مثلما شكَّل الصراعُ المتصاعد بين الولاياتالمتحدةوإيران على خلفية عملية تصفية قائد فيلق القدسالإيرانى «قاسم سليمانى» تداعيات خطيرة على المستوى العسكرى والسياسى فى منطقة الشرق الأوسط والعالم؛ فإنه يمثل بنفس القدر تغيرات واسعة على مستوى الاقتصاد العالمى؛ خصوصًا بالنسبة لأسواق الأسهم والعملات وسوق الذهب والبترول. فى هذه السطور نحاول أن نستعرضَ أهم التغيرات التى يمكن أن تطرأ على تلك القطاعات الاستثمارية، فى حال استمرار تصاعُد الصراع بين الطرفين. كانت أسعار البترول العالمية أول المتأثرين بتداعيات العملية الخطيرة لاغتيال قائد فيلق القدس؛ حيث تجاوز سعر مزيج برنت لأول مرَّة منذ 2014م حاجز ال70 دولارًا؛ نتيجة تصاعُد حدة التهديدات، وإن كان هذا الارتفاع قد جاء نتيجة التراشق بالتهديدات بين أمريكاوإيران؛ فإنه من المتوقع أن يرتفع لأكثر من الضعف فى حال أقدمت الولاياتالمتحدة على رد عسكرى واسع ضد إيران والحركات التابعة لها فى المنطقة، ولعل الارتفاعات التى شهدتها أسعار الخام إبّان حربَى الخليج الأولى والثانية وغزو العراق دليلٌ تاريخى على ذلك الاحتمال. منذ حرب أكتوبر المجيدة عام 1973م، التى شهدت فيها أسعارُ النفط طفرة ضخمة نتيجة قطع العرب إمدادات النفط عن الدول المؤيدة لإسرائيل، بدأ النفط يُستَخدم كسلاح فى كل الحروب التى وقعت فى المنطقة؛ خصوصًا خلال حرب الخليج الثانية عندما دمرت نصف الآبار الكويتية. ويمثل تهديدُ الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» بفرض عقوبات على العراق، ثانى أكبر منتِج فى منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، فى حالة إجبار القوات الأمريكية على الانسحاب منه، دافعًا قويًا لاشتعال الأسعار فى حال أصرت الحكومة العراقية الموالية لإيران على خروج القوات الأمريكية. وبجانب تهديدات إيران التوسع فى الهجوم العسكرى والردود الأمريكية عليها، فغالبًا ما تحاول إيران غلق مضيق هرمز، الذى يمر منه نحو 40 % من صادرات النفط العالمية، فمن الطبيعى أن تكون أسعار النفط أول المتأثرين بنشوب حرب فى المنطقة. وتسعى طهران للاستفادة من الصراع فى زيادة أسعار النفط، للتحايل على العقوبات الأمريكية التى خفضت صادرات النفط لديها لمستويات قياسية، وهذا ما أكده وزير نفطها عقب الهجمات الصاروخية التى استهدفت بها على مواقع القوات الأمريكية فى العراق. فيما ستسعى الولاياتالمتحدة إلى استقرار أسعار النفط؛ لمنع استفادة طهران من هذه الاضطرابات؛ حيث كان الرئيس الأمريكى قد وجَّه بالسَّحب من الاحتياطى الأمريكى من البترول، عَقب إسقاط الطائرة الأمريكية المسيرة من جانب طهران قبل أشهُر؛ بهدف استقرار سوق النفط العالمية. وبجانب أسعار البترول فمن المتوقع أن تتأثر أسعار الغاز، لاسيما الغاز المسال بشدة، ففى حال نشوب أى نزاع، من المؤكد أن تتأثر صادرات قطر التى تشكل نحو 30 % من احتياجات السوق العالمية من الغاز المسال، وتقتسم إيرانوقطر حقل الشمال للغاز الطبيعى، وهو أكبر حقل غاز فى العالم، وتشكل احتياطيات إبران وقطر نحو 30 % من الاحتياطيات العالمية للغاز الطبيعى.
