومذكرات، فنظرية «والله العظيم أقول الحق» تجوز في المحاكم، أما الرواية فهي فن له مطالباته. المشي على الحبال حجي جابر- روائي إرتيري هناك مسافة ولا شكَ بين النص المعتمد على السيرة الذاتية والآخر المبني على خيال محض، ولكل منهما ظروف وشروط ودرجة حرفية مطلوبة، دون تفضيل فنّ على الآخر. لنتخيّل الأمر على النحو التالي: ثمة نقطتان على ارتفاع عال يربط بينهما خيط رفيع مشدود. النقطة الأولى حيث يقف الروائي، وهنا تحتشد حكاياته الخاصة وتجاربه ومعارفه اللصيقة وما سمع ورأى وأحسّ. هذه هي المنطقة الآمنة التي لا تحمل أي قدر من المجازفة، ولا تتطلب ذلك المستوى العالي من المهارة، فبإمكانه هنا أن يغرف كما شاء من تلك الحكايات والتجارب والمعارف الخاصة، ويضمّنها روايته مع بعض التغبيش الذي يُبعد عنه تهمة السيرة الذاتية. هذا الأمر يحدث عادة في البدايات، ولهذا اعتدنا ترديد أن الروائي في عمله الأول غالباً ما يغرف من ذاته ويشتغل على سيرته الذاتية، بإعادة إنتاجها، أو عرضها كما هي. مع تراكم التجربة والتمرّس في الكتابة، وحتى القراءة؛ إذ أنّ الكتابة تُحسّن من مستوى قراءات الفرد، يتقدّم الروائي قليلاً باتجاه النقطة المقابلة سالكاً الخيط الرفيع المشدود، ومقبلاً على المجازفة أكثر ومتخلياً عن منطقة أمانه وطمأنينته ليزيد من مساحة التخييل فيما يكتب على حساب ما يستجلبه من حوله. يبدأ بالمزج بين النوعين إلى أن ينتهي إلى كتابة الخيال المحض. إذن كلما زادت مساحة التخييل في النص كان ذلك أكثر صعوبة ومجازفة، لأن الخيال لا يعني التخليّ في داخله عن المنطق وتماسك الأحداث. في المقابل لا أريد أن يُفهم من كلامي أنّني أقلل من قيمة النص المعتمد على السيرة الذاتية، فهو أحياناً يكون أكثر صعوبة، لكونه سهلاً ممتنعاً يصعب فيه على الروائيّ التمييز بين السذاجة والإبداع حين يختار من سيرته ما يصلح للكتابة. ولهذا نرى من يختتم مشواره الطويل في الكتابة بالعودة إلى السيرة الذاتية، وليس العكس. السيرة الذاتية كالرصاصة اليتيمة، لا بد أن تصيب هدفها من المرة الأولى، هي فنّ التقاط النافذ والمؤثر وسط كومة العاديّ والمبتذل. وفي وقت يتيح فيه التخييل الوصول إلى ذرى بعيدة في التجريب، تمنحنا السيرة الذاتية فرصة النفاذ إلى روح القارئ ولمس أعمق نقطة فيها. كيف تجعل المألوف مدهشاً؟ محمد داود – روائي مصري هذا موضوع يصعب جدًا تناوله في مساحة صغيرة، إنه يكاد يكون محيطًا بشجرة الكتابة الروائية من الجذور إلى الثمار. يمكن القول عمومًا إن ثقافتنا تميل للستر والإخفاء نتيجة عوامل يطول شرحها، هذه ثقافة الحجاب، كما أنها تميل لتقييم الناس من منظورها الخاص للمعايير الأخلاقية، وهذا يستتبع إشاعة وتأكيد خواص كالفضول والتلصص، هذا ما يمكن القول إنه يجعل الناس تربط بين ما يكتب الروائي وحياته، وطبيعة الفن عامة والرواية، خاصة التجاوز، ولهذا لا قيمة فنية للأعمال التي تناولت الذات والسيرة الذاتية بمنطق الحجاب، وتنقية الذات من كل شائبة وتبرئتها من كل عيب أو ما هو متوهم أنه عيب، البعض يضع مثل تلك الأعمال ضمن ألوان الفن الروائي، ولا داعٍ لذكر عناوين محددة، أعتقد شخصيًا في استبعادها باعتبارها لونًا مختلفًا من الكتابة وكفى، هذا أحد أهم أسرار القيمة الرفيعة لعمل مثل «الخبز الحافي». وبشكل ما كل ما يكتب الروائي هو سيرة ذاتية بمعنى أعم من تأريخ أحداث حياته بما هو شخصي، المسألة لا تتعلق بأحداث الحياة تحديدًا، إنها متعلقة أساسًا بالعقل الفني الذي يمكنه جعل العادي والمألوف فنيًا ومدهشًا، هكذا صاغ مارسيل بروست «البحث عن الزمن الضائع»، على العكس من ذلك ما أكثر الذين لهم حياة كلها تشويق وإثارة، لكنهم يفتقدون للطاقة الفنية اللازمة لتحويلها إلى فن جميل. والجدل بين حياة الكاتب أو سيرته الذاتية وفنه ثري ولا يتوقف، إنه