في الألفية الجديدة التي بدأت منذ سنوات رأينا فكرا جديدا يحكم التوجهات النقدية سواء في الاحتفاظ بالنقد الاجنبي او في سداد المدفوعات بين الدول المختلفة، أو حتي في مواجهة التقلبات الشديدة في اسعار العملات الاجنبية وفي مقدمتها الدولار الامريكيا الذي انخفضت قيمته في خلال السنوات الثلاث الاخيرة فقط بما يقرب من الثلث بالنسبة لليورو الاوربي، كما انخفض بشدة بالنسبة للذهب، وبالارقام انخفض الدولار الامريكي في الثلاثين سنة الاخيرة من خمسة وثلاثين دولار امريكي للأوقية من الذهب الخالص في السبعينات إلي 720 دولار امريكيا للاوقية من الذهب الخالص في الوقت الحاضر، وبذلك بلغ انخفاضه بالنسبة للذهب ما يقرب من 20 ضعفا. وبمقارنة حالية لسعر صرف الدولار الامريكي مع العملات الرئيسية الاخري كاليورو الاوربي والجنيه الاسترليني نلاحظ انخفاضا كبيرا، هذا الانخفاض الشديد احدث هبوطا واقعيا بالنسبة للاحتياطيات النقدية الدولية بوجه عام، وتلك التي تملكها الدول العربية بوجه خاص والتي بلغت في نهاية العام الماضي ما يقرب من 200 مليار دولار امريكي، وعلي اساس ان الدول العربية تحتفظ بما يزيد علي نصف احتياطياتها بالدولار الامريكي (علما بأنه يزيد عن ذلك) فإن هذه الدول تكون قد خسرت خلال ما يقرب من ثلاث سنوات حوالي 67 مليار دولار امريكي. ولا شك انها خسارة لم تكن تحقق لو ان هذه الدول احتفظت باحتياطياتها النقدية باليورو الاوربي او بالين الياباني أو بأي عملة قوية اخري، اما اذا كانت تحتفظ بها ذهبا فان هذا الفرق كان يمكن ان يصل الي اضعاف هذا المبلغ، مع ملاحظة ان الاحتفاظ بالاحتياطيات النقدية بالذهب لا يدر عوائد نقدية حيث تقتصر الفائدة علي ضمان القيمة وزيادتها التدريجية خاصة وأن الاحتفاظ بالذهب يؤدي الي زيادة المعادل بالعملات الاجنبية حيث لم يحدث ان انخفضت قيمته الفعلية في وقت سابق. من هنا يتبين السبب في استمرار العمل بقاعدة الذهب ما يقرب من ستة قرون قبل العمل بالنظام النقدي العالمي الجديد والذي بدأ تطبيقه منذ عام 1944 عندما وقع العالم اتفاقية صندوق النقد الدولي التي ألغت نظام قاعدة الذهب وهي التي طبقت كنظام نقدي عالمي دون مشاكل حتي قيام الحرب العالمية الاولي في القرن الماضي، خاصة وأن ثبات اسعار صرف العملات المختلفة بالنسبة للذهب وبالتالي بالنسبة لبعضها البعض، مع امكان تحويل العملة الي الذهب في أي وقت وكذا حرية تصدير الذهب واستيراده دون أي قيود كان من اساسيات قاعدة الذهب، وهو ما أدي الي منع تقلبات شديدة في اسعار صرف العملات المحلية بالنسبة للعملات الاجنبية، وتوازن ميزان المدفوعات تلقائيا دون اجراءات نقدية مخططة. ولذلك خرجت معظم دول العالم عن نظام قاعدة الذهب عندما اجتمع خبراء الاقتصاد ورجال النقد في (بريتون وودز) بالولاياتالمتحدةالامريكية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ووصلوا الي نظام نقد عالمي جديد طبق عالميا منذ عام 1945 يقوم علي الدولار الامريكي المدعم بوزن ثابت من الذهب (35 دولارا امريكيا لكل اوقية من الذهب الخالص) وذلك نظرا لقوة الدولار في ذلك الوقت، وقد أعدت اتفاقية صندوق النقد الدولي علي هذا الاساس حيث فرضت علي كل دولة ان تحدد سعر تعادل لعملاتها علي اساس الذهب كمقياس عام او علي اساس الدولار الامريكي بوزنه وعياره المذكور في اول يوليو عام ،1944 وعندما انضمت أغلب دول العالم الي اتفاقية الصندوق انتهي دور الذهب كعملة