محمد يوسف يكتب تجربته الشخصية: الثوار ينتظرون التحرك للتصدي لمرتزقة القذافي ما أصعب أن يعيش الإنسان فى وهم لأكثر من أربعين عاما، وفجأة يكتشف أن ما كان يؤمن به وهم وخزعبلات، فالواقع شىء آخر لم يكن يتخيله أحد إلا إذا رآه بعينه، هذا هو حالى تماما وأنا أشاهد العقيد القذافى فى جنازة الزعيم الراحل عبدالناصر رحمه الله منذ أكثر من أربعين عاما، كان شابا كله حيوية وبراءة يقفز بجانبى أمام مبنى الاتحاد الاشتراكى «مبنى الحزب الوطنى سابقا» وكان برفقته الرئيس السودانى وقتها جعفر النميرى، وكان القذافى بلباسه العسكرى وراء الجثمان يبكى كملايين المصريين. وبين هذا المشهد وما شاهدته فى رحلتى إلى ليبيا التى استغرقت 20 يوما حيث كنت أعمل مراسلاً فى طاقم إنتاج إحدى القنوات الفضائية الكندية العالمية، جعلنى أؤمن بفساد حكم الفرد وما بالنا وقد استمر فساد هذه السلطة 42 عاما بين طمع الأبناء وجبروت الزوجة للحفاظ على الكرسى أكبر فترة ممكنة بعد أن شعرت بأنى قضيت أربعين عاما فى وهم وخديعة كبرى فقد كان المشهد الأخير صادما بل مفجعا بكل معنى الكلمة. عبرت الحدود وهالنى ما رأيته على بداية الحدود المصرية الليبية فى الجانب الليبى من فقر مدقع وعشش قديمة متهالكة للبدو فى بلد نفطى المفروض أنه رسميا ينتج 6,1 مليون برميل يوميا ومثلهم تباع خارج الأوبك فى السوق السوداء العالمية أى إن هذا البلد ينتج حوالى 3 ملايين برميل يوميا، وبحسبة بسيطة فإن دخل ليبيا من البترول حوالى300 مليون دولار على اعتبار أن البرميل يقدر بحوالى 100 دولار فإذا كان الشعب الليبى تعداده 6 ملايين ونسمة فإننا نتحدث عن دخل يومى للفرد مقداره 50 دولاراً يوميا. فسائق الحافلة الذى كان يعمل معنا أكثر من 10 ساعات يوميا راتبه 10 دنانير ليبية أى حوالى 8 دولارات فكيف يعيش ويعمل ولديه أسرة، فى الوقت الذى يبلغ دخله من ناتج بلده 50 دولاراً بدون أن يعمل، ناهيك عن رواتب أساتذة الجامعات وجميع مؤسسات الدولة والتى تذكرنا برواتب فترة الستينيات فى مصر. 1 - النهب إنها بلد نهبت ثرواتها، وسارقوها خميس والمعتصم وسيف الإسلام وعائشة أبناء الزعيم معمر القذافى. بدأنا الرحلة من القاهرة حتى حدود مصر الغربية إلى مدينة السلوم وعبرنا الحدود المصرية بعد ختم جوازات الخروج، وفى بوابة مساعد الليبية لم نجد حرساً للحدود الليبية أو من يقوم بختم الجوازات تأشيرة الدخول للأراضى الليبية بل وجدنا ما يعرف باللجان الثورية بعضهم بلباس مدنى وآخر يقول إنه عسكرى انضم للثوار، والكل ممسك بأنواع مختلفة من الأسلحة البيضاء من سيف وسنج ومدافع رشاش كلاشينكوف، وعندما سألت عن ماذا يجرى فى أول حدود ليبيا قال لى أحدهم إن جميع العاملين فى الجمارك وعلى الحدود الليبية هربوا إلى طرابلس العاصمة لأنهم من رجال القذافى والبعض منهم انضموا للثوار، ثم أقلتنا إحدى الحافلات الليبية إلى مدينة طبرق التى تبعد حوالى150 كم من الحدود المصرية، وكان هناك كمائن للثوار فى هذه المدينة، حيث كان الكل يهتف بسقوط القذاقى ويبشر بعلامات النصر، ويرفع العلم الليبى الجديد وهو أحمر وأسود وأخضر تتوسطه نجمة بيضاء وهو علم ما بعد الثورة أو انقلاب العقيد القذافى والذى حوله إلى علم أخضر. وصلنا طبرق وأقمنا ليلة فى فندق «المسيرة»، وطوال الطريق هالنى ما وجدته من مناظر البؤس والفقر فى عشش من الصفيح وكافتيريات بدائية، هل هذه ليبيا كما تخيلتها، هل هذه الدولة تصدر رسميا 6,1 مليون برميل بترول يوميا، ومثلهم فى السوق السوداء لصالح القذافى