قبل نهاية الحرب العالمية الثانية, فكرت دول الحلفاء اأمريكا وإنجلتراب في ضرورة وضع نظام نقدي جديد للعالم يحول دون المنافسة الهدامة ومايرتبط بها من حروب للعملات حينا, أو فرض حماية جمركية أحيانا أخري. وكانت الفكرة هي وضع أسس لنظام نقدي عالمي يقوم علي حرية التجارة واستقرار أسعار الصرف بين العملات, وقد تبلورت الأفكار حول هذه المحاور بين الاقتصاديين الإنجليز وعلي رأسهم كينز, والأمريكيين وعلي رأسهم هاري وايت وانتهي الأمر بوضع اتفاقية بريتون وودز1944, التي أنشأت صندوق النقد والبنك الدوليين, حيث اعتمدت الاتفاقية بشكل عام الأفكار التي عرضها الأمريكي وايت دون تلك المقدمة من الإنجليزي كينز ورغم أن الأفكار التي طرحها كينز في ذلك الوقت قد تم استبعادها, فيبدو أن الزمن قد دارت دورته حيث تواجه الولاياتالمتحدة الآن مشاكل اقتصادية شبيهة بما واجهته إنجلترا بعد الحرب. فماذا اقترح كينز في ذلك الوقت؟ كان تصور كينز يقوم علي إنشاء كيان نقدي عالمي يشرف علي إدارة الأمور المالية العالمية وبما يحقق الاستقرار في العلاقات المالية الدولية مع ضمان حرية التجارة واستقرار أسعار الصرف. وأهم ملامح هذا النظام هي إنشاء نوع من البنك المركزي العالمي ااتحاد المقاصة الدوليب والذي يصدر عملة دولية االبانكورب تعتبر وحدة التعامل الدولي وفي نفس الوقت اقترح كينز أن تتضمن قواعد النظام النقدي العالمي مجموعة من القيود التي تحول دون وقوع الاختلالات الشديدة في ميزان المدفوعات والمعاملات الخارجية وبالمقابل تفرض علي دول الفائض نوعا من العقوبات الاقتصادية لحثها علي زيادة وارداتها من الخارج ويستند هذا الاقتراح الأخير لحقيقة أن الاختلال في موازين المدفوعات هو مسئولية مشتركة بين دول الفائض ودول العجز معا, ومن ثم يتطلب العلاج فرض قيود علي الطرفين لضمان تحقيق التوازن في العلاقات الدولية. وكانت العقوبات المقترحة علي دولة الفائض تصل إلي حدإلغاء هذه الفوائض إذا لم تستخدمها خلال عدة سنوات, وهكذا ففكرة معاقبة دول الفائض بشكل من الأشكال كانت موجودة منذ الأربعينات من القرن الماضي. وقد بدت هذه الأفكار اثوريةب أكثر من اللازم في نظر الأمريكيين في ذلك الوقت, لأنها تفرض سلطة نقدية عالمية فوق الدول, وبذلك تقيد من السيادة الوطنية للدول في مجال السياسات النقدية, كما رؤي أن اقتراح إصدار نقود دولية االبانكورب من جانب المؤسسة المالية المقترحة, لتمويل دول العجز من شأنه أن يؤدي عملا إلي إعادة إعمار دول أوروبا المحطمة بعد الحرب بتمويل من المؤسسة المقترحة, وبما يخلق مناخا عاما للتضخم العالمي, وأما عن اقتراح إلغاء الفوائض إذا لم تستخدمها دولة الفائض خلال فترة معينة, فإنه يعني المساس بحقوق الدول, فضلا عن أنه لايكاد ينطبق في ذلك الوقت إلا علي دولة واحدة هي الولاياتالمتحدة, ولذلك رفضت الولاياتالمتحدة أفكار كينز, واعتمدت نظام صندوق النقد الدولي كما اقترحه وايت, وبعد ذلك, قامت الولاياتالمتحدة بطرح مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا. وبعد