تجهيز 476 لجنة انتخابية ل«الشيوخ».. 12 مرشحا يتنافسون على 5 مقاعد فردي بالمنيا    وزير الإسكان يتفقد مشروع مرافق الأراضى الصناعية بمدينة برج العرب الجديدة    روسيا: تحرير بلدة "ألكساندرو كالينوفو" في دونيتسك والقضاء على 205 مسلحين أوكرانيين    نقابة الموسيقيين تعلن دعمها الكامل للقيادة السياسية وتدين حملات التشويه ضد مصر    عدي الدباغ على أعتاب الظهور بقميص الزمالك.. اللاعب يصل القاهرة غداً    تفاصيل القبض على سوزي الأردنية وحبس أم سجدة.. فيديو    إصابة 5 أشخاص فى حادث انقلاب ميكروباص بطريق "بلبيس - السلام" بالشرقية    «تيشيرتات في الجو».. عمرو دياب يفاجئ جمهور حفله: اختراع جديد لأحمد عصام (فيديو)    لا تتسرع في الرد والتوقيع.. حظ برج الجوزاء في أغسطس 2025    الصحة: حملة 100 يوم صحة قدمت 26 مليونا و742 ألف خدمة طبية مجانية خلال 17 يوما    استجابة ل1190 استغاثة... رئيس الوزراء يُتابع جهود اللجنة الطبية العليا والاستغاثات خلال شهر يوليو 2025    استقبال شعبي ورسمي لبعثة التجديف المشاركة في دورة الألعاب الأفريقية للمدارس    مبابي: حكيمي يحترم النساء حتى وهو في حالة سُكر    "قول للزمان أرجع يا زمان".. الصفاقسي يمهد لصفقة علي معلول ب "13 ثانية"    النقل: استمرار تلقي طلبات تأهيل سائقي الأتوبيسات والنقل الثقيل    المصريون في الرياض يشاركون في انتخابات مجلس الشيوخ 2025    طعنة غادرة أنهت حياته.. مقتل نجار دفاعًا عن ابنتيه في كفر الشيخ    أمطار على 5 مناطق بينها القاهرة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس خلال الساعات المقبلة    الاستعلامات: 86 مؤسسة إعلامية عالمية تشارك في تغطية انتخابات الشيوخ 2025    رئيس عربية النواب: أهل غزة يحملون في قلوبهم كل الحب والتقدير لمصر والرئيس السيسي    60 مليون جنيه.. إجمالي إيرادات فيلم أحمد وأحمد في دور العرض المصرية    رئيس جامعة بنها يعتمد حركة تكليفات جديدة لمديري المراكز والوحدات    "قومي حقوق الإنسان": غرفة عمليات إعلامية لمتابعة انتخابات الشيوخ 2025    وديًا.. العين الإماراتي يفوز على إلتشي الإسباني    «يونيسف»: مؤشر سوء التغذية في غزة تجاوز عتبة المجاعة    المصريون بالسعودية يواصلون التصويت في انتخابات «الشيوخ»    مراسل إكسترا نيوز: الوطنية للانتخابات تتواصل مع سفراء مصر بالخارج لضمان سلاسة التصويت    الثقافة تطلق الدورة الخامسة من مهرجان "صيف بلدنا" برأس البر.. صور    «بيت الزكاة والصدقات»: غدًا صرف إعانة شهر أغسطس للمستحقين    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ عالم أزهري يجيب    انطلاق قمة «ستارت» لختام أنشطة وحدات التضامن الاجتماعي بالجامعات    تعاون بين «الجمارك وتجارية القاهرة».. لتيسير الإجراءات الجمركية    «الصحة» تطلق منصة إلكترونية تفاعلية وتبدأ المرحلة الثانية من التحول الرقمي    مفاجأة.. أكبر جنين بالعالم عمره البيولوجي يتجاوز 30 عامًا    تنسيق المرحلة الثانية للثانوية العامة 2025.. 5 نصائح تساعدك على اختيار الكلية المناسبة    استمرار انطلاق أسواق اليوم الواحد من كل أسبوع بشارع قناة السويس بمدينة المنصورة    انخفاض الطن.. سعر الحديد اليوم السبت 2 أغسطس 2025 (أرض المصنع والسوق)    وزير الرياضة يشهد تتويج منتخب الناشئين والناشئات ببطولة كأس العالم للاسكواش    شكل العام الدراسي الجديد 2026.. مواعيد بداية الدراسة والامتحانات| مستندات    تنظيم قواعد إنهاء عقود الوكالة التجارية بقرار وزاري مخالف للدستور    ترامب: ميدفيديف يتحدث عن نووي خطير.. والغواصات الأمريكية تقترب من روسيا    22 شهيدا في غزة.. بينهم 12 أثناء انتظار المساعدات    النشرة المرورية.. سيولة فى حركة السيارات على طرق القاهرة والجيزة    