هذا المقال ليس فلسفيا لأن الوقت لا يحتمل الفلسفة. وهو ليس مقالا تصالحيا يهدئ هواجس الناس ويقفز فوق المشكلات، لأنني لا أحبذ هذه الطريقة، ومنهجي المستمر هو تعرية المشكلات، والاشتباك مع الهواجس، واستخدام اللغة المناسبة القانونية والسياسية في التعبير عن الهموم الوطنية، بما في ذلك المنحنيات التي تمر بها العلاقات الإسلامية المسيحية صعودا وهبوطا. هذا المقال مجرد تأملات في حال مجتمع يندفع بقوة، وسط تراضي كل أطرافه إلي فوضي التوتر الديني. الغضب يستبد به، والإحساس بالاحتقان يعتصره، والكل يفهم بعضه خطأ. القوارض تتغذي علي جذور المجتمع، بينما مازال بيننا من يفاخر بالوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين. لا بأس أن نذكر الناس بهذه الوحدة، ولكن لا تكون علي حساب العين النقدية التي تغوص في أعماق مجتمع يتفكك. عم «جمال» رجل مسن لطيف، يهوي حديث السياسة كلما قابلني. وجدته بعد أحداث الأحد الدامي، وقد شاهدني متحدثا عن حقوق المواطنة، ودولة القانون في أحد البرامج الفضائية»، سألني غاضبا: ماذا حدث؟ قدم الموضوع بالمقدمة التقليدية المملة عن علاقات الحب والود التي تجمع المسلمين والمسيحيين، وعندما شعر برغبتي في الدخول إلي صلب الموضوع قال لي: جارة لي مسيحية في حكم ابنتي أسعد بصباحها كل يوم، قابلتني بوجه عابس معتم صباح الاثنين، ومضت دون أن تلقي علي تحية الصباح. ما ذنبي فيما حدث؟. قلت له: لا تستهين بصور القتل والترويع التي حدثت، الكل غاضب، لكن أتمني ألا تطول علاقة الناس بعضهم بعضا. في اليوم نفسه استوقفتني سيدة مسيحية أعرفها روت لي مشادة كلامية في مترو الأنفاق عندما قامت سيدة محجبة من أحد الكراسي، نظرت إليها بقسوة، ولم تبرح مقعدها إلا بعد أن سلمته لأخري محجبة كانت تقف في نهاية عربة المترو دون أن تتركه لمن يجلس أولا من الواقفين بجوار الكرسي. أعقب ذلك تلاسن، ومشادة، وأصوات مرتفعة. سلوكيات مريضة يحركها شعور بالعجز عن تغيير الواقع. هذه مجرد أمثلة عابرة من حياة الناس التي لا يشغلهم حديث الدولة المدنية والدولة العلمانية، ولا يفهمون أحاديث النخبة حول الدستور أولا أم الانتخابات ثم الدستور، بشر عادي، بسطاء، يريدون العيش في مجتمع طبيعي، يلقون ويستقبلون فيه تحية الصباح، ويتصرفون فيه بتلقائية دون أن يكون الغضب المتلبس بالدين حائلا بينهم وبين بعضهم. هل هؤلاء متدينون؟ أشك، حتي لو كانوا ممن يمسكون المسابح، ويداومون علي الصلوات، ويقرأون الكتب المقدسة. إنهم متعصبون لا يعرفون أمر دينهم، والله بريء منهم. هل العبوس في وجه الناس، أو نصرة أهل الدين في كرسي بمترو الأنفاق هو التدين؟ بئس هذا التدين. في حدود دراستي في علم الاجتماع السياسي هؤلاء ليسوا فقط متعصبين، ولكنهم يقدمون نموذجا للتخلف الاجتماعي. هذا الشعب، دون تعميم مخل، متعبد، ولكن لا يعرف جوهر الإيمان. يتعصب لدينه، ولا يمارس التقوي في السلوك. يزايد علي التدين الشكلي، لكنه في الجوهر يمارس الفساد، والتعصب، والكراهية. الله بريء من هذه الممارسات، التي حولت الإنسان إلي آلة من التعبد الشكلي، والكراهية المستبطنة. (1) ذاكرة السبعينيات الجريحة بالطائفية تهل علينا. فيها ما فيها من حقائق، وأفكار غائمة، وروايات ملفقة، وأحاديث العوام التائهة. فيها عناوين كبري