يقول أصحاب هذا السؤال إن الحكومة الدينية نظام قديم كان يصلح للعصور الوسطي ولا يصلح لمجتمع القرن العشرين، في الماضي كان يكفي أن يكون الرجل علي خلق وعلم بالدين ليصبح أهلا لمنصب المسئولية والحكم، أما اليوم فقد تعقدت الحياة، وظهرت التخصصات العالية في كل فرع من فروع الإدارة والحكم، وفي الاقتصاد وفي الطب، فكيف نتصور أن يحكم رجال الدين دولة عصرية يراد لها التطور والنهضة فيصبح منهم وزراء الصحة والأشغال والحربية. وإذا لم يصبحوا وزراء فعلي الأقل يصبح وراء كل وزير مستشار من رجال الدين ولا يمكنه إبرام أمر بدون رأيه، فلا تعقد صفقة تجارية أو بحث علمي أو حملة تثقيفية أو إعلامية أو تعالج مشكلة اجتماعية أو اقتصادية إلا بإذن من رجال الدين..يجتمعون ويناقشون ثم يصدرون الفتوي التي تخرج المشروع إلي النور أو تقضي عليه بالموت، فإذا لم يتفقوا علي رأي فلابد من ركن المشروع إلي أن يفرجوا عنه. ولعل الدافع إلي هذه الفكرة الخاطئة من أساسها هو تصور الناس لحكم الكهنوت في القرون الوسطي في أوروبا، عندما كان الكهنة يعارضون البحث العلمي ويحرقون العلماء أو يضعونهم علي الخوازيق ويتهمونهم بالسحر والشعوذة.. وكانت سلطاتهم تصل إلي حد عزل الملوك أو حرمانهم من الجنة. وللأسف الشديد إن نفس التجربة قد حدثت في عالمنا الإسلامي المعاصر، وذلك في حكم الملالي في الثورة الإيرانية، حيث جعلوا أنفسهم جنرالات يقودون الجيوش ويتحكمون في الاقتصاد وفي الطب والعلم، والإسلام أبعد ما يكون عن ذلك، ونفس الشيء حدث في مصر عندما عارض رجال الدين زرع الأعضاء وعارضوا حقوق المرأة في المناصب العامة والولاية. فلا يوجد في الإسلام رجل دين بمعني أن يحكم الناس باسم الله ونيابة عنه.. وأن مفهوم رجل الدين في الإسلام أنه مدرس للدين ومربٍ وداعية.. وليس له سلطان علي الناس سوي الوعظ والإرشاد.. وسوي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الرسالة هي مهمة كل مسلم عاقل عالم فاهم.. يستوي في ذلك الطبيب أو المهندس أو رجل الدين.. وإذا وصل رجل الدين إلي أي منصب سياسي فذلك يكون لكفاءته الشخصية وجهاده وعلمه وليس لمجرد أنه رجل دين. ومن هنا نقول إن الحكومة الإسلامية ليست حكومة من رجال الدين وليست حكومة كهنوتية، بل هي حكومة عادية كأي نظام حكم في دولة أوروبية عصرية. تتكون من أهل التخصص في شئون الدنيا والإدارة، كل في فرع تخصصه. والشرط الرئيسي فيهم إلي جانب العلم والخبرة والكفاءة هو الخلق الإسلامي مع الفهم الصحيح المتنور للدين، هذا بطبيعة الحال مع التزامهم بتحكيم الشريعة الإسلامية في حياة المجتمع، وهذا هو أحد الفروق الرئيسية بين الحكومة الإسلامية المنشودة وبين أية حكومة معاصرة في العالم الإسلامي اليوم. لقد ظهر في العالم العربي والإسلامي مع الأنظمة الديكتاتورية الفاشلة شعار يقول "الولاء قبل الكفاءة والكفاءة قبل الأخلاق"، وهكذا جعلوا الأخلاق والدين في الدرجة الثالثة من الأهمية بعد الكفاءة وبعد الولاء.. ولم يعد مهما أن يكون المسئول في الدولة سكيرا، أو متعاطي مخدرات، أو زير نساء أو سارقا أو مرتشيا مادام عنده ولاء لشخص الزعيم أو الحاكم، ومن هنا كانت أكبر النكسات التي توالت علي أمتنا، وانهار الاقتصاد وحلت الهزائم، وعم الفساد. والآن قد يقول قائل: إذا كانت الحكومة الإسلامية من رجال متخصصين في أمور الدنيا والإدارة فمن يشرف علي تطبيق الدين وتعاليمه، ويراقب عدم الانحراف عن أوامره، ونقول إنه