ما الحضارة؟ وهل نحن متمدنون؟ إنها ليست البنايات الشاهقة والشوارع العريضة والأضوية الملونة التى نراها فى الليل.. نحن لم ندخل بعد إلى الحياة المدنية من أوسع أبوابها ليس لأن عندنا عمارات وطرقات ونقود سيارات فارهة ونستورد أغذية ومعلبات ونعيش فى بيوت مريحة.. إلخ كما يعتقد أغلب الساذجين ! هذه ليست بنى تحتية حقيقية، فالتحضر عملية تاريخية معقدة تبدأ بصناعة البنى الفوقية المنتجة التى يمكنها أن تبدع فى صناعة البنى التحتية. باختصار البنى الفوقية تعنى بالإنسان وكفاءته وحرفيته ومهارته.. ومنتجاته وإبداعاته واختراعاته.. ،كل ما يقدمه للحياة.. بل لا يمكن تطوير أية بنى تحتية من دون البنى الفوقية التى توليها كل الدول والمجتمعات المتطورة كل اهتمامها فى تنفيذ خططها. هل نجح العرب فى بنيوياتهم التحتية ؟ فعلا لقد بنيت العمارات الشاهقة وفتحت الشوارع الواسعة وازدانت بالأضوية الملونة الساطعة...! وكأن البنية التحتية تتمثل باستيراد الأغذية والسيارات والألبسة وفنادق الدرجة الأولى والأبنية الشاهقة.. إلخ، وغاب عن العرب مفهوم التحديث وطبيعته، كما غابت عنهم أيضا كيفية بناء وتشكيل شبكات سكك الحديد فيما بين أقاليمهم وبلدانهم، بدل تلك الخطوط التى كان المستعمر قد بناها على الأرض العربية! وغاب عنهم المنتج الثقيل فى التصنيع! وغاب عنهم أيضا أن يعتنوا بأريافهم ودواخلهم الجغرافية بنفس القدر الذى يمنحونه للعواصم الجميلة! وغاب عنهم التخطيط العمرانى المتطور إذ مازالت عشرات المدن العربية كئيبة فى حالة يرثى لها وكأنها خرجت توا من ظلام العصور الوسطى ! وغابت عنهم أيضا صناعات عدة: الأرض الزراعية والسياحة المتفوقة والخدمات الصحية والبلدية والحدائق والطرق الممتازة.. إلخ.. وهى بنى تحتية حقيقية ولكن من جانب آخر، غابت عن مجتمعاتنا صناعة الفوقيات من أجل خلق التحتيات سواء فى الاعتناء بالإنسان المواطن أفضل عناية وتشكيله عقلانيا وتربويا وثقافيا وتخصصيا من جديد من خلال النخب الحرة المثقفة والمتميزة والمبدعة وأيضا تطبيق التربويات القوية والتعليم رفيع المستوى، مع الاعتناء بحقوقه وواجباته ! نعم، لقد غاب عن العرب تشكيل بنى فوقية فى مجتمعاتهم من أجل أن تمتلك القدرة على مقارنتها ببقية المجتمعات المتقدمة ! هذا هو إذن المعنى الحقيقى للبنية الفوقية ! ؟ معنى صناعة البنية الفوقية والكذبات الكبرى: ولكن من الذى يخلق البنية التحتية فى البلاد ؟؟ إنه ذاك الذى امتلك البنية الفوقية.. والأخيرة اصعب فى تحقيقها من الأولى، لأنها غير قابلة للشراء والاستيراد أو للاستهلاك الرخيص.. إنها باختصار : صناعة للقوى البشرية الفاعلة بما تمتلكه من حذاقة ومهارة وخبرات وثقافة وتكوينات وتجارب وذهنيات وأفكار وإبداعات ومنتجات فى كل ميادين الحياة وحقولها.. لقد مرت المجتمعات البشرية المتقدمة بتجارب مريرة وصعبة، وهى تتنافس فى صناعة كل من بنيتيها، وخصوصا الفوقية فيها، ولم تزل حتى اليوم تعمل على جذب الأذكياء فى العالم واستقطابهم على عكس مجتمعاتنا التى كانت وستبقى طاردة للعقول والأذكياء والقوى الفوقية ! ومن أنكى التفسيرات الرائجة أن الاستعمار وأذنابه هما وراء كل هذا وذاك ! وغاب عنهم أن كل الخلل إنما