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب قبالة سواحل مدينة كوشيرو اليابانية    أيمن يونس: شيكابالا سيتجه للإعلام.. وعبد الشافي سيكون بعيدا عن مجال كرة القدم    ترامب يخطو الخطوة الأولى في «سلم التصعيد النووي»    90 دقيقة تأخيرات «بنها وبورسعيد».. السبت 2 أغسطس 2025    حروق طالت الجميع، الحالة الصحية لمصابي انفجار أسطوانة بوتاجاز داخل مطعم بسوهاج (صور)    رسميًا.. وزارة التعليم العالي تعلن عن القائمة الكاملة ل الجامعات الحكومية والأهلية والخاصة والمعاهد المعتمدة في مصر    سعر الذهب اليوم السبت 2 أغسطس 2025 يقفز لأعلى مستوياته في أسبوع    الصفاقسي التونسي يكشف تفاصيل التعاقد مع علي معلول    عمرو دياب يشعل العلمين في ليلة غنائية لا تُنسى    استشارية أسرية: الزواج التقليدي لا يواكب انفتاح العصر    مقتل 4 أشخاص في إطلاق نار داخل حانة بولاية مونتانا الأمريكية    مشاجرة بين عمال محال تجارية بشرق سوهاج.. والمحافظ يتخذ إجراءات رادعة    أمين الفتوى: البيت مقدم على العمل والمرأة مسؤولة عن أولادها شرعًا (فيديو)    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ د. يسري جبر يوضح    وزير الأوقاف يؤدي صلاة الجمعة من مسجد الإمام الحسين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



موازين الكتابة الذاتية والتخييل في الرواية
نشر في صوت البلد يوم 26 - 11 - 2016

يكتب بعض الكتّاب رواياتهم ارتكازاً في الأساس على حياة الكاتب وخبرته، وتنهل نصوصهم من سيرتهم وتاريخهم والشخصيات المحيطة بهم، ومثال ذلك عالمياً «وليمة متنقّلة» لهمنغواي، و»الخبر الحافي» لمحمد شكري.
على الجهة الأخرى هناك نصوص مبنية في كلّيتها على التخييل، سواء كان ذلك التخييل مجرد تأليف لأحداث قصة تشبه قصص الواقع، لكنها مبتكرة كلّياً بأحداثها وشخصياتها ومساراتهم، أو تلك التي تعتمد على الفانتازيا الصرفة، مثل «آليس في بلاد العجائب» للويس كارول، و«دون كيخوتة» لميغيل دي ثرفانتس. والسؤال الرئيس الذي يُطرح: هل يسود أحد هذين اللونين في السرد العربي؟ ما المسافات والفوارق الفنية بين اللونين، وهل تساهم الكتابة الملتصقة بالذات والواقع في أن يجد الكاتب صوته السردي؟
في المساحة التالية، تعرض آراء مجموعة من الروائيين، حول مسألة الواقع والتخييل في الرواية:
أنظر إلى نجيب محفوظ
عمرو عاشور – روائي مصري
الأدب المفضل لديّ هو الأدب الجيد، بصرف النظر عن نوعه، فالأدب فن، والفن خُلق للاستمتاع، في النماذج السابقة مثلاً كانت درجة استمتاعي ب»وليمة متنقلة» قدر متعتي في قراءة «دون كيخوته»، كل ما في الأمر أن هناك كاتبا جيدا. وأنا شخصيًا أمارس كتابة اللونين، فرواية «كيس أسود ثقيل» مثلا جاءت أشبه بسيرة ذاتية، غارقة في الواقعية، كنت أنهل وقت كتاباتها من الذكريات والخبرة، وكنت مستمتعا بذلك، كنت أعيد قراءة الماضي، بعين أخرى. وفي المقابل جاءت رواية «رب الحكايات» مبنية على الخيال الصرف، أبطالها جني وعفاريت، وكانت لها أيضًا متعة خاصة، ففي رواية السيرة تتلهف على الكتابة بحنين للماضي، بينما في الرواية المتخيلة يدفعك الفضول لاكتشاف المستقبل، كنت أكتب فقط لأعرف ماذا سيحدث. الرواية فن ثري، وأعتقد أن الكاتب الجيد فقط هو من يدرك اللعبة، ويضع يديه على تنوعاتها، ولك في نجيب محفوظ مثال وقدوة، فالرجل كتب السيرة الذاتية في «المرايا» و»حكايات حارتنا»، وكتب التخيل في «ليالي ألف ليلة» و»رحلة ابن فطومة». غير أن التنوع المحفوظي أثرى من ذلك، فكتب الرواية التاريخية والسريالية والسياسية والاجتماعية والبوليسية، وكتب الرواية التي ترصد المجتمع، والرواية التي تتنبأ بمستقبله، حتى الأحلام استطاع أن يوظفها ويجد لها مكانة أدبية. إذن فالتفضيل بين صنفين مختلفين لا يجوز، وكأنك تخيرني بين نوعين من الطعام، كلاهما له مذاقه ومتعته.
