أن تحكي بالسرد الروائي واليراع ٬ أن تعري ذاتك وتختار أن تكون أنت لا كما يريدك الآخرون أن تكون هو ما إختارته الدكتورة لوتس عبد الكريم في كتابة سيرتها الذاتية " رحلة البحث عني.. رواية حياة" الحكي بالقلم وفضِّلت الكتابة على أن تحكي عن نفسها وحياتها بشجاعة منقطعة النظير تحسب لها وتحسد عليها لأن كاتبة السير الذاتية في بلادنا يتردد كاتبها ألف مرة قبل أن يكتب حرفا فما بالك والكاتبة امرأة ؟!!، لوتس تكتب سيرتها بحرية واعتراف اتسم بمتعة وفنية عالية. اختارت عبد الكريم ألا تضع على غلاف كتابها مصطلح "سيرة ذاتية"، بل وضعت مصطلحًا غير مألوف وهو "رواية حياة". إن مصطلح رواية فقد دلالته الاصطلاحية حين اقترن بالحياة في تركيب إضافة، لكن الحياة لم تفقد دلالتها بدخولها في هذا التركيب مضافًا إليها. وهنا المفارقة، فكثير من الكتاب الذين وضعوا على أغلفة كتبهم مصطلح السيرة الذاتية كانوا للتخييل الروائي أقرب، ولوتس تضع مصطلح "رواية حياة" لتكتب سيرتها الذاتية ليس في مقام التمجيد وإنما في مقام الكشف والمداواة. إنها تعود بالسيرة الذاتية لجذور نشأتها الدينية والفلسفية حيث الاعتراف بعمقه الديني وأبعاده الفلسفية ودوافعه النفسية هو جوهر هذا النوع الأدبي. أن عودة لوتس إلى جوهر النوع الأدبي المُسمّى السيرة الذاتية هي التي سمحت لها بأن تكون هي فقط صاحبة الإرادة في تحديد ما يقال وما لايقال، دون تبعية لسلطة سياسية أو رضوخ لعرف ثقافي، ودون انبهار باتساع حدود المسموح بقوله في ثقافة الغرب أو تذمر من قيود متخيلة موجودة في عقول البعض. فليس كل ما يُعرف يُقال لأن ما يُقال صادق وعليه برهان، وليس البرهان على الصدق إحكام النسج بين الحكايات، وإنما صدور الحكايات غير متآلفة عن نفس متوترة تتأبى على السكون في نمط المرأة الذي صنع لها "المرأة العربية"، فلوتس لا تبغي الإيهام بالانسجام مع وعي القارئ الافتراضي وإنما تكتب الأحداث التي عاشتها وإن صدمت القارئ معتمدة في بناء سيرتها الواسعة على شكل اليوميات الطويلة المفعمة بالآلام والسعادة والدرامية، والوقائع الحية التي صورتها من خلال البنية الجغرافية التي تعشقها الذات الساردة، وكأننا نحن القراء أمام عوالم متعددة لها، بل حيوات مختلفة وكأنها عاشت آلاف السنين من خلال الذين التقت بهم في حياتها. فجاءت السيرة ممزوجة بالأنفاس المتوترة والدافئة والمتمردة على واقعها الذي يحكم السيطرة على الأنثى. ومن ثم فقد كسرت لوتس عبد الكريم هذه الحواجز المنيعة التي فرضها المجتمع عليها، ولم تكن سببا فيها، بل صنعت صوتها الخاص في الكتابة الإبداعية، ووجدت نفسي حائرا أمام هذا الحكايات غير العادية لشخصية غير عادية أيضا. لأنها لم تكتب عن سيرتها فقط بل تناولت سير الآخرين من خلال منظورها الخاص. أو الذين عاشوا في حياة لوتس عبدالكريم نفسها لغة السرد في " رحلة البحث عني.. رواية حياة " جاءت بسيطة وعميقة وصادقة، لأن الصدق هو التقنية المهمة في كتابة السيرة الذاتية، وفي ظني أن الخيال لامكان له في الكتابة الذاتية، لأنها تعتمد على وقائع حقيقية وأشخاص حقيقيين، كان لهم دور مهم في صياغة هذه الأحداث بطريق مباشر أو غير مباشر. كما تأثرت الكاتبة كثيرا برحلات ابن فضلان وابن بطوطة والجاحظ والأصفهاني من خلال حديثها عن جغرافيا المكان السردي وحديثها هي عن نفسها وأثر هذا المكان في نفسها وفي نفوس الآخرين. وطلَّ علينا في السيرة بطريقة غير مباشرة أصوات فرجينيا وولف من خلال يومياتها، ويوميات كافكا، ويوميات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم، ويوميات أنطون تشيخوف.. وغيرهم. الكتاب ضم سيرة للأمكنة التي عاشت فيها "لوتس عبدالكريم " بحكم حياتها الدبلوماسية التي عاشتها مثل بريطانيا وفرنسا واليابان وإيطاليا والشرق الأقصى والشخصيات الشهيرة اقتربت منهم الكاتبة، وتجلت أرواحهم في مراياها مثل الملكة فريدة، محمد عبدالوهاب ويوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس وعبدالحليم محمود ومصطفى محمود ويوسف وهبي ٬ وتعريفًا ببعض أساتذتها في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة الإسكندرية مثل أبو العلا عفيفي، محمد ثابت الفندي، عبد الحميد صبرة، وأحمد أبو زيد. الكتاب صادر عن الدار المصرية اللبنانية للنشر والتوزيع في 700 صفحة من القطع الكبير