وحيدة في تقييم العملات المحلية حيث اصبح يشترك معه الدولار الامريكي في اسعار التعادل، وانتهي هذا الاشتراك ايضا في مايو عام 1971 عندما اهتز الدولار الامريكي وتوقفت بعض الدول الاوربية عن قبوله (فرنسا والمانيا وايطاليا). ولقد ادي اهتزاز الدولار الامريكي في منتصف عام 1971 الي قيام الولاياتالمتحدةالامريكية بتخفيض قيمته ينحو 9.7% ورفع قيمة الذهب بنسبة 57.8% حيث ارتفعت الاوقية من الذهب الخالص من 35 دولارا امريكيا الي 38 دولارا امريكيا اعتبارا من 19 ديسمبر ،1971 وبالتالي قامت معظم دول العالم بتعديل قيمة عملاتها المحلية في ضوء هذا التخفيض، كما قامت دول اخري بأنشاء قيمة مستحدثة لعملاتها تتغير حسب العرض والطلب، وظل هذا الوضع ساريا الي ان قام محافظو صندوق النقد الدولي عام 1978 بتعديل اتفاقية الصندوق وإحلال الدولار الامريكي محل الذهب في تقييم العملات. ومنذ ذلك الوقت وقد اصبحت الدول الاعضاء في صندوق النقد الدولي تتعامل بسعر صرف لعملاتها المحلية بالارتباط مع الدولار الامريكي أو الجنيه الاسترليني او الفرنك الفرنسي او سلة وحدة حقوق السحب الخاصة او سلة اخري من عملات مختلفة، اما ارتباط العملة بالذهب فقد انتهي تماما بعد التغيرات الكبيرة في اسعار العملات بالنسبة للذهب وارتفاعه بشكل كبير، ولم تعد هناك دول تحدد سعر تعادل لعملاتها بالنسبة للذهب حيث تقوم اغلب دول العالم بالتعامل مع عملات الدول الاخري علي اساس سعر الصرف المعلن والذي يتغير يوما بعد يوم كما لم يعد هناك سعر ثابت للعملات المحلية بالنسبة للعملات الاجنبية. غير أنه في السنوات الاخيرة عاد سعر صرف الدولار للاهتزاز بشدة وترتب علي ذلك خسارة كبيرة لكل من يحوز الدولار الامريكي خارج الولاياتالمتحدة واصبح هناك دعوة جادة في كل دول العالم تنادي بعدم الارتباط بالدولار الامريكي والبحث عن نظام آخر جديد لربط قيمة العملات المحلية بعملة اخري كاليورو الاوروبي او سلة مشتركة تضم اليورو الاوروبي والدولار الامريكي والين الياباني محل الربط بالدولار، غير إن أية عملة بديلة لربط العملات المحلية يمكن ان تصاب مستقبلا بالضعف او الاهتزاز كما حدث للدولار الامريكي، وبالتالي تعود دائرة الخسارة من جديد بالنسبة للاحتفاظ الرسمي بأي عملة رئيسية اخري في الاحتياطيات الدولية او لدي الافراد. ومن هنا فقد يكون من المناسب اعادة تخطيط الاحتياطيات النقدية الدولية لمصر بعد ان تضخمت وبلغت نحو 23 مليار دولار امريكي مؤخرا، وبحيث يمكن الاستفادة منها بشكل افضل ولا يحتفظ بأغلبها نقديا بالدولارات الامريكية او بأي عملة اخري تتعرض للاهتزاز في قيمتها، وهي قضية اطرحها علي السلطات النقدية خاصة وأن هناك توقعات دولية من خبراء النقد العالميين بانخفاض الدولار الامريكي وارتفاع اليورو الي 35.1 دولار امريكي في الشهور القادمة. ويهمني بهذه المناسبة أن اعرض هنا فكرة مطروحة علي الصعيد العالمي، تتضمن بحث استخدام الاحتياطيات الدولية في استثمارات انتاجية (مشروعات انتاجية وخدمية) تعمل علي تشغيل الملايين من العاطلين في الدول النامية والفقيرة وتؤدي الي تطوير اقتصادي شامل في هذه الدول، وعلي ان يقتصر الاحتفاظ بنسبة من هذه الاحتياطيات لمواجهة مدقوعات طارئة او عجز كبير في ميزان المدفوعات، وبذلك تنتقل هذه الاحتياطيات النقدية من مجرد ودائع وأصول ثابتة تنخفض كلما انخفضت اسعار العملات التي تتكون منها، الي اصول انتاجية تدر دخلا وتفيد بشرا.