مضي مايقرب من سبعين عاما علي اتفاق بريتون وودز انقلب الوضع, وأصبحت الولاياتالمتحدة هي أكبر مقترض في العالم, حيث تعاني من عجز مستمر ازاء تزايد الفوائض التي تحققها الدول الأخري, وفي مقدمتها الصين واليابانوألمانيا, فضلا عن دول النفط اأغلبها في الخليج العربيب ومع هذا التغيير في الأوضاع الاقتصادية, طرحت الولاياتالمتحدة أخيرا اقتراحا بأن تلتزم دول الفائض بتقييد فوائضها في ميزان المدفوعات بحيث لاتتجاوز4% من قيمة الناتج المحلي لكل منها, ويستثني من ذلك الدول المصدرة للموارد الطبيعية االمقصود بذلك دول النفطب وهو انقلاب كامل في الموقف الأمريكي, بالمقارنة بموقفها بعد الحرب العالمية الثانية. لقد تغيرت الظروف فتغيرت المواقف. وبطبيعة الأحوال لم يلق هذا الاقتراح قبولا في الاجتماع الأخير لمجموعة العشرين في سيول. وقد عرفت الولاياتالمتحدة تاريخا متعدد الفصول فيما يتعلق بالفائض والعجز في ميزان مدفوعاتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتي الآن. فعند نهاية تلك الحرب تمتعت أمريكا بفائض هائل في ميزانها الخارجي, فهي الدولة الصناعية الوحيدة التي خرجت من الحرب وجهازها الانتاجي بالغ التطور ولم يتضرر من الحرب, بل زادت قدرته نتيجة لاحتياجات المجهود الحربي كذلك أدت الحرب إلي زيادة مديونية العديد من الدول المشاركة في الحرب مثل انجلترا والاتحاد السوفيتي إزاء الولاياتالمتحدة. ومع اعتماد نظام بريتون وودز أصبح الدولار, من الناحية الفعلية, هو عملة الاحتياط وتسوية المعاملات الدولية, مما زاد الطلب علي الدولار, ليس فقط للشراء من السوق الأمريكية, وإنما للتعامل الدولي بصفة عامة, وهكذا وجدت الولاياتالمتحدة نفسها في وفرة هائلة في ميزان مدفوعاتها نتيجة لزيادة الطلب العالمي علي الدولار للحصول علي الواردات من أمريكا, أو للاحتفاظ به كاحتياطي للسيولة الدولية. وفي منتصف الستينات حلت الولاياتالمتحدة محل فرنسا في حروبها الاستعمارية في جنوب شرق آسيا, ثم استدرجت إلي هذه الحروب, وكانت قد انغمست من قبل في بداية الخمسينات في حرب كوريا لفرض حصار علي الصين التي انضمت بعد الحرب العالمية إلي المعسكر الاشتراكي وفي نهاية الستينات بلغت الحرب في جنوب شرق آسيا ذروتها مع تورط أمريكا في الحرب الفيتنامية وازداد الإنفاق العسكري الأمريكي وبالتالي التضخم, وبدأت الولاياتالمتحدة تعرف لأول مرة عجزا في ميزانها التجاري. وفي أغسطس1971 أعلن الرئيس نيكسون وقف تحويل الدولار إلي ذهب, وانتقل إلي قاعدة االدولار الورقيب غير القابل للتحويل لذهب. ومع استمرار استخدام العالم للدولار كعملة الاحتياط الدولي, وبداية ظهور العجز في الميزان التجاري الأمريكي, بدأت تتراكم الفوائض المالية بالدولار في أيدي الدول الأخري خاصة ألمانياواليابان لكي تعود للتوظيف من جديد في الأسواق المالية الأمريكية. وبعد قليل, قامت ثورة النفط الأولي1973 مع ارتفاع أسعار النفط مما ترتب عليه انضمام الدول النفطية إلي قائمة دول الفائض, ثم ارتفعت أسعار