أعتقد أن الرواية المتخيلة أكثر انتشارا في الأدب العربي من أدب السيرة الذاتية، وهذا طبيعي، فالقارئ أساسا يبحث عن حكاية شيقة بعيدة عن واقعه، أو واقع المحيطين به، إلا إذا كان كاتب السيرة ذا مكانة خاصة عند القراء، ولكن في المجمل فإن معظم الروايات التي تتصدر ال«بيست سيلر»، وتفوز بالجوائز المحلية والدولية هي الروايات المتخيلة، حتى في الأدب العالمي، سنجد أن «وليمة متنقلة» أقل شهرة من «الشيخ والبحر»، و»أليس في بلاد العجائب» أشهر من مذاكرات هنري ميللر، وهكذا… فهل لأن الخيال محفز للعقل أكثر؟ لا أعرف، ولكن ما أعرفه تمامًا أنه ليس هنالك أمتع من الخيال. الكتابة عن الذات تحل لك أكبر عقدة يواجهها الكاتب، البحث عن الصوت، مخرج العمل الذي سيدير كل شيء دون أن يظهر أمام الكاميرا، لذلك فإن الكتابة عن الذات توفر لك هذا الصوت بسهولة وتلقائية، أنت تحكي عن نفسك، بطريقتك، حكاياتك التي عشتها أو سمعت بها، ليس هناك أسهل من ذلك.
في المقابل، في الكتابة القائمة على الفانتازيا والتخييل، الكاتب حين يتخيل شخصيات عليه أن يتقمصها تمامًا، أن يكون هي، وإلا اكتشف القارئ كذبته، ولم يصدقه، فالكاتب الجيد كاذب ماهر، كلما أتقن كذبته كان عمله أكثر تصديقًا، لذا فإن الكاتب قد يُجبر أحيانًا على أن يسرد بصوت الشخصية التي قد تكون مناقضة لصوته الخاص، وأتذكر رواية «ثرثرة فوق النيل» وكيف كان السارد مسطولا أدخله ذلك في دوامة من التساؤلات العبثية والوجودية، وكيف كانت فلسفته في الحياة. أنت تعتبر أن رواية «المسخ» لكافكا هي رواية متخيلة، وأنا أراها قمة الواقعية. كان من الممكن أن يكتب كافكا سيرته الذاتية، معاناة مع المرض، مع الأب، مع العنصرية، مع الاضطهاد، مع الحياة نفسها، ولكنه عبر عن ذلك كله بافتراض بسيط، ماذا لو تحولتُ إلى حشرة؟ كيف ستسير بي الأمور؟ إنه يتحدث عن نفسه من خلال عمل متخيل أليس هذا مزجا. والسيرة أيضًا لا تخلو من التخيل، وإلا تحولت إلى اعترفات ومذكرات، فنظرية «والله العظيم أقول الحق» تجوز في المحاكم، أما الرواية فهي فن له مطالباته.
المشي على الحبال
حجي جابر- روائي إرتيري
هناك مسافة ولا شكَ بين النص المعتمد على السيرة الذاتية والآخر المبني على خيال محض، ولكل منهما ظروف وشروط ودرجة حرفية مطلوبة، دون تفضيل فنّ على الآخر.
لنتخيّل الأمر على النحو التالي: ثمة نقطتان على ارتفاع عال يربط بينهما خيط رفيع مشدود. النقطة الأولى حيث يقف الروائي، وهنا تحتشد حكاياته الخاصة وتجاربه ومعارفه اللصيقة وما سمع ورأى وأحسّ. هذه هي المنطقة الآمنة التي لا تحمل أي قدر من المجازفة، ولا تتطلب ذلك المستوى العالي من المهارة، فبإمكانه هنا أن يغرف كما شاء من تلك الحكايات والتجارب والمعارف الخاصة، ويضمّنها روايته مع بعض التغبيش الذي يُبعد عنه تهمة السيرة الذاتية. هذا الأمر يحدث عادة في البدايات، ولهذا اعتدنا ترديد أن الروائي في عمله الأول غالباً ما يغرف من ذاته ويشتغل على سيرته الذاتية، بإعادة إنتاجها، أو عرضها كما هي.
مع تراكم التجربة والتمرّس في الكتابة، وحتى القراءة؛ إذ أنّ الكتابة تُحسّن من مستوى قراءات الفرد، يتقدّم الروائي قليلاً باتجاه النقطة المقابلة سالكاً الخيط الرفيع المشدود، ومقبلاً على المجازفة أكثر ومتخلياً عن منطقة أمانه وطمأنينته ليزيد من مساحة التخييل فيما يكتب على حساب ما يستجلبه من حوله. يبدأ بالمزج بين النوعين إلى أن ينتهي إلى كتابة الخيال المحض. إذن كلما زادت مساحة التخييل في النص كان ذلك أكثر صعوبة ومجازفة، لأن الخيال لا يعني التخليّ في داخله عن المنطق وتماسك الأحداث.