الذهب الملاذ الآمن نظرًا لكون الاستثمار فى المعدن الأصفر، أصبحت قاعدة استثمارية؛ خصوصًا لدى كبار المستثمرين فى أوقات الاضطرابات السياسية، فمن المتوقع أن تعاود أسعارُ الذهب الارتفاع فى ظل احتدام التهديدات بنشوب حرب واسعة فى الشرق الأوسط بعد أن قفزت لمستوى تاريخى ثم تراجعت بشكل طفيف. ووضعَ بنك جولدمان ساكس توقعاته لسعر الذهب فى ثلاثة أشهُر وستة أشهُر و12 شهرًا عند 1600 دولار للأوقية (الأونصة).. مؤكدًا أن المعدن الأصفر، وهو ملاذ استثمارى آمن، هو أداة تحوط أفضل من النفط أثناء مراحل الضبابية السياسية. وقال البنك فى مذكرة «نطاق التصورات المحتملة كبير جدّا.. يتراوح بين صدمات فى إمدادات النفط أو حتى تدمير الطلب على النفط، ما سيكون له تأثيرٌ سلبى على أسعار النفط».. مضيفًا إن من المرجَّح أنه وفق أغلب السيناريوهات، أن يرتفع الذهب فوق المستويات الحالية. وأكد البنك، أن الزيادات فى التوترات الجيوسياسية تؤدى إلى ارتفاع أسعار الذهب عندما تكون حادة بما يكفى تتسبب فى انخفاض قيمة العملة.. مضيفا إن تصاعُد التوترات بين الولاياتالمتحدةوإيران سيدعم المعدن الأصفر بشكل أكبر. وارتفعت أسعارُ الذهب لأعلى مستوى فيما يزيد على شهرين مع انخفاض الدولار، عقب الضربات العسكرية الأمريكية التى استهدفت قادة إيرانيين فى العراق قبل أيام، دفعت المستثمرين للاتجاه إلى المعدن الذى يُعد ملاذًا آمنًا. وصعد سعر الذهب عالميّا أكثر من70 دولارًا للأونصة دفعة واحدة، عقب القصف الصاروخى الإيرانى؛ حيث بلغ 1585 دولارًا للأوقية، بما يشير إلى إمكانية أن ترتفع الأسعار بنسب تتخطى كثيرًا ما توقعه جولدمان ساكس. الأسهم تتهاوَى
لا شك أن سوق الأسهم العالمية، ستكون أكبر الخاسرين جرّاء تفاقُم الصراع فى الخليج العربى؛ حيث غالبًا ما تتهاوَى أسعار الأسهم بمجرد نشوب أى صراعات عسكرية، لكن من المؤكد أن يزيد مقدار التراجع نتيجة أن الصراع اندلع فى منطقة تحتوى على أهم سلعة استراتيجية فى العالم وهى النفط، تلك السلعة تستحوذ على نصيب الأسد من الاستثمارات العالمية منذ عقود. ومنذ مقتل «قاسم سليمانى» تراجعت معظم أسواق الأسهم العالمية، بقيادة الأسهم الأمريكية فى وول ستريت، وعلى رأسها الأسهم الأوروبية واليابانية والصينية ومعظم بورصات الأسواق الناشئة. وكانت الأسهم العالمية قد نجحت فى تحقيق مكاسب قدَّرها دويتشه بنك الألمانى ب17 تريليون دولار خلال 2019م، بفضل الارتفاعات التى شهدتها الأسهم الأمريكية والأوروبية والآسيوية خلال العام الماضى. ويُعد تراجُع سعر سهم أرامكو السعودية لمستوى متدنٍ، مؤشرًا واضحًا على قوة تأثيرهذه الضطرابات على أسواق الأسهم، لاسيما بعد نجاح الطرح الأولى للشركة لأكبر طرح على مستوى العالم، الذى جعل قيمتها السوقية تقترب من 2 تريليون دولار كأكبر شركة على مستوى العالم.