لاتزال تتكرر. البابا شنودة يريد بناء دولة قبطية، هناك من الموارنة من كانوا في صفوف الأقباط، السادات قال في مؤتمر يعود إلي الستينيات سوف أجعل الأقباط يسلمون أو يتحولون إلي ماسحي أحذية، مصر القبطية في مواجهة مصر الإسلامية، المؤتمر القبطي في مواجهة المؤتمر الإسلامي عام 1977م، يعود بنا إلي ذاكرة عام 1910م، الصوم ثلاثة أيام، ومشروع تطبيق الشريعة الإسلامية، الجماعات الإسلامية يشتد عودها في الجامعات ومدن الصعيد وتطارد الأقباط والمسلمين المختلفين معها... إلخ. هذه هي ذاكرة السبعينيات الملتبسة. طواها المصريون بحلوها ومرها، دون نقد حقيقي لها إلا في أضيق الحدود. بعد ثلاثة عقود أو أكثر علي انتهاء هذه الحقبة المضطربة يعود بنا البعض مرة أخري إلي هذه الذاكرة القاسية، وكأنها حاضر متواصل وليس بيننا وبينها ثلاثة عقود أو أكثر؟ ذهبت إلي قناة «الناس» - الثلاثاء الماضي- بدعوة كريمة منهم للحوار في برنامج «مصر الجديدة» الذي يقدمه الداعية خالد عبدالله. قناة «الناس» سلفية، سبق أن انتقدتها في مقالات، ومازلت أتحفظ علي كثير مما تقدمه من آراء، لكنني قبلت الدعوة رغبة في الحوار، وتقديرا لمسلكهم في فتح الأبواب أمام التنوع في وجهات النظر. الداعية خالد عبدالله لطيف، مهذب، يقابلك في ألفة وتودد. ضيفا البرنامج هما باحث سلفي شرعي - حسب تعريفه- اسمه «ياسر»، والآخر باحث معروف في مجال الحركات الإسلامية هو ممدوح الشيخ. كلا الضيفين كانا مهذبين، شاركتهما الجدل والحوار وأيضا مداعبات عابرة لتهدئة النقاش الذي ارتفعت حرارته في بعض الأحيان. تمتعت طيلة الحلقة بالتمييز الإيجابي بأن أعطي لي الداعية خالد عبدالله مساحة من الحديث والرد، جعلت سيدة مشاهدة تعلق علي موقع «اليوتيوب» واصفة مداخلاتي بأنها «حرقت دمها». بصرف النظر عن حديث ممدوح الشيخ، فهو يحمل هما بحثيا يؤخذ ويزاد عليه، فإن الباحث الشرعي «ياسر» استحضر ذاكرة السبعينيات في مختلف تجلياتها: الدولة القبطية، وأحلام الزعامة التي تراود القيادات الكنسية بدءا من البابا شنودة وانتهاء بالقساوسة الذين تصدروا المشهد في ماسبيرو، وحمل قصاصات من صحف، وأوراق طبعها من «الإنترنت»، وطرح أمامي روايات وقصصاً أعرفها جيدا لأنها تكررت أمامي في مناسبات عديدة. قمت بالرد علي كل ذلك، لكنني أشفقت علي نفسي والمشاهدين من استدعاء الماضي في غير موضعه. لم أفارق الهدوء، وهو ما دفع مشاهد علي موقع «اليوتيوب» لوصفي بأنني «نصراني زيهم، لكني هادئ ومهذب». بالطبع أشكره لأنه وصفني بخصال طيبة أتمني أن أكون عليها، لكن كان أحري به أن يفتح عقله قليلا ليستوعب رأيا مختلفا عن ثقافة «المونولوج» التي يعيش فيها حتي لو جاء من نصراني. زميلي في الحوار «ياسر» أخذني في سياحة مرتدة إلي السبعينيات، مرددا قصصها، وروايتها، المثبت وغير المثبت. وهو ما أشعرني بأن المجتمع المصري لايزال يعاني من حقبة السبعينيات خاصة من جانب السلفيين الذين لم يتعرضوا إلي حوار، أو نقاش طيلة عدة عقود، فإذ بهم يعودون إلي الساحة محملين بذاكرة السبعينيات. أما الأقباط، فهم يحملون هذه الذاكرة، وزادوا عليها ما جري في العقود الأخيرة من تهميش، واستهداف لكنائسهم وممتلكاتهم وحصار سياسي. كيف يمكن أن يتخطي الناس ذاكرة السبعينيات، ويلتمسون ذاكرة جديدة تعرف الدولة