النفط مرة أخري في1978 إثر الثورة الإسلامية في إيران, حيث عرفت الفوائض النفطية طفرة جديدة حتي تراجعت أسعار النفط اعتبارا من1986, لكي تعود للارتفاع مرة ثالثة في بداية الألفية الثالثة. وهكذا, أصبحت ظاهرة هذه الفوائض المالية أحد أهم مظاهر الاقتصاد العالمي المعاصر. وتوظف معظم هذه الفوائض في الأسواق المالية الأمريكية باعتبارها أكبر الأسواق المالية وأكثرها تنوعا وعمقا كذلك ترتب علي التغيير في هيكل الاقتصاد العالمي أن عرف الاقتصاد الأمريكي ظاهرة جديدة وخطيرة وهي انخفاض معدلات الادخار المحلية بحيث تضاءل الادخار في القطاع العائلي الأمريكي إلي مايقرب من الصفر. وهكذا اضطرت الولاياتالمتحدة إلي الاعتماد بشكل متزايد علي الاستثمارات المالية لدول الفائض والتي تستثمر في السوق المالية الأمريكية لتغطية عجز المدخرات المحلية لتمويل احتياجات الاستثمار المحلي. وإذا كانت الولاياتالمتحدة قد عرفت عجوزات في موازين مدفوعاتها منذ الربع الأخير للقرن العشرين, فإن هذه ليست المرة الأولي في التاريخ الاقتصادي الأمريكي للاعتماد علي رؤوس الأموال الأجنبية. فطوال القرن التاسع عشر أو أغلبه كانت الولاياتالمتحدة إحدي أكبر الأسواق المستقبلة لرؤوس الأموال الأوروبية, ولكن هناك فارقا كبيرا بين دور رؤوس الأموال الأجنبية في السوق الأمريكية في الحالتين, ففي التاسع عشر كانت رؤوس الأموال الأجنبية تمول مزيدا من الاستثمارات الأمريكية إضافة إلي المدخرات المحلية, في حين أنها أصبحت في المرحلة الأخيرة تعويضا عن نقص المدخرات المحلية الأمريكية. وهكذا فإن الاختلالات المالية, وظهور فوائض مالية لدي بعض الدول االصين, اليابان, ألمانيا, الدول المصدرة للبترولب مقابل عجوزات في دول أخري االولاياتالمتحدة أساساب مسألة معقدة ولاتتطلب فقط اتخاذ تدابير لتقليل الصادرات من دول الفائض أو تعديل أسعار الصرف, بل تحتاج إلي تخفيض العجز الأمريكي نفسه, والارتفاع بوجه خاص بمعدلات الادخار المحلية في الولاياتالمتحدة, وربما إعادة النظر في دور الدولار في المعاملات الدولية. كذلك فإن لفوائض الدول المصدرة للنفط طبيعة خاصة, فهي تنطوي علي استهلاك موارد طبيعية غير متجددة, وهي تتم استجابة لحاجة العالم إلي البترول والغاز. لهذا السبب جاء اقتراح وزير الخزانة الأمريكية باستثناء صادرات الدول للموارد الطبيعية من القيود المطلوبة علي الفوائض المالية. ويظل التساؤل قائما, هل يمكن حقا تقييد الفوائض المالية, وإذا كان هذا ممكنا فهل هناك مصلحة اقتصادية تبرر ذلك؟ المسألة لاتبدو سهلة أو واضحة ولعل محاذير تقييد أو منع الفوائض المالية قد تكون أكبر من إبقائها. فإلغاء أو تقليص الفوائض المالية يعني ببساطة خفض حجم الاستثمارات المالية الدولية, وبالتالي حركات رؤوس الأموال بين الدول مما سيكون له بالقطع تأثيرات عميقة علي الأسواق المالية ومن ثم علي طبيعة الترابط الاقتصادي العالمي وهو أمر يستحقق مناقشة مستقلة. والله أعلم. المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي