الدولار والذهب والنفط أصبحوا ثالوث كاثوليكي لا يمكن انفصالهم بفضل السياسات النقدية الأمريكية، ولتوضيح ذلك لابد لنا من الرجوع إلى الماضي لنتعرف على أصل العلاقة بين هذا الثالوث، وكيف بدأت وتطورت، وما صارت إليه مع ضرورة استقراء تحليلي لواقع الأزمات النقدية القائمة والمتغيرة من آن إلى آخر، والذي يثبت بلا أدنى شك أنه توجه سياسي فمثلا نلاحظ الهبوط المستمر لسعر الدولار عام 1977 إلى أكثر من 10% بالنسبة لأقوى العملات العالمية مثل الين الياباني والمارك الألماني والفرنك السويسري، والى نحو 20% أمام اليورو عام 2007. وقبل أن يتم إيضاح ذلك ووضع الأمور فى نصابها الحقيقي لبيان سر تلك الأزمة، لابد لنا من وقفة استرجاع واستقراء للماضي نتعرف فيها على السياسة النقدية إبان ذلك الوقت، فهذه تجارب مرت لابد من تحليلها والاستفادة منها حتى نستطيع أن نعيش حاضراً مزدهرا، ونخطط لمستقبل مشرف فى ظل الظروف التى تضعنا بين فكي الرحى. - ففى عصور ما قبل الإسلام، كانت الدنانير الذهبية الهرقلية البيزنطية ترد من الشام، والدراهم الفضية الساسانية ترد من العراق، وكان التعامل بها لا يتم إلا وزنا بحساب المثاقيل، وكان الدينار الكبير يزن مثقال 4.265 جرام، والصغير يزن نصف هذا الوزن، والوسط 0.6 من وزن الدينار الكبير، وكان الدرهم الفضي يزن 0.7 من الدينار الكبير. ولما جاء الرسول "صلى الله عليه وسلم" أقر التعامل على هذا الأساس، وكان عمر بن الخطاب هو أول من أمر بضرب الدرهم سنة 20 هجرية فى السنة الثامنة من خلافته على طراز الدرهم الساسانى، وقد نقش على الطوق الذي يحيط بصورة كسرى بالحروف الكوفية، بسم الله. بسم الله ربى، وفى عام 79 هجرية أمر عبد الملك بن مروان بترك الطراز الساسانى، وضرب الدرهم على طراز إسلامي خاص يحمل نصوصاً إسلامية نقشت عليه بالخط الكوفى، كما أنه أمر بضرب الدينار الذهبى سنة 77 هجرية. - واستمر العالم بأكمله يتعامل بالذهب والفضة كأساس نقدى حتى أوائل القرن العشرين، وقد خلت تلك الفترة من أزمات نقدية ويرجع ذلك إلى ثبات معدنى الذهب والفضة على مستوى العالم، ومع بداية عصر الاختراعات والثورة الصناعية فى أواخر القرن السابع عشر أصبحت الحاجة ملحة إلى السيولة النقدية اللازمة لمجابهة هذه التطورات السريعة والمستمرة فى تلك الصناعات الحديثة. - ولما كان من الصعب العثور على كميات هائلة من الذهب تستطيع سد الطلب على العملات الذهبية، اتجهت الأنظار إلى العملة الورقية "المغطاة بالذهب" لسهولة تداولها، فأنشئ أول بنك فى بريطانيا لإصدار الأوراق النقدية، وبدأت الأوراق النقدية فى الانتشار إلى أن حدثت الحرب العالمية الأولى 1914- 1918، فاضطرت ألمانيا إلى إصدار أوراق نقدية غير مغطاة بالذهب لمواجهة التعويضات التى فرضت عليها على أثر خروجها منهزمة فى تلك الحرب، وفى نهاية العشرينات من هذا القرن تدنت الثقة بالعملات الورقية والمؤسسات المصرفية إلى أدنى معدل لها، غير أن العملات الذهبية ظلت محتفظة بقيمتها عندما كانت تستعمل كغطاء نقدى إلى أن جاء عام 1929 – عام الكساد والانهيار الكبير للأسواق والأسهم والبنوك. - وفى عام 1944 جاءت اتفاقية "بريتون وودز" التى نصت على أن تكون لكل عملة قيمة ثابتة مقومة بالذهب ولها حق الهبوط أو الارتفاع بنسبة 1% عن قيمتها المقومة بها، وجعل للدول المنضمة إلى الاتفاقية أن تعتمد على الدولار كعملة احتياطية أو للتغطية النقدية، كما أن باستطاعتها الاستعانة بصندوق النقد فى عملية تثبيت الأسعار، وقد حدد فيها سعر أوقية الذهب التى تزن 31.1 جرام بخمسة وثلاثين دولارا، فربط بذلك سعر الدولار وجعل الدولار مع الذهب احتياطيا للعملة. - ولابد لنا هنا من وقفة تحليلية متأنية لهذه الاتفاقية، وما أسفر عنها وكيف استطاعت أمريكا أن تسوس وتسود بها، وقد ظل هذا الحال ثابتا إلى أن بدأت أمريكا حرب الدولار مع الذهب ما بين عام 1965 – 1971 ضد العملات الأخرى، وقد قاد