يتجدد مع كل عمل، ولكل كاتب تجربته المميزة كبصمته، ولدي تجربتي، قد تتلمسني أنا أو بعضي اجتماعيًا في عملي الأول «قف على قبري شويا»، وتجدني فلسفيًا في «السما والعمى»، وتجدني إنسانيًا في «فؤاد فؤاد» وتجدني متأملًا ومذهولًا موزعًا بين الواقعي والفانتازي في «أمنا الغولة»، عملي الأخير «بار أم الخير» فانتازي تمامًا، مع ذلك يمكن القول أو الاعتراف بأنه الأقرب تعبيرًا عما يمكن وصفه بالسيرة الذاتية، هذا ليس سرًا، لكنه لا يضيف شيئًا للقارئ، فالعمل منفصل ومستقل عني، وهو كسابقيه لا يشمل شيئًا محددًا من وقائع حياتي، إنه يحفل بغرائب كفيلم أنيميشن، كأنه تعليق فني كاريكاتيري على حياتي عامة وحياتي كروائي بشكل خاص. أقول لنفسي لعلي إن عشت وتوافرت الطاقة الفنية أتناول تفاصيل حياتي على نحو تفاصيلي محدد ربما بالتواريخ؛ لكن هل هذا شأن مهم؟ لعلي سعيت في «بار أم الخير» لإكساب سيرتي الذاتية قيمة بالفن، يعني بعيدًا عن التفاصيل المباشرة لحياتي الاعتيادية، المملة غالبًا، والتي لا تهم غيري إلا قليلًا ممن يهمهم أمري. درس ماركيز وكافكا محمد رفيع – كاتب مصري بدءاً لو اتفقنا على أن الكتابة هي تعبير ما عن مجموعة من الخبرات الحياتية والقرائية ممزوجة بالتخييل والأسطرة والاستفادة من الفنون الأخرى، كما يحلو لي أن أطلق عليها، فسندرك أنه في كل الحالات ليست هناك سيرة ذاتية صادقة وواقعية تماماً، فحياة الإنسان مجموعة من المسارات المتداخلة: مسار دراسي وعاطفي وكفاحي وأخطاء وسقطات، وعلى ذلك فإن السيرة الذاتية هي منتحلة من الأساس، فالكاتب يختار متعمداً مساراً معيناً أو يمزج بين مسار أساسي وآخر فرعي لكي يقدم السيرة الذاتية بنهج معين يشير فيه إلى طرح أدبي لحياته، ومهما توخى الصدق والأمانة فهو يعيد النظر إلى تاريخه بعين ووعي لاحق أكثر نضوجاً وهدوءاً لأن الأحداث بحلوها ومرها مرت بسلام، ولذلك أنا لا أفضل هذا النوع المبني على سيرة حياتية أو حتى سيرة غيرية منتحلة من سيرة ذاتية كما يفعل البعض، وأميل إلى خلق عوالم موازية فيها قدر من الانفتاح على الخيال والتجريب وربطها بالواقع أو جعلها تبدو في ثوب واقعي أو فنتازي أو سحري، وهذا النوع على ما يبدو فيه حرية وتحليق في عالم الخيال، له ضوابط صارمة تفرق بينه وبين الخيال المحض أو الذي لا طائل من ورائه، فالخيال هنا وسيلة وليس غاية في حد ذاته، وسيلة لخلق عوالم موازية والتحليق في سموات وفتح آفاق جديدة لتمرير شخصيات وأحداث ومحتوى فكري وسردي، لكن ليس معنى أن نعتبر الخيال هو الهدف فنغرق في الغرائبية، ونجعلها مرتكزاً أساسيا ونأتي في النهاية ونحمّلها رسالة مكرورة وسطحية لننقذها من فخ السقوط في التفاهة والكارتونية، وهذا اللون أراه كثيراً من حولي في روايات وأفلام عالمية وأعتقد أن الدرس الذي وعاه ماركيز حين قرأ أول سطور «المسخ» لكافكا كان هو الدرس الأهم في حياته الأدبية حين أدرك الفارق بين التخييل المحض والسحرية حيث قال: «عندما قرأت ذلك السطر، قلت لنفسي إنّني لم أعرف من قبل أحداً يُسمح له بأنّ يكتب شيئاً كهذا. ولو كنت أعلم هذا لبدأت بالكتابة منذ زمنٍ طويل. ولقد بدأت بعدها على الفور بكتابة القصص القصيرة». غير أنه وطبقاً للتعريف الأولي باعتماد الكاتب على تجربة حياتية وقرائية على حد سواء في الكتابة فلا يستطيع الكاتب في النهاية الفكاك مما عاش وخبر بنفسه لا يستطيع أن يبتعد عن حياته الشخصية كلياً وينسلخ منها ويكتب عما لم يعش طوال الوقت حتى لو ألبسه التخييل والتحوير لأشكال أخرى، وهنا يأتي مزج خفي موزع وهادئ داخل نسيج العمل وبين جنباته بطريقة لا يلحظها القارئ وقد لا يلحظها الكاتب نفسه في حينها بين ما عاش وما يتخيل ويتسرب ذلك كله عبر وعيه مستتراً وممزوجاً ومخلوطاً بتلك الحيوات الموازية التي يحاول خلقها وهكذا أفضّل أن أكتب وأن أقرأ.