وعصابته كما يقول الليبيون الذين كانوا يرددون هذه الحقائق فى كل مدينة كنا نزورها بعد أن كسروا حاجز الخوف. وفى صباح اليوم التالى ذهبنا إلى أجدابيا ولكننا لم نستقر بها، لعدم وجود فنادق للإقامة بها أو حتى منازل لنؤجرها بحالة جيدة، ومنها إلى بنغازى التى مكثنا بها لمدة 15 يوما، حيث تبعد حوالى 640 كيلو متراً عن الحدود المصرية، وكانت بنغازى محطتنا التى كنا نتابع منها الأحداث اليومية حيث تبعد حوالى 160 كيلو متراً من أجدابيا وهى التى كانت تضم المراسلين الأجانب حيث توزعوا على فندقين «توبست» و«أوزى»، وكذلك تبعد حوالى240 كم من منطقة البريقة التى ضربها العقيد بالطيران العسكرى. 2 - النسف فى منطقة أجدابيا التى كنا نذهب إليها يوميا من بنغازى كانت تضم مخزناً للسلاح لم أشاهد مثله فى حياتى حيث يتكون من 35 دشمة تخزين للسلاح على مساحة حوالى10 أفدنة، كل دشمة تضم أسلحة تحتوى على حوالى50 ألف طن زخيرة أى أن هذا المكان يضم حوالى مليون وسبعمائة وخمسين طناً من الذخيرة الحية، حيث شاهدت بنفسى إحدى هذه الدشم وكان بها ذخيرة «م.ط» أى مضادة للطيران وذخيرة «آر بى جى» ومدافع، وهناك وجدت المئات من المراسلين الأجانب يصورون مواقع سيادة العقيد الذى هرب برجاله إلى العاصمة طرابلس، وتركوا واحدا من أكبر ثلاثة مخازن فى المنطقة الشرقية، وهى المنطقة التى تبدأ من مساعد حتى طرابلس وهى التى وقعت فى أيدى الثوار حيث يحاول العقيد نسف هذه المخازن بإرسال طائرات قاذفة للقنابل شبه يومى بدءا من 3-3-2011 وحتى اليوم، وللأسف هذه القنابل تخطأ أهدافها وتصيب مئات المدنيين. بل إننا فى يوم واحد شاهدنا الآلاف من أهل أجدابيا يشيعون جنازات الشهداء الذين سقطوا ضحايا هذا القذف الوحشى، ومن القصص التى أدمعت قلوبنا جميعا، قصة عائلة ليبية مكونة من أب وثلاثة أبناء كانوا يرعون 20 نعجة فى مزرعتهم الصغيرة، وقصفتهم طائرات العقيد بدلا من قذف مخازن الذخيرة قرب أجدابيا من مخازن حنيه حيث توفى أحد الأبناء وجرح الولدان الآخران، والأب وقف مذهولا مكتوف الأيدى بل إنه غير مصدق أن أولاده يضيعون أمام عينيه أحدهم استشهد والآخران يرقدان فى حالة خطرة فى المستشفى العام بأجدابيا. رجعنا إلى مدينة بنغازى وفى ميدان الثورة أو ما كان يطلق عليه ميدان المحكمة فى مدينة بنغازى شاهدنا الآلاف من المواطنيين يهتفون ضد القذافى، وفى أحد أركان الميدان صورة لشهيد مدينة بنغازى «مصطفى زيو» وهو أب لبنتين عمرهما 12 و14 عاما، كان يعمل مهندسا ميسور الحال فكان يمتلك سيارة مرسيدس أحدث طراز، هاله وأزعجه ما يحدث من الكتائب الأمنية التابعة للقذافى فملأ سيارته الحديثة بأنابيب البوتاجاز وفجر نفسه وسيارته فى بوابة الكتائب الأمنية، واستشهد يوم 19 فبراير 2011 ومن غرائب القدر أن تبدأ هذه الثورة العظيمة ثورة 17 فبراير تقريبا بنفس الأسباب التى أشعلت الثورة فى تونس ومصر. 3- الجموع القصص لا تنتهى والتاريخ يسجل تضحيات الشعوب من أجل تذوق الحرية كان هناك محام اسمه خالد وكلته إحدى العائلات الليبية للدفاع عن ابنهم وبدلا من أن ينجح هذا المحامى فى إخراج الابن من المعتقل، قامت الكتائب الأمنية باعتقال هذا المحامى، وثارت العائلات فى بنغازى على هذا الظلم فما كان من الكتائب الأمنية إلا أن أطلقت النار على شباب مدينة بنغازى وسقط منهم العشرات، ومن هنا كانت بداية شرارة ثورة السابع عشر من فبراير. مازال الغليان وصوت الشعب الليبى من الحدود المصرية إلى حوالى 900 كيلو متر غربا يعلو ويطالب بإسقاط النظام الذى