الرئيس الفرنسى شال ديجول آنذاك حربا ضد الدولار ليعود مرة أخرى بالذهب كأساس نقدى، ودعا للتخلص من الدولار كأساس نقدى مواز للذهب حتى لا تبقى أمريكا مسيطرة ومتحكمة فى أسواق النقد والتجارة، ولكن الغلبة كانت للدولار، وخلال تلك الفترة، وتحديدا عام 1968 بدأ الذهب يتعرض لنظام السعرين، أحدهما رسمى والآخر حر، وذلك بعد اتفاق المصارف المركزية فى الدول الكبرى على فصل العمليات النقدية عن العمليات التجارية على الذهب. - وبعد أن أعلن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عام 1971 انتهاء علاقة الدولار بالذهب كعملة، وبذلك تصبح الولاياتالمتحدةالأمريكية هى الدولة الوحيدة في العالم التي تستطيع طباعة النقود كما تشاء دون أن تكون ملزمة بتوفير الغطاء المطلوب للحفاظ على قيمتها، اعتماداً على قوة اقتصادها وقبول الدول بذلك و قيامها بالاحتفاظ به كاحتياطي نقدى، وربط الكثير من الدول أسعار صرف عملاتها بالدولار بمفرده أو بسلة عملات يمثل الدولار النسبة الأكبر بها ، علاوة على قيام المؤسسات المالية الكبرى والشركات بالتعامل به كعملة تسويات دولية. - وقد شنت الولاياتالمتحدةالأمريكية حربا شعواء لا هوادة فيها على الذهب لإخراجه عن كونه نقدا، وجعله سلعة عادية كأية سلعة يتحكم فيها قانون العرض والطلب، وذلك حتى يتربع الدولار الأمريكى على عرش النظام النقدى العالمى، ويأخذ مكان الذهب ويصبح هو العملة الوحيدة فى الأساس النقدى، وفى تحديد أسعار النقد، والسلع، وفى التجارة الدولية. - ويلاحظ أن التغيرات فى أسعار الذهب كانت ترافق التقلبات فى أسعار الدولار صعودا وهبوطا بالنسبة للعملات النقدية الأخرى، وأصبح ذلك أداة فى يد الولاياتالمتحدةالأمريكية للتلاعب بأسعار الذهب فى أى وقت تشاء، مما يتيح لها الهيمنة والسيطرة على سائر الدول وتوجيه قراراتها لما يحقق المصلحة الأمريكية أولاً. - وكان هناك ارتباط أيضا بين ارتفاع أسعار النفط وارتفاع أسعار الذهب بنسب تكاد تكون ثابتة إلا عندما يتدخل البنك الدولى، أو البنك المركزى الفيدرالى الأمريكى للتأثير على سعر الذهب لتخفيض قيمته حتى يبقى التحكم بالذهب فى يد أمريكا، ترفع وتخفض فى أسعاره حسبما يتراءى للساسة هناك للضغط على الحكومات فى الدول الأخرى، والتحكم فى اقتصادها، وبالتالى قراراتها المصيرية، فقبل عام 1970 كان سعر أوقية الذهب 35 دولار وكان سعر أوقية الذهب يعادل من 18-20 برميل نفط خام فقط، وعقب حرب أكتوبر 1973، وبالتحديد بداية عام 1974، قفز سعر البرميل من البترول الخام إلى 11 دولار، وفى آخر العام ما بين 18-23.5 دولار للبرميل وقفز معه سعر الذهب إلى 400 دولار للأوقية الواحدة، غير أن تدخلات البنك الدولى والمركزى الأمريكي أدت إلى انخفاض سعر الذهب إلى ما يقرب من 100 دولار للأوقية الواحدة. - ومع ارتفاع سعر برميل البترول إلى نحو 100 دولار، ارتفع معه سعر الأوقية من الذهب إلى نحو 910 دولار وذلك فى 1/4/2008، وبذلك يتضح أن ارتفاع أسعار النفط يصاحبه ارتفاع أسعار الذهب، ويرجع ذلك إلى أن الدول الصناعية المستوردة للنفط عندما يزيد ميزان مدفوعاتها مقابل ارتفاع أسعار النفط تلجأ إلى رفع أسعار الذهب الذى تبيعه إلى الدول المصدرة للنفط، علاوة على الارتفاع الرهيب وبدون مبرر فى أسعار السلع والتكنولوجيا والخدمات التى توردها لتلك الدول، وبذلك لا تنال الدول المنتجة للنفط إلا أثمانا رمزية ومقيدة دفتريا، حيث يبقى فائض دول النفط فى كل من أمريكا والدول الغربية، وبنظرة سطحية للأمور تلجأ تلك الدول إلى زيادة المعروض من النفط لاستعادة النقص، فيقل سعره طبقا لقانون العرض والطلب، كذلك فإن أسعار الذهب والنفط تتأثر تأثيرا مباشرا بالأوضاع الأمنية وهذا واضح من الارتفاع الجنوني لأسعارهما بعد أحداث إيران، وغزو أفغانستان، وحرب العراق. - وقد لوحظ أن هذا الارتفاع الجنوني لم يؤثر ولم يتأثر بالأوضاع النقدية التى حافظت على استقرار نسبى، فقد