العُملات الصعبة من الطبيعى أن تكون أسواق العملات العالمية، فى مرمى نيران الحرب أيضًا، نظرًا لكون هذه السوق تتأثر بشدة هى الأخرى نتيجة الاضطرابات الجيوسياسية فى العالم. ومن المنتظر أن تشهد أسعار الدولار الأمريكى تذبذبات حادة فى حال نشوب حرب طويلة فى المنطقة، هذا التذبذب سينعكس على كل العملات العالمية الأخرى كالاسترلينى واليورو والين اليابانى واليوان الصينى. وأصبح الدولار فى ظل هيمنته منذ السبعينيات على سوق المعاملات المالية العالمية التى يستحوذ على 40 % منها، أداة استثمارية للدول والأفراد على حد السواء، مثل الذهب والأسهم والسندات. وكانت أسعار الدولار تشهد الكثير من الارتفاع فى أوقات الأزمات فى العقود السابقة، غير أن هذا الأمر من المستبعد أن يحدث خلال الفترة المقبلة، بعدما تغيرت كل قواعد اللعبة. فلم تعد السوق الأمريكية كما كانت هى أكبر سوق استهلاكية فى العالم، بل إن السوق الصينية تعدّتها فى هذا المستوى، فأصبحت بكين هى أكبر مستورد للبترول والمواد الخام وأكبر سوق للسيارات والأجهزة الإلكترونية. كما أن السعى الحثيث من جانب الصين وروسيا وكثير من الدول الصاعدة؛ لإنهاء الهيمنة السابقة للدولار على المعاملات المالية الدولية، عبر استبدال الدولار بالعملات المحلية فى التبادل التجارى يقود إلى أن احتمال صعود العملة الأمريكية كما كان يحدث فى السابق غير ممكن.
العمالة الوافدة على غرار ما حدث فى حروب الخليج السابقة؛ فإنه فى حال تطوُّر الصراع بين أمريكاوإيران، فسوف تكون مشكلة إجلاء ملايين العمالة الأجنبية الموجودة بدول الخليج حاضرة بقوة؛ خصوصًا فى حال امتدت الصراعات إلى كثير من دول المنطقة. وعلى خلفية التصعيد الإقليمى، بادرت حكومة الفلبين إلى اتخاذ إجراءات لإجلاء الآلاف من مواطنيها المتواجدين فى الشرق الأوسط، إذا اقتضى الأمر ذلك. وبحث الرئيس الفلبينى «رودريغو دوتيرتى»،مع كبار المسئولين العسكريين والأمنيين فى البلاد خطط إجلاء ألوف العمال الفلبينيين من المنطقة. وأصدر الرئيس توجيهات إلى الجيش بأن يكون على استعداد لإرسال طائرات وسُفن «فى أى لحظة» بغية إجلاء العمال الفلبينيين من الشرق الأوسط؛ وبالأخص من إيرانوالعراق. ومن المتوقع أن تتخذ دول آسيوية أخرى على رأسها باكستان والهند وبنجلادش، إجراءات احترازية مماثلة على خلفية التوتر الإقليمى المتصاعد، وتقدر بيانات المركز الإحصائى لدول الخليج، أعداد العمالة الوافدة بنحو 13.8 مليون عامل فى 2016م، وتدر هذه العمالة عشرات المليارات لدولها سنويّا. أخيرًا، لا شك أن الحروب غالبًا ما تؤدى إلى آثار اقتصادية مدمرة؛ خصوصًا إذا أدت الصراعات لنشوب حرب واسعة بين قوى عظمى، تتركز فى انتشار البطالة وتدهور الصناعة والزراعة وتقلص التجارة الدولية، لكن كثير من المعارك، تندلع لتغيير قواعد اللعبة الاقتصادية القديمة برمتها، وهذا ما قد يكون بيت القصيد فى هذه الحرب التى كانت شرارتها عبارة عن عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على إيران.