كان سياسيا داخليا جملة وتفصيلا سواء على مستوى المسئولين الرسميين المتنوعين الذين أساءوا بتخلفهم صناعة قرارات مجحفة ومتخلفة أضرت بمصالحنا الفوقية والتحتية معا.. وأيضا على مستوى النخب والفئات والأحزاب السياسية التى لم تعرف فى تجمعاتها إلا الوصولية والانتهازية ولم تعرف فى خطابها إلا الشعارات الجوفاء أو صناعة الأوهام الثورية والخطب المتلبسة بالدين. كم كذب الساسة والزعماء فى أجهزة إعلامهم ودعاياتهم بخلق كذبات كبرى ونسج دعايات وفبركة خطابات وبث تزييفات! وكم توهم الناس أن بلدانا عربية اخترقت حاجز العالم الثالث فأصبحت دولا متقدمة ! والحقيقة غير ذلك أبدا، فهى لم تحقق أى نسبة من التقدم فى بنيتيها التحتية والفوقية.. فالأمية طاغية على أبنائها والإنتاج ضعيف والتخلف يزداد بشكل مخيف والثروات تبدد بشكل جنونى ! وهنا لابد من التوقف قليلا، فكثير من الناس يتوهمون عندما يقارنون أنفسهم بالألمان.. يقولون كان لابد أن نكون مثلهم عندما رجعت ألمانيا بعد قرابة عشر سنوات من تحطيمها فى الحرب العالمية الثانية.. ولا يدركون الفروقات الجوهرية بين الألمان والعرب، صحيح أن البنية التحتية الألمانية تحطمت ولكنها كانت تمتلك بنية فوقية قوية جدا هى التى طورتها بسرعة خارقة وليس مشروع مارشال بذاته! ؟ مشروع قهرى وراء كل التداعيات! إن تداعيات الحياة العربية لا أول لها ولا آخر، وخصوصا عند أولئك الذين يصنعونها، إذ يبدو أن أغلبهم لا فهم لهم ولا ثقافة عندهم ولا إدراك متبادل لديهم.. لقد صنعتهم ظروف الحياة العربية المغلفة بكل أصناف الغرابة والتزييفات والمحسوبيات والمنسوبيات والتعاطفات والعشائريات والبهلوانيات والشعارات والأوهام والأخيلة والعواطف والرومانسيات والبطولات الكاذبة.. لكى تدفعهم نحو ميادين الحياة من دون أى مؤهلات قوية أو إمكانات حقيقية.. وما إن يصلوا مواقعهم حتى يقفوا ضد القوى الفوقية القوية التى يمثلها عدد معروف وواضح من الأذكياء والمبدعين والمتميزين العرب من أجل النيل منهم وقهر مشروعاتهم وتحجيم أدوارهم وخلق المتاعب لهم.. إن الأغبياء والمعوقين والمهووسين بالجمود والتحنط والتخلف هم ببساطة : مشروع قهرى فى استلاب تطور الحياة العربية وإراداتها الحقيقية، وهم فى الوقت نفسه يتمتعون بكل ما تنتجه البنى التحتية، وآخر ما توصل إليه هذا العصر المتقدم، ولكنه من أبعد الناس عن البنى الفوقية ومشروعاتها الحضارية المتمدنة. لقد جمعنى قبل أيام وفى إحدى المناسبات لقاء طويل مع واحدة من أمهر الإعلاميات العربيات من اللواتى يقدمن برنامجا ذكيا على إحدى الفضائيات العربية.. وجرى بيننا حديث رائع بعيدا عن عدسات الكاميرات، وتطرقنا إلى تداعيات الحياة العربية المعاصرة التى لا يمكنها أن تعتدل ولو لمرة واحدة، كما يتمنى ذلك أصحاب الضمائر الحية، لأن واحدا من أسباب وعلل المأساة إنما يكمن فى المشروع القهرى الذى يمارسه الأغبياء الذين توارثوا أمراضهم وصفاتهم السالبة من خلال سريان جيناتهم الوراثية المتخلفة أبا عن جد. سألتنى تلك السيدة الذكية : وهل تعتقد أن الأمور لا يمكن إصلاحها سريعا ؟ أجبت : لا أبدا، فالفرق كبير وشاسع اليوم بين من يريد بناء تحتيا مزيفا من أجل مصالحه الآنية وبين من يريد بناء فوقيا من أجل إنسان عربى جديد يمكنه أن يحيا ويواجه معضلات القرن الحادى والعشرين.. علما بأن المحصلة التاريخية ستكون للثانى لأنه سيخلق بالضرورة بنيته التحتية القوية، ولكن المشروع الأول مجرد نفخ طائش فى الهواء.. إذ كمن أدخل قطيعا من الأبقار المتدافعة فى صالة رائعة تعزف فيها سيمفونيات رخيمة من الدرجة الأولى ! أردفت تلك السيدة المثقفة تسأل وتقول: أنسيت ما يفعله أغلب الحكام العرب الذين يعتمدون على بعض من المستشارين وحواشى الوصوليين والنرجسيين والمازوشيين الذين ليس لهم إلا ملء كروشهم.. إنهم يزينون للحكام كل ما يرونه.. أجبت : صدقت ولكن المشكلة أكبر من ذلك،إذ لا يمكن أن يكون الحكام العرب سببا فى كل المصائب ! فثمة مشكلات معقدة مغروسة فى أنظمتنا الاجتماعية العربية.. وثمة كتل سكانية وجماعات دينية وأحزاب سياسية وعصبيات اجتماعية عربية لا تقبل أن تغير من أنماط تفكيرها أبدا، ولكنها اندفعت فى أحايين مختلفة لإشباع رغباتها من خلال السلطة والنفوذ.. إنه الرضا بالجهالة والتخلف والمقنع تحت شعارات شتى وعناوين براقة! وعليه، فالأمر ليس سهلا وهينا أن يسير العرب فى ركاب العصر.. ومن أسوأ ما تتصف به حياتنا العربية اليوم جعلها المظاهر الكاذبة والخادعة والبراقة والعابرة بمثابة حقائق كبرى وتبنى عليها كل الأشياء! من أجل بنى فوقية وتكوينات جديدة: أعتقد اعتقادا راسخا أن صناعة جديدة للبنى الفوقية العربية كفيلة فى تخليص مجتمعاتنا من معضلاتها وأزماتها ومشكلاتها التى يقف التخلف فى مقدمتها.. إن نجاح أى مشروعات جديدة يستوجب أن يغير العديد من الزعماء والساسة والمسئولين العرب من فهمهم للحياة، وأن تبدأ مشروعات حيوية وخصبة واستراتيجية دائمة من أجل منح الناس حرياتهم المتنوعة التى يفتقدونها مع تطبيقات صارمة لسيادة القانون وإصدار تشريعات ضد البلادة والتخلف والأمية وضد القمع والديكتاتورية وضد الأمراض الاجتماعية وضد العادات البالية.. ناهيكم عن مشروعات تربوية وتعليمية وصحية وتضامنية عالية المستوى يستفيد العرب من تجارب غيرهم.. إن القضاء على الجهل والأمية لم يعد مشروعا كافيا اليوم حتى يعد منجزا خارقا كما يوهمنا البعض، إذ كان لزاما على السياسات العربية أن تختزل الزمن فى صناعة بنى فوقية لضمان تقدم العرب فى القرن العشرين.. وتولى الأذكياء والنشطاء العرب مكانتهم الحقيقية وصناعتهم للقرارات وتنفيذها.. ولكن للأسف لم يحدث كل هذا وذاك. وعليه، لابد أن تتغير الذهنيات الجامدة وتتغير القياسات فى كل المعالجات من أحادية المطلقات إلى التفكير النسبى بعيدا عن الأنوية والمفاخرة والتنطع الفارغ وصناعة الأكاذيب والشعارات وتمجيد البطولات وتقديس الزعماء والعيش فى مستنقعات الأوهام.. مع وجوب احترام موارثينا ونقد تواريخنا وتقديس الشأن العام والمال العام والصالح العام.. نريد بنى فوقية لها القدرة فى صناعة مستقبلنا وتطوير مصالحنا العليا والدنيا لكى تنجح فى تسيير دفة سفننا المعاصرة وسط بحر العواصف وما ينتظر أجيالنا القادمة.. فهل هناك من يسمع ويستجيب فى بناء فوقيات تغدو لها القدرة فى تطوير استراتيجية عليا لنا تحت شمس القرن الواحد والعشرين؟! إننى أشك فى ذلك!