في المقابل لا أريد أن يُفهم من كلامي أنّني أقلل من قيمة النص المعتمد على السيرة الذاتية، فهو أحياناً يكون أكثر صعوبة، لكونه سهلاً ممتنعاً يصعب فيه على الروائيّ التمييز بين السذاجة والإبداع حين يختار من سيرته ما يصلح للكتابة. ولهذا نرى من يختتم مشواره الطويل في الكتابة بالعودة إلى السيرة الذاتية، وليس العكس. السيرة الذاتية كالرصاصة اليتيمة، لا بد أن تصيب هدفها من المرة الأولى، هي فنّ التقاط النافذ والمؤثر وسط كومة العاديّ والمبتذل. وفي وقت يتيح فيه التخييل الوصول إلى ذرى بعيدة في التجريب، تمنحنا السيرة الذاتية فرصة النفاذ إلى روح القارئ ولمس أعمق نقطة فيها.
كيف تجعل المألوف مدهشاً؟
محمد داود – روائي مصري
هذا موضوع يصعب جدًا تناوله في مساحة صغيرة، إنه يكاد يكون محيطًا بشجرة الكتابة الروائية من الجذور إلى الثمار. يمكن القول عمومًا إن ثقافتنا تميل للستر والإخفاء نتيجة عوامل يطول شرحها، هذه ثقافة الحجاب، كما أنها تميل لتقييم الناس من منظورها الخاص للمعايير الأخلاقية، وهذا يستتبع إشاعة وتأكيد خواص كالفضول والتلصص، هذا ما يمكن القول إنه يجعل الناس تربط بين ما يكتب الروائي وحياته، وطبيعة الفن عامة والرواية، خاصة التجاوز، ولهذا لا قيمة فنية للأعمال التي تناولت الذات والسيرة الذاتية بمنطق الحجاب، وتنقية الذات من كل شائبة وتبرئتها من كل عيب أو ما هو متوهم أنه عيب، البعض يضع مثل تلك الأعمال ضمن ألوان الفن الروائي، ولا داعٍ لذكر عناوين محددة، أعتقد شخصيًا في استبعادها باعتبارها لونًا مختلفًا من الكتابة وكفى، هذا أحد أهم أسرار القيمة الرفيعة لعمل مثل «الخبز الحافي». وبشكل ما كل ما يكتب الروائي هو سيرة ذاتية بمعنى أعم من تأريخ أحداث حياته بما هو شخصي، المسألة لا تتعلق بأحداث الحياة تحديدًا، إنها متعلقة أساسًا بالعقل الفني الذي يمكنه جعل العادي والمألوف فنيًا ومدهشًا، هكذا صاغ مارسيل بروست «البحث عن الزمن الضائع»، على العكس من ذلك ما أكثر الذين لهم حياة كلها تشويق وإثارة، لكنهم يفتقدون للطاقة الفنية اللازمة لتحويلها إلى فن جميل. والجدل بين حياة الكاتب أو سيرته الذاتية وفنه ثري ولا يتوقف، إنه يتجدد مع كل عمل، ولكل كاتب تجربته المميزة كبصمته، ولدي تجربتي، قد تتلمسني أنا أو بعضي اجتماعيًا في عملي الأول «قف على قبري شويا»، وتجدني فلسفيًا في «السما والعمى»، وتجدني إنسانيًا في «فؤاد فؤاد» وتجدني متأملًا ومذهولًا موزعًا بين الواقعي والفانتازي في «أمنا الغولة»، عملي الأخير «بار أم الخير» فانتازي تمامًا، مع ذلك يمكن القول أو الاعتراف بأنه الأقرب تعبيرًا عما يمكن وصفه بالسيرة الذاتية، هذا ليس سرًا، لكنه لا يضيف شيئًا للقارئ، فالعمل منفصل ومستقل عني، وهو كسابقيه لا يشمل شيئًا محددًا من وقائع حياتي، إنه يحفل بغرائب كفيلم أنيميشن، كأنه تعليق فني كاريكاتيري على حياتي عامة وحياتي كروائي بشكل خاص. أقول لنفسي لعلي إن عشت وتوافرت الطاقة الفنية أتناول تفاصيل حياتي على نحو تفاصيلي محدد ربما بالتواريخ؛ لكن هل هذا شأن مهم؟ لعلي سعيت في «بار أم الخير» لإكساب سيرتي الذاتية قيمة بالفن، يعني بعيدًا عن التفاصيل المباشرة لحياتي الاعتيادية، المملة غالبًا، والتي لا تهم غيري إلا قليلًا ممن يهمهم أمري.
