على مدار تاريخ الدولة المصرية كان للمرأة قصْب السبق فى كثير من المجالات، وكان إسهامها فى الحياة العامة لا يقل عن إسهام الرجل، ولولاها ما قامت الحضارة، فهى رمانة الميزان ومركز الدفع والتحفيز على العمل والإبداع وشحذ الهمم والطاقات، وفى هذا ما يوضح سبْق مصر الحضارى على غيرها من الحضارات. يحفل التاريخ المصرى فى عصر الدولة القديمة بذكر سيَر ملكات عظيمات، عدد قليل منهن لم يكن على القدر نفسه من الأهمية والمكانة التى تحظى بها، ولا بالقدر نفسه من القيّم الأخلاقية التى أبدعتها مصر القديمة قبل أن يولَد فجرُ الضمير وقبل أن يبزغ الوعى الأخلاقى والقيمى فى العالم القديم.
الملكة ورت إمات إس
من بين سيَر ملكات عصر الأسرة السادسة يأتى ذكر ملكة حملت نعت «ورت إمات إس»، ولا نعرف لها اسمًا على وجه التحديد. ويعنى نعتها «العظيمة فى طيبتها» أو «عظيمة الصولجان». وسوف نطلق عليها اسم «ورت إمات إس» للدلالة عليها. وربما كانت ابنة للملك «تتى» من ملوك الأسرة السادسة. وكانت هذه الملكة زوجة للملك بيبى الأول، أحد أهم ملوك عصر الأسرة السادسة.
وجاء ذكر هذه الملكة فى إحدى السّيَر الذاتية لأحد أهم الموظفين الكبار من ذلك العصر، ويُدعى الموظف «ونى الأكبر». ونقش هذا الموظف نص سيرته الذاتية فى مقبرته فى أبيدوس. وكانت تلك الواقعة من دواعى فخر «ونى الأكبر»، ما جعله يسجلها فى سيرته الذاتية كأحد أهم أحداث حياته الوظيفية. ومن خلال تسجيله تلك الواقعة، يوضح لنا «ونى الأكبر» أهميته وعظم مكانته لدى الملك «بيبى الأول» الذى وثق فيه وجعله يحقق فى تلك الواقعة المتعلقة بالحريم الملكى الذى لم يكن مسموحًا لأحد الدخول إليه ومناقشة خصوصياته. غير أن «ونى الأكبر» بصفته القضائية الكبيرة، ومكانته المهمة فى الدولة المصرية آنذاك، وثقة الملك فيه بشكل خاص، قام بتلك المهمة على أكمل وجه.
ويذكر «ونى الأكبر» أن الملك «بيبى الأول» كلفه بالتحقيق وحده (وهذا الشرف لم يسبقه إليه أحد من قبل) مع هذه الملكة. وفضّل عدم ذكر اسمها حفاظًا عليها. وربما كانت هى «عنخ إن إس بيبى الثالثة» زوجة الملك بيبى الثانى بعد ذلك. وقد تورطت تلك الملكة فى مؤامرة ما ضد الملك بالاشتراك مع الوزير. وتُعد تلك الواقعة الأولى فى هذا الصدد.
وهناك واقعة مشابهة حدثت من زوجة الملك «رمسيس الثالث» من ملوك الأسرة العشرين، وسوف نذكرها لاحقًا.
وهذا التحقيق يؤكد رُقىّ الملك المصرى القديم الذى لم يشأ أن يتم اتهام زوجته الملكة ظنًّا، ودون قرائن إدانة، ودون تحقيق عادل، ودون التأكد من صحة ما نُسب إليها، رُغم أنه كان فى استطاعته اتهامها منفردًا دون تحقيق ودون أدلة إدانة؛ فلم تكن هناك سُلطة تعلو سُلطة الملك فى مصر القديمة، فقد كان ابن الآلهة والممثل للسُّلطة الدينية والدنيوية على الأرض. غير أنه قام بعكس ذلك، واحترم القضاء العادل، وأسند الأمر إلى القاضى «ونى الأكبر» وكلفه بالتحقيق واستجلاء الأمر دون تدخُّل منه.