لابد من وضع دستور إسلامي واضح المعالم تسير عليه الدولة كلها وتلتزم به، وهذا ما سوف نأتي إلي تفصيله في هذا البحث! وفي الوقت نفسه من المفروض في الحكومة الإسلامية أنها تتكون من رجال يجمعون بين العلم والدين إلي جانب تخصصهم العلمي.. وأنهم يباشرون مهامهم في الحكم وإدارة الدولة عن فهم صحيح لما يتفق مع أحكام الدين. أيهما نتبع: الرأي الديني أم الرأي العلمي؟! هذا سؤال مهم يقول: ماذا يحدث في دولة الإسلام إذا ظهر تعارض بين الرأي الديني والرأي العلمي في قضية حيوية من قضايا الحكم وإدارة شئون الرعية.. ويستشهد هؤلاء ببعض الفتاوي التي أصدرتها بعض الجهات الدينية مثل تحديد النسل وتحريم الدعوة إليه ومثل التحريم علي المرأة أن تتولي وظائف الولاية العامة كأن تكون عضوا في مجلس الأمة أو قاضية أو وزيرة. ومثل المطالبة بمنع فوائد البنوك وتحريم شهادات الاستثمار والمطالبة بفصل الجنسين وإنشاء جامعة مستقلة لكل جنس.. إلي غير ذلك من الفتاوي، ففي مثل هذه القضايا أخذت الدولة برأي أهل العلم المتخصصين فتبنت الدعوة إلي تحديد النسل وقامت علي تنفيذها وسمحت للمرأة بتولي الوزارة ودخول مجلس الأمة وشجعت الفوائد علي البنوك وشهادات الاستثمار، ويقول أصحاب هذا الرأي إنه لو كانت الدولة تحكم حكما دينيا لما استطاعت تخطي الرأي الديني.. وإلا تعرضت الحكومة للسقوط أو اضطرت إلي الضرب بآراء العلماء المتخصصين في شتي العلوم كالطب والاقتصاد والتخطيط والعلوم الاجتماعية، أن تضرب بآرائهم عرض الحائط، وهذا هو ما حدث في الدول المعاصرة التي طبقت الحكم بالإسلام مثل إيران والسودان وباكستان والسعودية، حيث كانت بعض المشروعات الحيوية تتوقف في انتظار فتوي من رجال الدين بالموافقة أو الرفض، مما يؤدي إلي جمود الدولة وعدم قدرتها علي التحرك والنهوض، بل إلي تخلفها عن ركب الحياة المعاصرة. والواقع أن هذه القضية مهمة جدا.. بل هي من أهم قضايا الحكم بالدين في عصرنا الحاضر. فنحن عندما نطالب بالعودة إلي الحكم الإسلامي نربط هذا المطلب بالدولة العصرية وليس بالدولة الكهنوتية.. نحن نرفض بكل شدة أن نكرر المأساة التي حدثت بالإسلام في تلك البلاد وقد بدأت السودان اليوم بعد تخلصها من حكم النميري بالتراجع في معظم القوانين التي أصدرها باسم الدين وبفتاوي مرتجلة وغير علمية بعد أن تبين لمن جاءوا بعده مدي ما ألحقته تلك القوانين بالبلاد من أضرار، خاصة قوانين البنوك والشركات والمعاملات الاقتصادية، وأيضا نظام تطبيق الحدود. ومن هنا يجب أن نضع النقاط علي الحروف في هذه القضية: 1 - في ظل دولة الإسلام يجب ألا يكون هناك انفصال بين السلطة الدينية والسلطة التنفيذية.. ولا يكون هناك رجل دين ورجل دنيا.. ولكن هناك حكومة إسلامية مسئولة عن الدين والدنيا معا.. وهناك علماء ومتخصصون مسلمون يعلمون شئون دينهم وشئون دنياهم في وقت واحد. 2 - أما وظيفة المفتي أو دار الإفتاء.. فهي وظيفة مستجدة علي المسلمين.. ولم تكن معروفة علي عهد الرسول أو خلفائه الراشدين، ولكن استحدثها المسلمون عندما انفصل حكامهم عن الدين وأصبحوا لا يعلمون من دينهم أكثر من نطق الشهادتين، فكان القصد من هذه الوظيفة أن تكون سلطة أخري تقف أمام الحاكم حتي لا يجور علي الدين في أحكامه، وقد أدت هذه الوظيفة رسالتها في كثير من الأحيان، ولكن في أحيان أخري كان بعض الحكام يصدر الأحكام علي هواه ثم يأتي بمن يفتي له ويحل له ما يريد.. وعلي هذا فإن هذه الوظيفة تتغير رسالتها في ظل الحكومة الإسلامية وإلا حدث التضارب والتناقض الذي نراه في عصرنا، مما يسلم المسلمين إلي الفرقة والضياع. 