درس ماركيز وكافكا
محمد رفيع – كاتب مصري
بدءاً لو اتفقنا على أن الكتابة هي تعبير ما عن مجموعة من الخبرات الحياتية والقرائية ممزوجة بالتخييل والأسطرة والاستفادة من الفنون الأخرى، كما يحلو لي أن أطلق عليها، فسندرك أنه في كل الحالات ليست هناك سيرة ذاتية صادقة وواقعية تماماً، فحياة الإنسان مجموعة من المسارات المتداخلة: مسار دراسي وعاطفي وكفاحي وأخطاء وسقطات، وعلى ذلك فإن السيرة الذاتية هي منتحلة من الأساس، فالكاتب يختار متعمداً مساراً معيناً أو يمزج بين مسار أساسي وآخر فرعي لكي يقدم السيرة الذاتية بنهج معين يشير فيه إلى طرح أدبي لحياته، ومهما توخى الصدق والأمانة فهو يعيد النظر إلى تاريخه بعين ووعي لاحق أكثر نضوجاً وهدوءاً لأن الأحداث بحلوها ومرها مرت بسلام، ولذلك أنا لا أفضل هذا النوع المبني على سيرة حياتية أو حتى سيرة غيرية منتحلة من سيرة ذاتية كما يفعل البعض، وأميل إلى خلق عوالم موازية فيها قدر من الانفتاح على الخيال والتجريب وربطها بالواقع أو جعلها تبدو في ثوب واقعي أو فنتازي أو سحري، وهذا النوع على ما يبدو فيه حرية وتحليق في عالم الخيال، له ضوابط صارمة تفرق بينه وبين الخيال المحض أو الذي لا طائل من ورائه، فالخيال هنا وسيلة وليس غاية في حد ذاته، وسيلة لخلق عوالم موازية والتحليق في سموات وفتح آفاق جديدة لتمرير شخصيات وأحداث ومحتوى فكري وسردي، لكن ليس معنى أن نعتبر الخيال هو الهدف فنغرق في الغرائبية، ونجعلها مرتكزاً أساسيا ونأتي في النهاية ونحمّلها رسالة مكرورة وسطحية لننقذها من فخ السقوط في التفاهة والكارتونية، وهذا اللون أراه كثيراً من حولي في روايات وأفلام عالمية وأعتقد أن الدرس الذي وعاه ماركيز حين قرأ أول سطور «المسخ» لكافكا كان هو الدرس الأهم في حياته الأدبية حين أدرك الفارق بين التخييل المحض والسحرية حيث قال: «عندما قرأت ذلك السطر، قلت لنفسي إنّني لم أعرف من قبل أحداً يُسمح له بأنّ يكتب شيئاً كهذا. ولو كنت أعلم هذا لبدأت بالكتابة منذ زمنٍ طويل. ولقد بدأت بعدها على الفور بكتابة القصص القصيرة».
غير أنه وطبقاً للتعريف الأولي باعتماد الكاتب على تجربة حياتية وقرائية على حد سواء في الكتابة فلا يستطيع الكاتب في النهاية الفكاك مما عاش وخبر بنفسه لا يستطيع أن يبتعد عن حياته الشخصية كلياً وينسلخ منها ويكتب عما لم يعش طوال الوقت حتى لو ألبسه التخييل والتحوير لأشكال أخرى، وهنا يأتي مزج خفي موزع وهادئ داخل نسيج العمل وبين جنباته بطريقة لا يلحظها القارئ وقد لا يلحظها الكاتب نفسه في حينها بين ما عاش وما يتخيل ويتسرب ذلك كله عبر وعيه مستتراً وممزوجاً ومخلوطاً بتلك الحيوات الموازية التي يحاول خلقها وهكذا أفضّل أن أكتب وأن أقرأ.
يكتب بعض الكتّاب رواياتهم ارتكازاً في الأساس على حياة الكاتب وخبرته، وتنهل نصوصهم من سيرتهم وتاريخهم والشخصيات المحيطة بهم، ومثال ذلك عالمياً «وليمة متنقّلة» لهمنغواي، و»الخبر الحافي» لمحمد شكري.