الحديثة، تقوم علي المؤسسات والمواطنة، وتعرف قيمة المشاركة، والبناء، والمساواة. في طريق العودة من قناة «الناس» تذكرت السبعينيات التي عشتها طفلا. مأساة الزاوية الحمراء، وعزل البابا شنودة، وسجن سياسيي ومثقفي مصر، وحبس الشيوخ والقساوسة. تذكرتها أثناء تجولي ببصري في مشاهد التفاوت الطبقي التي اجتاحت المجتمع المصري، من مدينة السادس من أكتوبر إلي عشوائيات المحور، ثم المهندسين وما يحدث في حواشيها. مجتمع يغرق في تناقضات طبقية حادة، وأصبح مرشحا للانزلاق في مستنقع الطائفية. الطبقية تمزق المجتمع رأسيا، والطائفية تمزقه أفقيا. (2) قصدت من حديثي السابق أن أشير إلي أن هناك ذاكرة يجري استحضارها في المواقف السجالية، الغاضبة، وهناك ثقافة جديدة تشكلت في العلاقة بين الطرفين نمت وترعرعت عبر سنوات من الاحتقان الطائفي أبرزها قصص الأسلمة والتنصير، وما بينهما من روايات. أعرف أن لدي عوام المسلمين ثقافة سلبية تجاه الأقباط، وبعضهم ممن يتصل بقنوات إعلامية متشددة دينيا تؤصل لهذه الثقافة الشعبوية، وتلقي عليها بردة دينية خاطئة مستمدة من فقه آخر مستورد من بلاد النفط غير ذلك الذي عرفناه علي مدار سنوات طويلة. وأعرف كذلك أن لدي عوام الأقباط ثقافة سلبية تجاه المسلمين، نتيجة ضعف فرص التلاقي الاجتماعي، والشعور بالتمييز، والإساءة للعقيدة المسيحية في بعض منابر الإعلام، والتهميش السياسي، وغياب دولة القانون التي تشعرهم بأنهم مواطنون مكتملو المواطنة. هناك منابر إسلامية تسيء للعقيدة المسيحية، وهناك منابر مسيحية تسيء للعقيدة الإسلامية. إذا قلت هذا الكلام لن يقبله منك الطرفان، والسبب يعود إلي أن كل شخص يريد أن يري الحقيقة بعين واحدة. فريق من المسلمين يري أن عقيدته تعلو علي غيرها، ومن حقه نقد العقائد الأخري، والقدح فيها، وتفنيدها. وفريق من المسيحيين يري أنه في حالة دفاع عن النفس، يرد علي الإساءة بالإساءة، علي الطعن بالطعن، وعلي القدح في العقيدة المسيحية بالقدح في العقيدة الإسلامية. مباراة عقيدية، مبارزة لاهوتية أو فقهية، الكل يريد الانتصار. تأمل في التعليقات علي مواقع الإنترنت علي الأخبار التي تتناول الملف الديني. تشتم من بعضها، وليس كلها، رائحة غريبة من الكراهية والغضب الدائم، وأحيانا الشماتة. هؤلاء الجمهور الغاضب هو نتاج نظام تعليمي وإعلامي وثقافي فاشل، لم يعودهم علي الحوار والنقاش الهادئ، والخروج من دائرة الفائز والمهزوم، المنتصر والمجروح. أستغرب هذه المداخل. المسيحي الغيور لا يبادل الإساءة بأخري. الكل بالنسبة له موضع حبه، يكره الظلم ويحب الظالم، وإذا فعل رد الإساءة بأخري، يكون قد فعل الظلم الذي يبغضه ويكرهه في الآخرين، وينزلق في دائرة مفرغة من العبث. المسلم المؤمن يعفو، ويعرض عن الإساءة للآخرين وعقائدهم. في رأيي أن الملكوت بلغة المسيحيين، والجنة عند المسلمين لا تنتظر لا هؤلاء ولا أولئك. الله لا يريد متحدثا باسمه، ولا مدافعا عنه. المسيحية ظلت عشرين قرنا، والإسلام أربعة عشر قرنا، ولم يكون هؤلاء من فرسان المعابد موجودين للزود عنه، يكفيهم أن يكونوا مؤمنين حقيقيين، وللرب بيت يحميه. (3) الناس في مجتمعنا لا تعرف معني القتال والدم. في المجتمعات التي عرفته تسود مشاعر الحذر والخوف. عندما ذهبت يوما إلي «بلفاست»، ومكثت بضعة أيام