أفقر شعب ليبيا وكمم أفواههم لمدة 42 عاما. شاهدنا الآلاف يخرجون متطوعين ويمرون بشوارع بنغازى خاصة بميدان المحكمة فى طريقهم إلى معسكر خارج المدينة لكى يدافعوا عن البريقة بل ويخططوا إلى الزحف إلى طرابلس. ويظهر العقيد معمر القذافى على شاشات الفضائيات ويقول «شعبى يحبنى» وفى نفس الوقت يرسل كتائب من ميليشيات من تشاد وعدة دول أفريقية أخرى كما رأيت تقتل شعبه بل إنه يدفع لهؤلاء المرتزقة كما قال لنا أحدهم ما بين 5 و12 ألف دولار يوميا ليذبحوا شعبه الأعزل والذى نجح فى الاستيلاء على ذخيرة مخازن السلاح فى حنية قرب أجدابيا. 4 - المرتزقة وتتوالى الأخبار كل يوم علينا بأن السلطات الإنجليزية صادرت مركبا متجها لليبيا يحمل 160 مليون جنيه أسترلينى حولها رجال القذافى من بعض الصناديق المالية ووضعوها فى صناديق خاصة كانت متجهة إلى ليبيا حيث زعم سيادة العقيد توزيعها على القبائل بل انتشرت الكثير من الشائعات عن رفض بعض العائلات الليبية الكبرى فى سرت وطرابلس رشوة العقيد ورفضت عطاياه. ومنذ نحو عشرة أيام وتحديدا يوم 3 مارس قال لنا أحد الليبيين إن سيف الإسلام القذافى والذين يطلقون عليه سيف الكفار ذهب إلى إسرائيل لكى يستأجر طيارين مرتزقة حيث إن الطيارين الليبيين يرفضون ضرب شعبهم وكذلك تقوم مكاتب أمن إسرائيلية ومركزها تشاد بتجميع المرتزقة لكى ينضموا إلى الكتائب الأمنية. وحتى مغادرتنا بنغازى كان سيادة العقيد شبه محاصر فى طرابلس وباب العزيزية ويخطئ من يقول إن هذه حرب أهلية بين الشرق والغرب الليبى، حيث إن مدنا كاملة من غرب طرابلس انضمت إلى ثوار شرق ليبيا، إنها «حرب الثوار» - الثوار على الظلم ونهب ثروات الشعب الليبى المقهور. وكما فعل سيف الكفار كما يطلقون عليه يرسل رسولا إلى الحكومة المصرية لكى يغلق الحدود المصرية - الليبية لخنق ثورة شرق ليبيا بل ويطلب سلاحا من مصر. ولكن باءت محاولاته بالفشل حيث لم يقابل القائد الأعلى للقوات المسلحة المشير طنطاوى هذا المندوب ولم تقبل مصر أن تورد أى أسلحة لتقتل بها الشعب الليبى. بقى لى ملاحظة إنسانية، عندما زرنا العالقين من عمال الدول المختلفة فى ميناء بنغازى، وجدنا مئات الآلاف من عمال بنجلاديش وفيتنام والهند وباكستان، حيث قام الشعب الليبى الكريم بخدمتهم فى مكاتب الموظفين فى ميناء بنغازى حيث وجدت اللجان الثورية تتلقى تبرعات الليبيين العظماء وتقوم بإطعامهم ثلاث وجبات يوميا، برغم إن الليبيين أنفسهم فى هذه المرحلة الحرجة يحتاجون المساعدة، وجدتهم نساء ورجالا يقومون على السهر على هؤلاء العمال، الذين هرب رؤسائهم وأصحاب شركاتهم الصينية والتركية، وتركوهم بلا جوازات سفر ولا حتى نقود وغادروا ليبيا، وهذه هى قمة قذارة الشركات الرأسمالية التى تركت هؤلاء العمال عزلاً لا يملكون شيئا يعودون به إلى عائلاتهم وبلادهم. كان منظر هؤلاء العمال حزينا، بائسا يكادون يفطرون من شدة الحسرة والألم وهم يشاهدون السفن البريطانية الحربية الضخمة وهى تأتى لتنقل رعاياها من العمال الإنجليز، وتغادر الجحيم وهم لا حول لهم ولا قوة ينتظرون الموت فى أى لحظة. هذا هو الفرق بين دول عظمى تحترم مواطنيها مثل الإنجليز وحتى الحكومة السورية والجزائرية أرسلت مراكب مؤجرة بسرعة لنقل مواطنيهم أما الهنود والبنجلاديش والباكستانيين لهم الله لينجدهم من هذة المأساة. تحية للشعب الليبى الصامد الذى اقتطع اللقمة من فمه ليطعم هؤلاء البؤساء. حاولت أن أنقل الصورة كما رأيتها.. لأن من يكتم الشهادة آثم قلبه. مراسل التليفزيون الكندي