على الجهة الأخرى هناك نصوص مبنية في كلّيتها على التخييل، سواء كان ذلك التخييل مجرد تأليف لأحداث قصة تشبه قصص الواقع، لكنها مبتكرة كلّياً بأحداثها وشخصياتها ومساراتهم، أو تلك التي تعتمد على الفانتازيا الصرفة، مثل «آليس في بلاد العجائب» للويس كارول، و«دون كيخوتة» لميغيل دي ثرفانتس. والسؤال الرئيس الذي يُطرح: هل يسود أحد هذين اللونين في السرد العربي؟ ما المسافات والفوارق الفنية بين اللونين، وهل تساهم الكتابة الملتصقة بالذات والواقع في أن يجد الكاتب صوته السردي؟
في المساحة التالية، تعرض آراء مجموعة من الروائيين، حول مسألة الواقع والتخييل في الرواية:
أنظر إلى نجيب محفوظ
عمرو عاشور – روائي مصري
الأدب المفضل لديّ هو الأدب الجيد، بصرف النظر عن نوعه، فالأدب فن، والفن خُلق للاستمتاع، في النماذج السابقة مثلاً كانت درجة استمتاعي ب»وليمة متنقلة» قدر متعتي في قراءة «دون كيخوته»، كل ما في الأمر أن هناك كاتبا جيدا. وأنا شخصيًا أمارس كتابة اللونين، فرواية «كيس أسود ثقيل» مثلا جاءت أشبه بسيرة ذاتية، غارقة في الواقعية، كنت أنهل وقت كتاباتها من الذكريات والخبرة، وكنت مستمتعا بذلك، كنت أعيد قراءة الماضي، بعين أخرى. وفي المقابل جاءت رواية «رب الحكايات» مبنية على الخيال الصرف، أبطالها جني وعفاريت، وكانت لها أيضًا متعة خاصة، ففي رواية السيرة تتلهف على الكتابة بحنين للماضي، بينما في الرواية المتخيلة يدفعك الفضول لاكتشاف المستقبل، كنت أكتب فقط لأعرف ماذا سيحدث. الرواية فن ثري، وأعتقد أن الكاتب الجيد فقط هو من يدرك اللعبة، ويضع يديه على تنوعاتها، ولك في نجيب محفوظ مثال وقدوة، فالرجل كتب السيرة الذاتية في «المرايا» و»حكايات حارتنا»، وكتب التخيل في «ليالي ألف ليلة» و»رحلة ابن فطومة». غير أن التنوع المحفوظي أثرى من ذلك، فكتب الرواية التاريخية والسريالية والسياسية والاجتماعية والبوليسية، وكتب الرواية التي ترصد المجتمع، والرواية التي تتنبأ بمستقبله، حتى الأحلام استطاع أن يوظفها ويجد لها مكانة أدبية. إذن فالتفضيل بين صنفين مختلفين لا يجوز، وكأنك تخيرني بين نوعين من الطعام، كلاهما له مذاقه ومتعته.
أعتقد أن الرواية المتخيلة أكثر انتشارا في الأدب العربي من أدب السيرة الذاتية، وهذا طبيعي، فالقارئ أساسا يبحث عن حكاية شيقة بعيدة عن واقعه، أو واقع المحيطين به، إلا إذا كان كاتب السيرة ذا مكانة خاصة عند القراء، ولكن في المجمل فإن معظم الروايات التي تتصدر ال«بيست سيلر»، وتفوز بالجوائز المحلية والدولية هي الروايات المتخيلة، حتى في الأدب العالمي، سنجد أن «وليمة متنقلة» أقل شهرة من «الشيخ والبحر»، و»أليس في بلاد العجائب» أشهر من مذاكرات هنري ميللر، وهكذا… فهل لأن الخيال محفز للعقل أكثر؟ لا أعرف، ولكن ما أعرفه تمامًا أنه ليس هنالك أمتع من الخيال. الكتابة عن الذات تحل لك أكبر عقدة يواجهها الكاتب، البحث عن الصوت، مخرج العمل الذي سيدير كل شيء دون أن يظهر أمام الكاميرا، لذلك فإن الكتابة عن الذات توفر لك هذا الصوت بسهولة وتلقائية، أنت تحكي عن نفسك، بطريقتك، حكاياتك التي عشتها أو سمعت بها، ليس هناك أسهل من ذلك.
في المقابل، في الكتابة القائمة على الفانتازيا والتخييل، الكاتب حين يتخيل شخصيات عليه أن يتقمصها تمامًا، أن يكون هي، وإلا اكتشف القارئ كذبته، ولم يصدقه، فالكاتب الجيد كاذب ماهر، كلما أتقن كذبته كان عمله أكثر تصديقًا، لذا فإن الكاتب قد يُجبر أحيانًا على أن يسرد بصوت الشخصية التي قد تكون مناقضة لصوته الخاص، وأتذكر رواية «ثرثرة فوق النيل» وكيف كان السارد مسطولا أدخله ذلك في دوامة من التساؤلات العبثية والوجودية، وكيف كانت فلسفته في الحياة. أنت تعتبر أن رواية «المسخ» لكافكا هي رواية متخيلة، وأنا أراها قمة الواقعية. كان من الممكن أن يكتب كافكا سيرته الذاتية، معاناة مع المرض، مع الأب، مع العنصرية، مع الاضطهاد، مع الحياة نفسها، ولكنه عبر عن ذلك كله بافتراض بسيط، ماذا لو تحولتُ إلى حشرة؟ كيف ستسير بي الأمور؟ إنه يتحدث عن نفسه من خلال عمل متخيل أليس هذا مزجا. والسيرة أيضًا لا تخلو من التخيل، وإلا تحولت إلى اعترفات ومذكرات، فنظرية «والله العظيم أقول الحق» تجوز في المحاكم، أما الرواية فهي فن له مطالباته.
المشي على الحبال
حجي جابر- روائي إرتيري
هناك مسافة ولا شكَ بين النص المعتمد على السيرة الذاتية والآخر المبني على خيال محض، ولكل منهما ظروف وشروط ودرجة حرفية مطلوبة، دون تفضيل فنّ على الآخر.