حدث فى أحد الأعوام أن سعر صرف الدولار بالنسبة للعملات الأخرى القوية، الين والفرنك والمارك "قبل إقرار اليورو كعملة أوربية"، لم يزد عن 5% بينما ارتفع سعر الذهب خلال نفس العام أكثر من 125% وهذا يؤكد لنا أن أمريكا لها اليد الأولى فى التغيرات والتقلبات التى تطرأ على أسعار الذهب، بل والمتغيرات على الساحة الدولية، مما دفع الكثير من الدول الكبرى لمحاولة الرجوع بالذهب كأساس نقدى، غير أن أمريكا تأبى ذلك بشدة وتحارب من أجله بشتى الطرق والوسائل، وهذا ما أكده بكل وضوح وصراحة المسئولين الأمريكيين من أن ما يحدث فى سوق الذهب لا يعنى أكثر من أن الذهب مادة أولية كغيرها من المواد عرضة للمضاربة خلال كمية محددة من الذهب يتنازع عليها مجموعة من المضاربين، الأمر الذى يمكن أن يحدث عكسه، والذى يؤكد أن الذهب لا يمكن أن يشكل مرتكزا للنظام النقدى الدولى. - أذن الأمر بات الآن جلياً أن الولاياتالمتحدةالأمريكية لها أياد فى تلك الأزمة، وما سيأتى أيضاً من أزمات مفتعلة تختلقها حتى تصير لها الأمور، وتوجهها سواء أن كانت تلك الأمور اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو أمنية، وبعد أن تم توضيح سر الأزمة النقدية آن لنا أن نعود مرة أخرى بالتحليل لما حدث من جراء الانخفاض المستمر فى سعر صرف الدولار، فانخفاض سعر صرف الدولار بالنسبة لباقى العملات هو بمثابة ارتفاع فى سعر صرف تلك العملات، فيؤدى إلى رفع أسعار السلع والخدمات التى يتم شرائها بتلك العملات، ومن ثم التأثير على سوق المنافسة مقارنة بأسعار السلع الأمريكية، وهذا يعكس بصورة مباشرة التأثير على الميزان التجارى وميزان المدفوعات. - ولما كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية أكبر مستهلك فى العالم للسلع والخدمات، مما يجعل عرض الدولار أكثر من الطلب عليه فينشأ التضخم و يصل إلى أسواق النقد العالمية الكبرى كاليابان وأوروبا، ، فتنخفض قيمة صرفه طبيعيا بالنسبة إلى العملات الأخرى، وها هى الولاياتالمتحدةالأمريكية تعيد الكرة الآن، فمنذ أربع سنوات وحتى الآن يستمر الدولار فى الهبوط مقابل العملات الأخرى. - وكان من المنطقي أن تبادر أمريكا لاتخاذ الإجراءات المؤدية إلى امتصاص الزائد من المعروض فى أسواق النقد، وهى تملك من الوسائل التى تمكنها من ذلك، غير أنها تركته يستمر فى الانزلاق، علاوة على قيام البنك المركزى الفيدرالى الأمريكى بتخفيض سعر الفائدة ، فلديها شبكة السوب التى أقامتها مع ألمانيا ودخلتها سويسرا، وعن طريقها تستطيع طرح ما تريد من العملات القوية كالين والفرنك السويسرى واليورو لامتصاص كمية المعروض الزائد من الدولار، كما يوجد عندها صندوق تثبيت النقد الأمريكى وغيره من التسهيلات، غير أنها لم تعمد إلى ذلك، وأبقت الدولار ينزلق بقرار سياسى منها دون أن تستجيب لطلب كل من اليابانوألمانيا و الدول الاوربية و دول النفط لإيقاف هذا الانزلاق، كما أنها عمدت إلى الضغط على اليابانوألمانياوسويسرا لكى تزيد كل منها من معدل نموها، مما يتبعه مباشرة زيادة فى حجم الاستيراد لتلك الدول من المواد اللازمة لزيادة النمو، والذى يخفض فائض ميزانها التجارى ويجعلها تعتمد على الأسواق الأمريكية. - وهكذا يظل الصراع الدائر بين الدولار والذهب والعملات القوية الأخرى على مستوى العالم، فما هو دورنا؟ وأين نحن منه؟ - إنها سلسلة من السياسات التخطيطية بعيدة المدى "العولمة – القطب الأوحد – حائط صد الصواريخ......"، وما زلنا نرتدى العقال والطربوش والعمامة،هذا تحذير للاقتصاديات المدولرة و لمن يلبسون قبعة العم سام. (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً، مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً) (نوح:10-13) (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف:96) وللحديث بقية إن شاء الله. محمد فاروق يسّ عضو المجلس المصرى للشئون الاقتصادية [email protected]