3 - ومعروف أن الإسلام لا يتصدي للأمور الدنيوية عملا بقوله - صلي الله عليه وسلم - "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وقوله أيضا: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من أمور دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن". رواه مسلم. 4 - ومن أهم المسائل التي يحدث حولها الخلاف اليوم بين رجال الدين ورجال الدنيا: القضايا الاجتماعية مثل عمل المرأة وحقوقها السياسية والقضايا الاقتصادية مثل فوائد البنوك، والمعاملات التجارية وقضايا التنمية والتخطيط مثل تحديد النسل، وتحديد الأسعار، والقضايا الطبية المستحدثة مثل طفل الأنابيب وزرع الأعضاء والتبرع بالأعضاء أو بيعها، وأيضا القضايا الفنية كالموسيقي والغناء والتصوير والتمثيل والترفيه البريء. فجميع هذه القضايا المستحدثة لم تكن معروفة علي عهد الرسول، وفي وقت نزول الرسالة.. وبالتالي فلا يوجد فيها نص صريح وقاطع علي الإباحة أو التحريم، ولذلك فإن كل من يحاول الفتوي في هذه الأمور من رجال الدين يتبع أحد طريقين: أ - الاعتماد علي اجتهادات السابقين من الفقهاء وأصحاب المذاهب في القرنين الرابع والخامس الهجريين وهي اجتهادات لم تعد مناسبة لعصرنا. ب - وإما أن يجتهد برأيه الشخصي عن طريق القياس والاستنباط وغير ذلك من الوسائل الفقهية.. وهذه الطريقة قد تجعل المجتهد يشط عن واقع الحياة ومتطلبات العصر لأن اجتهاداته تنبع من آراء نظرية، ولهذا السبب فإن العالم الإسلامي كله قد أصبح يعاني مما يشبه الانفصام في الشخصية أو التناقض بين دينه ودنياه وعدم القدرة علي التوفيق بينهما.. والمخرج الوحيد من هذا المأزق هو الالتزام بالقاعدة الفقهية التي تنص علي أنه إذا اختلف رأي رجل الدين مع رأي رجل العلم في أي مسألة دنيوية فإن رأي العلم هو الذي يؤخذ به مهما كان مخالفا للرأي الديني، وذلك لأن رأي العلم يبني علي التجربة والمشاهدة والدراسة من الواقع، بينما الرأي الديني يبني علي اجتهاد نظري وفقهي قد يصيب ويخطئ حسب المجتهد نفسه وعلمه. 5 - والاجتهاد في عصرنا الحاضر قد أصبح مسألة حيوية لا غني عنها. وهو في ظل دولة تحكم بالإسلام يعتبر مسألة حياة أو موت لهذه الدولة.. ولكن شروط الاجتهاد التي وضعها السابقون لم تعد مناسبة لتحقيق هذا الهدف العظيم في عصرنا.. ويجب أن يضاف إليها: أولا: أن يكون الاجتهاد جماعيا وليس فرديا! ثانيا: أن تكون لجنة الاجتهاد مشتركة بين رجال العلم ورجال الدين فلا ينفرد رجل الدين بالفتوي دون رأي العالم المختص، ولا ينفرد رجل العلم برأي دون معرفة بقواعد الدين، وإذا لم يتفقا فتكون الكلمة الحاسمة للرأي العلمي. 6 - وفي الوقت نفسه فإذا قامت دولة الإسلام فإن أول واجباتها أن تربي جيلا قياديا وعقائديا من العلماء المسلمين الذين يجمعون بين التفوق في العلم مع الفقه بالدين، بحيث يرجع إليهم في كل القضايا التي تجد علي المجتمع الإسلامي، يجب أن تفرض الدولة التعليم الديني علي الكليات العلمية بالجامعة، خاصة تلك التعاليم التي تتعلق بمهنتهم التي يتخصصون فيها.. فيدرس طالب الطب التعاليم الطبية في الإسلام ويدرس المهندس والاقتصادي والضابط والشرطي كل تعاليم الإسلام بين الدين والدنيا وبين الدين والعلم، ولن نحتاج إلي فتاوي تنبع من فراغ أو تعود إلي عشرة قرون مضت.