لنتخيّل الأمر على النحو التالي: ثمة نقطتان على ارتفاع عال يربط بينهما خيط رفيع مشدود. النقطة الأولى حيث يقف الروائي، وهنا تحتشد حكاياته الخاصة وتجاربه ومعارفه اللصيقة وما سمع ورأى وأحسّ. هذه هي المنطقة الآمنة التي لا تحمل أي قدر من المجازفة، ولا تتطلب ذلك المستوى العالي من المهارة، فبإمكانه هنا أن يغرف كما شاء من تلك الحكايات والتجارب والمعارف الخاصة، ويضمّنها روايته مع بعض التغبيش الذي يُبعد عنه تهمة السيرة الذاتية. هذا الأمر يحدث عادة في البدايات، ولهذا اعتدنا ترديد أن الروائي في عمله الأول غالباً ما يغرف من ذاته ويشتغل على سيرته الذاتية، بإعادة إنتاجها، أو عرضها كما هي.
مع تراكم التجربة والتمرّس في الكتابة، وحتى القراءة؛ إذ أنّ الكتابة تُحسّن من مستوى قراءات الفرد، يتقدّم الروائي قليلاً باتجاه النقطة المقابلة سالكاً الخيط الرفيع المشدود، ومقبلاً على المجازفة أكثر ومتخلياً عن منطقة أمانه وطمأنينته ليزيد من مساحة التخييل فيما يكتب على حساب ما يستجلبه من حوله. يبدأ بالمزج بين النوعين إلى أن ينتهي إلى كتابة الخيال المحض. إذن كلما زادت مساحة التخييل في النص كان ذلك أكثر صعوبة ومجازفة، لأن الخيال لا يعني التخليّ في داخله عن المنطق وتماسك الأحداث.
في المقابل لا أريد أن يُفهم من كلامي أنّني أقلل من قيمة النص المعتمد على السيرة الذاتية، فهو أحياناً يكون أكثر صعوبة، لكونه سهلاً ممتنعاً يصعب فيه على الروائيّ التمييز بين السذاجة والإبداع حين يختار من سيرته ما يصلح للكتابة. ولهذا نرى من يختتم مشواره الطويل في الكتابة بالعودة إلى السيرة الذاتية، وليس العكس. السيرة الذاتية كالرصاصة اليتيمة، لا بد أن تصيب هدفها من المرة الأولى، هي فنّ التقاط النافذ والمؤثر وسط كومة العاديّ والمبتذل. وفي وقت يتيح فيه التخييل الوصول إلى ذرى بعيدة في التجريب، تمنحنا السيرة الذاتية فرصة النفاذ إلى روح القارئ ولمس أعمق نقطة فيها.
كيف تجعل المألوف مدهشاً؟
محمد داود – روائي مصري
هذا موضوع يصعب جدًا تناوله في مساحة صغيرة، إنه يكاد يكون محيطًا بشجرة الكتابة الروائية من الجذور إلى الثمار. يمكن القول عمومًا إن ثقافتنا تميل للستر والإخفاء نتيجة عوامل يطول شرحها، هذه ثقافة الحجاب، كما أنها تميل لتقييم الناس من منظورها الخاص للمعايير الأخلاقية، وهذا يستتبع إشاعة وتأكيد خواص كالفضول والتلصص، هذا ما يمكن القول إنه يجعل الناس تربط بين ما يكتب الروائي وحياته، وطبيعة الفن عامة والرواية، خاصة التجاوز، ولهذا لا قيمة فنية للأعمال التي تناولت الذات والسيرة الذاتية بمنطق الحجاب، وتنقية الذات من كل شائبة وتبرئتها من كل عيب أو ما هو متوهم أنه عيب، البعض يضع مثل تلك الأعمال ضمن ألوان الفن الروائي، ولا داعٍ لذكر عناوين محددة، أعتقد شخصيًا في استبعادها باعتبارها لونًا مختلفًا من الكتابة وكفى، هذا أحد أهم أسرار القيمة الرفيعة لعمل مثل «الخبز الحافي». وبشكل ما كل ما يكتب الروائي هو سيرة ذاتية بمعنى أعم من تأريخ أحداث حياته بما هو شخصي، المسألة لا تتعلق بأحداث الحياة تحديدًا، إنها متعلقة أساسًا بالعقل الفني الذي يمكنه جعل العادي والمألوف فنيًا ومدهشًا، هكذا صاغ مارسيل بروست «البحث عن الزمن الضائع»، على العكس من ذلك ما أكثر الذين لهم حياة كلها تشويق وإثارة، لكنهم يفتقدون للطاقة الفنية اللازمة لتحويلها إلى فن جميل. والجدل بين حياة الكاتب أو سيرته الذاتية وفنه ثري ولا يتوقف، إنه يتجدد مع كل عمل، ولكل كاتب تجربته المميزة كبصمته، ولدي تجربتي، قد تتلمسني أنا أو بعضي اجتماعيًا في عملي الأول «قف على قبري شويا»، وتجدني فلسفيًا في «السما والعمى»، وتجدني إنسانيًا في «فؤاد فؤاد» وتجدني متأملًا ومذهولًا موزعًا بين الواقعي والفانتازي في «أمنا الغولة»، عملي الأخير «بار أم الخير» فانتازي تمامًا، مع ذلك يمكن القول أو الاعتراف بأنه الأقرب تعبيرًا عما يمكن وصفه بالسيرة الذاتية، هذا ليس سرًا، لكنه لا يضيف شيئًا للقارئ، فالعمل منفصل ومستقل عني، وهو كسابقيه لا يشمل شيئًا محددًا من وقائع حياتي، إنه يحفل بغرائب كفيلم أنيميشن، كأنه تعليق فني كاريكاتيري على حياتي عامة وحياتي كروائي بشكل خاص. أقول لنفسي لعلي إن عشت وتوافرت الطاقة الفنية أتناول تفاصيل حياتي على نحو تفاصيلي محدد ربما بالتواريخ؛ لكن هل هذا شأن مهم؟ لعلي سعيت في «بار أم الخير» لإكساب سيرتي الذاتية قيمة بالفن، يعني بعيدًا عن التفاصيل المباشرة لحياتي الاعتيادية، المملة غالبًا، والتي لا تهم غيري إلا قليلًا ممن يهمهم أمري.