في مركز ثقافي يدعي «كورميلا»، كان الكاثوليك والبروستانت يتخذونه مكانا للحوار، وبيتا آمنا للنساء والأطفال والعجائز في الحرب الأهلية الطاحنة، عرفت معني أن يقوم الناس علي بعضهم بعضا، ويقتلون بعضهم بعضا، ويعيشون في أجواء من الكراهية وعدم الأمان. ويكفي أن تسأل عن الأطفال الذين روعهم فقدان الوالدين، والعيش في كراهية لكل المختلفين عنه، وقد تحولوا إلي أعداء. قرأت يوما أن المذابح التي شهدتها رواندا بين «الهوتو» و«التوتسي» وقعت عقب حديث إذاعي تحريضي أخذ في وجهه الأخضر واليابس. حين يسيل الدم يغيب العقل، وتهيج المشاعر، وتندفع الجماهير. ألم تبدأ الحرب في لبنان بين مسيحيين ومسلمين، ثم انتهت بحرب كل واحد ضد كل واحد. ألم تؤد الحرب الأهلية الممتدة في السودان إلي إزهاق الأرواح، وتدمير الاقتصاد، والقضاء علي فرص التنمية، وفي النهاية انفصال جغرافي. في الصومال، حيث الناس مسلمون سُنة، لا يعرفون المذهبية الدينية، أزهقت الأرواح، ودمرت البلاد، وانفصل شمالها عن جنوبها في حرب أهلية قبلية، شهدت كل المآسي المتصورة وغير المتصورة بين مسلمين متحدي الملة والمذهب والثقافة. هل نحن بعيدون عن ذلك؟ لا أظن. ليلة الأحد السوداء تثبت أن المجتمع المصري قريب من ذلك لولا بقية من عقل عند أولي الألباب. الناس محتقنة، والشباب في بطالة، والمستقبل الغامض لا يبرح الأفق، والسلاح بكثرة، ووفرة، وجنرالات الثورة المضادة بآلاتهم السياسية والإعلامية وبلطجيتهم علي أهبة الاستعداد، ماذا ننتظر؟ حرب أهلية دون مبالغة أو تخويف أو ادعاء في غير محله. (4) القضية الآن لم تعد ديمقراطية في مواجهة استبداد. ولكن وحدة في مواجهة تبعثر. في ظل نظام مستبد كان التوتر الديني محسوبا، ومبرمجا، وغير بعيد عن أصابع النظام. هل نطالب بالاستبداد للحفاظ علي حد أدني من الوحدة؟ هل الديمقراطية تحمل الانقسام للمجتمعات العربية، ومن بينها مصر؟ لا يصح أن نستسهل الصدام لمجرد أننا لم نشتم رائحة الدم من قبل. إزهاق روح إنسان بريء مسئولية كل شخص في المجتمع المصري، لم يعد يري سوي التشنج، والغضب غير المقدس. إنني مازلت أري أن المسئولية الأولي تقع علي الحكومة في بناء الثقة بين الناس، وتبديد مناخ الاحتقان، وحل المشاكل الطائفية دون تلكؤ، وتطبيق القانون. سياسات عامة تشعر المواطن، أيا كانت ديانته بأنه جزء من مجتمع له حقوق وعليه واجبات. تأتي بعد ذلك مسئولية مؤسسات عديدة تعليمية وإعلامية ودينية تدرب الناس علي الحوار الهادئ، الصريح المباشر، لا يخفون حقائق أو هموماً، يخرجون فيه من ثقافة العار، والدفاع العاجز عن النفس، إلي ثقافة الذنب التي يتطهرون فيها بممارسة النقد الذاتي. المجتمع يحتاج إلي «نوبة صحيان» من غفوته التي يندفع فيها ليس من أجل الجيل الحالي الذي أصابه قنوط التحول الديمقراطي، ولكن من أجل أجيال قادمة لا نريد أن نسلم لهم أرضاً مشبعة بالكراهية والعنف، ولكن مناخ متسامح يشعرهم بمواطنتهم الكاملة. تتحمل الحكومة والقوي السياسية المسئولية، ويتحمل الأقباط والمسلمون المسئولية في مسعاهم لبناء دولة ديمقراطية حديثة تقوم علي المساواة الكاملة بين المواطنين، العبور إليها تخطي حاجز الدم الذي يلوح في الأفق، والنكوص عنها يعني أننا نفتح الباب أمام كل مجهول جهول، ورائحة الدم سوف تزكم الأنوف.