أجرى «ونى الأكبر» التحقيق مع الملكة ومع كل أطراف المؤامرة. ورفع تقريره للملك منفردًا. ولا نعرف على وجه الدقة ماهية المؤامرة التى قامت بها الملكة. وكان الموظف «ونى الأكبر» من الحصافة بحيث إنه لم يخبرنا بطبيعة المؤامرة، ولا هوية الأطراف المشاركة فيها، بالطبع مع تلك الملكة المتآمرة، ولا بنتيجة التحقيق، ولا مصير المتآمرين.
ورجّح البعض حدوث خيانة زوجية من هذه الملكة. ومال البعض الآخر إلى الاعتقاد بأن الملكة تآمرت على إحدى الزوجات الأخريات الأثيرات لدى الملك. واعتقد فريق ثالث أنه ربما تآمرت على أحد أبناء الملك من ملكة أخرى كى تعرقل طريقه للوصول إلى عرش مصر بعد صعود روح الملك «بيبى الأول» إلى السماء ودخوله عالم الآلهة المبجلين بين ملوك مصر السابقين الخالدين.
ولا نعلم على وجه التحديد ماهية العقاب الذى تم إنزاله بهذه الملكة. غير أنه من المرجح أنها اختفت من الأحداث وتاريخ الفترة وتمت تنحيتها. وهناك من يعتقد أنه تم إقصاؤها ووَلدها. وكان هذا أشد عقاب لها. وبالفعل تزوج الملك «بيبى الأول» من ملكتين أخريين «عنخ إن إس بيبى الأولى، وعنخ إن إس بيبى الثانية»- بنتَىّ النبيل خوى وأختىّ الوزير جعو من نبلاء أبيدوس- وأنجب من الأولى خليفته الملك «مرنرع» ومن الثانية الملك «بيبى الثانى».
هذه قصة ملكة مختلفة عن قصص الملكات العظيمات التى سجل التاريخ سِيَرَهن بأحرف من نور. وليس فى هذا ما يشين مصر القديمة؛ فإن مصر القديمة كانت مثلها مثل أى مجتمع إنسانى قديم أو معاصر فيه ما فيه من أطماع وأحقاد وغيرة وكراهية مما يمتلئ به بعض ضعاف النفوس من البشر. غير أن المهم هنا هو سلوك الملك «بيبى الأول» المتحضر فى تلك الواقعة المشينة. وهذا هو ما يُعبر عن عظمة وروح مصر وتحضُّر المصريين قديمًا ودومًا وإيمانهم قديمًا بقيمة «الماعت» (العدالة) دائمًا وأبدًا.
الملكة نيت إقرتى
تُعتبر الملكة «نيت إقرتى»، أو «نيت إقرت»، أو «نيتوكريس» فى النطق اليونانى لاسمها، من الملكات المثيرات والملغزات فى نهاية عصر الأسرة السادسة، وجاء ذكرها فى كتاب التواريخ لأبى التاريخ هيرودوت وكتابات المؤرخ المصرى مانيتون السمنودى. وهناك من يشكك فى وجودها التاريخى كلية. وربما كانت ابنة الملك «بيبى الثانى» وزوجته الملكة «نيت» وكانت أختًا للملك «مرنرع الثانى». وحَكم بعدها الملك «نفركارع» آخر ملوك الأسرة السادسة. وكُتب اسمها داخل الخرطوش الملكى الذى كان يُكتب داخله عادة أسماء الملوك، ما يدل على أنها ربما كانت ملكة حاكمة.
هذه الملكة لم تُذكر فى المصادر المصرية القديمة إلّا فى قائمة تورين، الذى يحاول البعض التشكيك فى نسبة هذا الاسم للملكة ويؤكد أن المقصود به ملك آخر وليست هذه الملكة، ومن الملاحَظ أن نهاية الأسرات المصرية القديمة شهدت ظهور ملكات حاكمات كما حدث فى نهاية الأسرة الأولى والأسرة الرابعة من قبل، وذلك لأسباب ترتبط بالظروف السياسية وضعف الأسرات الحاكمة أو موت الملوك وقيام الملكات بملء الفراغ السياسى، سواء كحاكمات منفردات أو وصيات على أبنائهن الملوك الصغار.