درس ماركيز وكافكا
محمد رفيع – كاتب مصري
بدءاً لو اتفقنا على أن الكتابة هي تعبير ما عن مجموعة من الخبرات الحياتية والقرائية ممزوجة بالتخييل والأسطرة والاستفادة من الفنون الأخرى، كما يحلو لي أن أطلق عليها، فسندرك أنه في كل الحالات ليست هناك سيرة ذاتية صادقة وواقعية تماماً، فحياة الإنسان مجموعة من المسارات المتداخلة: مسار دراسي وعاطفي وكفاحي وأخطاء وسقطات، وعلى ذلك فإن السيرة الذاتية هي منتحلة من الأساس، فالكاتب يختار متعمداً مساراً معيناً أو يمزج بين مسار أساسي وآخر فرعي لكي يقدم السيرة الذاتية بنهج معين يشير فيه إلى طرح أدبي لحياته، ومهما توخى الصدق والأمانة فهو يعيد النظر إلى تاريخه بعين ووعي لاحق أكثر نضوجاً وهدوءاً لأن الأحداث بحلوها ومرها مرت بسلام، ولذلك أنا لا أفضل هذا النوع المبني على سيرة حياتية أو حتى سيرة غيرية منتحلة من سيرة ذاتية كما يفعل البعض، وأميل إلى خلق عوالم موازية فيها قدر من الانفتاح على الخيال والتجريب وربطها بالواقع أو جعلها تبدو في ثوب واقعي أو فنتازي أو سحري، وهذا النوع على ما يبدو فيه حرية وتحليق في عالم الخيال، له ضوابط صارمة تفرق بينه وبين الخيال المحض أو الذي لا طائل من ورائه، فالخيال هنا وسيلة وليس غاية في حد ذاته، وسيلة لخلق عوالم موازية والتحليق في سموات وفتح آفاق جديدة لتمرير شخصيات وأحداث ومحتوى فكري وسردي، لكن ليس معنى أن نعتبر الخيال هو الهدف فنغرق في الغرائبية، ونجعلها مرتكزاً أساسيا ونأتي في النهاية ونحمّلها رسالة مكرورة وسطحية لننقذها من فخ السقوط في التفاهة والكارتونية، وهذا اللون أراه كثيراً من حولي في روايات وأفلام عالمية وأعتقد أن الدرس الذي وعاه ماركيز حين قرأ أول سطور «المسخ» لكافكا كان هو الدرس الأهم في حياته الأدبية حين أدرك الفارق بين التخييل المحض والسحرية حيث قال: «عندما قرأت ذلك السطر، قلت لنفسي إنّني لم أعرف من قبل أحداً يُسمح له بأنّ يكتب شيئاً كهذا. ولو كنت أعلم هذا لبدأت بالكتابة منذ زمنٍ طويل. ولقد بدأت بعدها على الفور بكتابة القصص القصيرة».
غير أنه وطبقاً للتعريف الأولي باعتماد الكاتب على تجربة حياتية وقرائية على حد سواء في الكتابة فلا يستطيع الكاتب في النهاية الفكاك مما عاش وخبر بنفسه لا يستطيع أن يبتعد عن حياته الشخصية كلياً وينسلخ منها ويكتب عما لم يعش طوال الوقت حتى لو ألبسه التخييل والتحوير لأشكال أخرى، وهنا يأتي مزج خفي موزع وهادئ داخل نسيج العمل وبين جنباته بطريقة لا يلحظها القارئ وقد لا يلحظها الكاتب نفسه في حينها بين ما عاش وما يتخيل ويتسرب ذلك كله عبر وعيه مستتراً وممزوجاً ومخلوطاً بتلك الحيوات الموازية التي يحاول خلقها وهكذا أفضّل أن أكتب وأن أقرأ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.