ربما لو حاولت، عمل كشف حساب، بسيط أو عمل إحصاء أو تعداد للمشكلات التى تعانيها مجتمعاتنا العربية، فإن الصفحات كلها فى بيتى، لن تكفى. هناك مشكلات كبرى، أساسية رئيسية إذا ما خلصت النوايا، للقضاء عليها لانتهت تلقائيا المشكلات الأصغر، المتفرعة منها والتى لا تقل خطورة وأهمية وكلمة "تلقائيا"، لا أقصد بها فى يوم وليلة، لكننى أقصد أن "الأفعى" تموت إذا ضربنا رأسها، وليس ذيلها. المشكلة الكبرى الأساسية والرئيسية التى تفرز معها بالضرورة مشكلات كثيرة عديدة وتؤرقنى أنا شخصياً بدرجة مخيفة الأبعاد، هى أنه فى مجتمعاتنا "لا أحد يحتمل الحقيقة".. إلى حد، أن "الحقيقة" نفسها، هى الأخرى لم تعد تحتمل نفسها. كل "دماغ"، قد كونت عبر سنوات عمرها "حقائقها" التى تعتبرها الصواب المطلق. ذلك "الصواب المطلق" الذى يجرى فى خلايا كل دماغ على حدة، شاركت فيه الأسرة الذكورية.. العقد النفسية للأساتذة، عبر مراحل التعليم الذكورى.. الترسيخ الذكورى للإعلام.. المناخ العام، من التعصب.. والغرور بلا وجه حق، وبلا مبرر. وأشياء أخرى، كثيرة وعديدة تكون "الأدمغة"، وتجعلها فى النهاية ذات بعد واحد فى التفكير والرؤية والتخيل والسلوك.. والحركة.. والهدف. والمصيبة طبعا أن هذا البعد الواحد فى الحياة الموجود فى كل "دماغ" يعتقد أنه دون غيره هو "دستور الحياة" الوحيد.. المطلق، الواجب تطبيقه. أو على الأقل يعتقد، وهى مصيبة أيضا، أنه "الدماغ" الأفضل.. الأكثر واقعية.. الأكثر رومانسية.. الأكثر ملاءمة لنا.. الأكثر حماية للشعب من الكفار والمشركين وأعداء الإسلام.. وأعداء الوطن.. وأعداء العادات والتقاليد، والموروثات وأعداء قوامة الرجال على النساء. إن كل تفكير "مطلق".. بالضرورة "متخلف"، "رجعى"، "سلفى"، يمجد الماضى.. ويشعل نيران جميع الاختلافات الفكرية.. ينمى الفتن الدينية، والمذهبية، والطائفية، والقبلية. وكل تفكير "مطلق" مثلما هو بالضرورة "متخلف"، و"رجعى"، هو أيضا بالضرورة، "ذكورى" التوجه.. ولا يؤمن إلا بالأفضلية المطلقة للذكور. وكل تفكير "مطلق"، مثلما هو "متخلف"، و"رجعى".. و"سلفى"، و"ذكورى".. هو أيضاً بالضرورة، "مختل".. "غير سوى".. "مريض الفكر".. مريض الوجدان.. تعربد داخله، فيروسات كثيرة، وعديدة مثل الغرور.. الانغلاق على الذات ذات البعد الواحد المطلق.. لديه شعور مزمن، أنه "مكروه".. و"منبوذ"، وهذا ينمى لديه، شعورا آخر مزمنا، بالارتياب فى كل من حوله، واتهامهم باتهامات من صنع خياله المختل الذى يعتبره "الحقيقة المطلقة". وفى حالات ليست قليلة، وللقضاء على هذا الشعور بالارتياب تنضم تلك "الدماغ" المرتابة، إلى حركة أو قوة، أو سلطة أكبر منها، تستمد منها العون الأكثر للوقوف ضد "الأعداء".. وفى الوقت نفسه تشعر "الدماغ المرتابة".. بالراحة النفسية نسبياً. "الدماغ" ذات