ومن المعروف تاريخيًّا أن الملك «بيبى الثانى» حَكم مصر لفترة طويلة مات فيها أبناؤه وحتى أحفاده. وترك ولاية الحُكم فى تلك الأسرة الحاكمة بعد وفاته على المحك. وتلاه على العرش الملك «مرن رع الثانى»،غالبًا ابن الملكة «نيت». وربما تلته فى حُكم مصر أخته الملكة «نيت إقرتى». ووصف المؤرخ مانيتون السمنودى هذه الملكة الفاتنة والفائقة الجمال قائلًا إنها كانت أكثر امرأة نبيلة ومحبوبة فى زمنها وإنها كانت ذات وجه جميل وخدين ورديين.
ومن المتعارف عليه أن حُكم المرأة فى مصر القديمة كان مؤقتًا عادة فى الظروف السياسية الطبيعية. ونظرًا لما كانت تستدعيه ظروف البلاد والوصاية وولاية العرش آنذاك، فكان يتم اللجوء إلى حُكم النساء اضطرارًا. وكانت المرأة تحكم إلى أن يشب صغيرُها عن الطوق ويصبح قادرًا على الحُكم بمفرده، فتترك الحُكم له راضية بعد أن تكون قد أدت رسالتها من خلال الحفاظ على العرش له.. غير أنه فى هذه الحالة لم يكن لهذه الملكة ابن كى تحكم نيابة عنه. ومن الجدير بالذكر أن الشعب المصرى قبلها كملكة حاكمة تحافظ على الخط الوراثى فى أسرتها. وربما كانت الملكة «نيت إقرتى» ملكة قوية حكمت البلاد فى فترة مضطربة سياسيّا، ونجحت إلى حد كبير فى أن تدير دفة الأمور فى البلاد إلى أن انتهت الأسرة السادسة، بعدها بملك واحد غالبًا، ودخلت مصر مرحلة الاضطراب السياسى لفترة ليست بالقصيرة.
ويذكر أبو التاريخ، أو أبو الأكاذيب، المؤرخ الإغريقى الشهير هيرودوت الكثير من القصص غير المنطقية عن هذه الملكة وأخيها الملك «مرنرع الثانى» الذى أحلها الشعب على عرش البلاد مكانه، بعد نهايته الدامية وفقًا لهيرودوت. ولم تترك لنا هذه الملكة القوية أى أثر ولا توجد مقبرة لها، وإن كان البعض يرجح وجود هرم لها فى سقارة إلى جوار هرم الملك «بيبى الثانى». وتعطى قائمة تورين الملكية، من عصر الأسرة التاسعة عشرة، الملكة «نيت إقرتى» فترة حُكم قصيرة تقدر بنحو عامَين وشهر ويوم واحد. غير أن هناك عددًا من علماء الآثار المصرية يشكك فى وجود هذه الملكة. ويقترح بعضهم أن اسم «نيت إقرتى» ربما كان جزءًا ليس مسجلًا من اسم ملك ما.
وأثارت الملكة «نيت إقرتى» أو «نيتوكريس» مخيلة الأدباء وألهبت خيالهم، فشاع استخدام وذكر وتوظيف اسم تلك الملكة فى الأعمال الإبداعية فى مصر والغرب؛ خصوصًا فى فن القصة القصيرة والرواية، فنرى كاتبنا الأكبر نجيب محفوظ يكتب عنها فى روايته الشهيرة «رادوبيس» جامعًا بينها وبين رادوبيس، والكاتب المسرحى الأمريكى الأشهر تينيسى وليامز يكتب عنها فى قصته القصيرة «انتقام نيتوكريس» عام 1928م.