لعل من أغرب الغرائب أن بات عالمنا المعاصر وفى ظل وضعيته الحضارية المتألقة هو عالم يموج بالأكاذيب ويعايش المغالطات ويخوض معادلات التشويه والتضليل والخداع وتغييب الحقائق والإطاحة بها وطرح فكرة الحقائق البديلة تلك التى ابتكرتها الإدارة الأمريكية فرارا من إشاعة الحقائق الموجودة التى تتناقض مع سمعة الأنظمة السياسية ولعلها ازدواجية قاتلة أن تكون الحقيقة ضحية للسياسة. نعم كانت، لكنها الآن قد بلغت مدى يصعب احتواءه والسيطرة عليه فضلا عن تغيير مساره وهو ما يجسد مأزقا ثقافيا حادا تتمحور أبعاده بين التواجه مع الحقائق السياسية والاقتصادية والاستراتيجية والاجتماعية مهما اشتدت وطأتها أو إهدار المصالح الكونية بسبب محاولات الحفاظ على وجود أنظمة سادية تآكلت مصداقيتها وباتت مسخا يتشدق بالسراب وتأخذه الحماقة فى أبدية السيادة. ولعل استراتيجية إخفاء الحقيقة وتدميرها إنما تستهدف شيوع الأخبار والمعلومات الكاذبة ذلك حتى تصبح المجتمعات مهيأة للاختراق الخارجى بجانب تأجيج الصراعات وإشعال الفتن بين المجموعات القومية والعرقية والطائفية والتشكيك فى الهويات وهو بالضرورة ما يدفع نحو سحق اقتصاد الدول، ولعل ما يعكس كل ذلك هو ما ساد من احتقان كونى حفل بالعديد من الاشتباكات السياسية والصدامات الاستراتيجية والجدليات القانونية والتناقض الثقافى والاتهامات الأخلاقية... دراما كبرى أحدثتها الصرخات المدوية لجوليان آسانج فى وجه العالم بل فى وجه عصر ما بعد الحقيقة ذلك الذى تجلت ملامحه فى سيادة الأكاذيب والمغالطات وانتشار الشائعات واختلاق الأحداث وعمدية التشويه، هذه الصرخة كان أبسط أثمانها التشريد والتهديد والاغتراب والمحاكمة والسجن، هكذا ظل آسانج سنوات طوال تتقاذفه الأهواء وتحطه المصالح المتعارضة للدول فى بؤرة الخطر، فأنظمة تحميه وأنظمة تلفظه وتطارده، لكن الشعوب ربما تحتفى به كثيرا فهو الذى أنقذ الوعى المعاصر بآلية المكاشفة التى لا تعرفها الحكومات والأنظمة متذرعة بالحفاظ على الأمن القومى بينما هى تمارس قمعا معنويا حادا تنتفى معه معانى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. ولعل موقع ويكيليكس الوثائقى قد كانت له الصدارة فى نشر تفاصيل التكنيكات الأمريكية وكبريات عمليات التجسس على العديد من رموز الدول وفضح ما احتوته سجلات حرب العراق وغيرها من الجرائم والمخالفات والانتهاكات الصارخة لمعانى الحداثة والحضارة. وهو ما كان له انعكاسه على انعقاد الخصومة بين أمريكا وبريطانيا والسويد وألمانيا والأكوادور. ولقد انقسمت الساحة الدولية إزاء ذلك إلى جبهتين الأولى تدين آسانج باعتباره قد نسف الخصوصيات القومية وأساء توظيف قدراته الخارقة فى فك الشفرات المستعصية إفشاء لمعلومات غاية فى السرية بينما تبنت الأخرى منطق الإشادة والتبجيل باعتباره قد قدم للديمقراطية الغربية درسا تاريخيا وصنيعا مثاليا فى تقويم مساراتها وتطهيرها من مثالبها بما ينأى بها عن الحديث أن تكون نموذجا مثاليا يحتذى. ولعل هذه القضية تكون لها امتدادات وأعماق وأصول تلتقى مع ذات القضية الثقافية التى شتت ومزقت أواصر العقل الإنسانى المعاصر وهى قضية ما بعد الحقيقة التى تستلزم بالضرورة وقفة فكرية فى إطار ما فجرته زوابع قضية «آسانج» من مأساويات فى سراديب المشهد الدولى. إن طمس الحقائق وتحويرها وإعادة إنتاجها بشكل مناقض لمضمونها وجوهرها والإيهام بحدوث نقلة نوعية شعارها (ما بعد الحقيقة) لا يعدو أن يكون سوى وباء ثقافى استشرت أعراضه بسرعة صاروخية فى جسد البشرية المعاصرة تحقيقا لمصالح وقتية عابرة كان يمكن التغاضى عنها بدلا من شيوع غمامات التلوث الفكرى الذى أحدث بدوره انقلابا صارخا منظومة المفاهيم... انقلابًا كانت له بصمة قاتمة على صفحة الوعى، لأن الحقيقة حين تحارب بضراوة فذلك إنما يعكس خللا خطيرا يستوجب الوقفة والإستفاقة لأن إنقاذ الوعى قد صار بالضرورة أشرف قضايا الجهاد الإنسانى. *كاتب وأكاديمى