البعد الواحد التى تعتقد امتلاكها الحقيقة الوحيدة المطلقة، الواجب سيادتها، على كل البشر، فى كل البلاد داخل كل البيوت، "دماغ" تكره ذاتها.. تتمنى التغيير، لكنها عاجزة عن التغير، لظروف مختلفة. المفارقة هنا، لكل أصحاب "الأدمغة" المطلقة، أنهم يريدون الهيمنة على الحياة وفرض دماغهم الواحد، لكنهم فى أعماق أعماقهم يدركون أنهم "ضد حركة الحياة".. "ضد طبيعة الأمور".. "ضد حركة التاريخ".. "ضد حب الناس".. "ضد التنوع الذى هو سنة الحياة".. من هذه المفارقة، تجىء كراهيتهم لأنفسهم وأشكالهم المتجمدة وملامحهم المكشرة، والطريقة الزاعقة الإرهابية التى يخاطبون بها الناس، وكأن الناس "عبيد"، و"جوارى"، لهم وعليهم الطاعة دون نقاش وتقبل الإرهاب دون غضب أو احتجاج، أو تساؤل. طبعا، ليس الفكر الأحادى التفكير، مطلق القيم هو فقط الفكر الدينى. هناك بشر ينتمون إلى حركات لا دينية، لكنهم ذوو بعد واحد، هو "ما يؤمنون به"، ويريدون فرضه على الناس. ولكن التاريخ قديما وحديثا وفى الوقت المعاصر، يقول لنا أن الكوارث الدموية والعنف والإرهاب والقتل والتهديد جاء أكثر من تيارات "الحقيقة المطلقة"، التى تتكلم باسم الله.. باسم الأنبياء.. باسم الأديان.. باسم الشريعة.. باسم الشرع.. أكثر بكثير من الحركات التى تتكلم باسم ماركس.. أو باسم دارون.. أو باسم فرويد.. أو باسم مارى كورى.. أو باسم مى زيادة.. أو باسم التطاول على نجيب الريحانى، وعلى الكسار مثلا. "الدماغ" التى تتكلم باسم الله، أو الشرع، يخافها الناس لأن الاعتراض عند هذه الدماغ يعنى "الكفر".. "القتل". ولكن حركة تتكلم باسم مى زيادة فى الأدب والشعر، أو حركة علمية تأخذ اسم فرويد للتحليل النفسى.. أو حركة موسيقية تحمل اسم سيد درويش، أو أسمهان، مهما وصل الاعتراض معها، لن يصل الأمر إلى "التكفير".. و"اهدار الدم".. و"التسلط الإرهابى".. أو رفع قضايا ازدراء "أسمهان".. أو الإساءة إلى ذات "مى زيادة".. أو التعدى على الإله "فرويد".. أو المرتد عن حب "أم كلثوم".. أو إنكار ما هو معلوم، من "سيد درويش" بالضرورة.. أو التجريح فى أفلام نجيب الريحانى وعلى الكسار، أو ضرورة إقامة حد الردة على المنتقدين لأفلام "إسماعيل يس"، ومسرحيات "مارى منيب". كل هؤلاء بشر.. وأذواق البشر أشياء "نسبية".. وكل حاجة فى الدنيا، نسبية. لكن، ماذا نفعل، مع الذين يدعون، أنهم "المطلق والنسبى معا"؟ وأن مجرد الاختلاف معهم، "كفر، وزندقة، وفساد"، ينتظره النبذ والسيف؟ وبلاغات للنائب العام ومباحث أمن الدولة. من بستان قصائدى بدأت أحرص على فقدان وزنى ليس استجابة لإعلانات الرشاقة الذكورية ولكننى أشفق على حال مَنْ سيحمل لحمى وشحمى إلى رقدتى الأبدية لا أريد لأحد أن يلعن بدانتى وهو يوصلنى فى يومى الأخير إلى البيت المحفور الحارس أبديتى