فجأة انقلب الربيع العربي خريفا ثقيلا, وصارت الثورات العربية نقيصة سياسية, بعد أن لم تستطع استكمال مداها التاريخي, فهي لم تكلل شرارتها بذلك الوهج الذاتي الصانع لمستقبل واعد. نعم صارت الثورات العربية بكائية جديدة, وصارت الشعوب تندب شجوا علي الأنظمة القمعية البائدة!! وهو ما يسجل مطعنا خطرا في أهلية الذات العربية العاجزة عن التماهي مع أي منظومة منطقية, والمتأمل في الساحة العربية ليس بحاجة إلي أي جهد ليقرر وعلي الصعيد السياسي والاستراتيجي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي كيف صارت مصر,, وتونس, وليبيا, وسوريا, والعراق, والسودان, إلي حالة خاصة من التردي, والتراجع, وطمس الملامح القومية, لم يكن من المتصور بلوغها حتي صار السؤال المطروح والمستلزم للإجابة الفورية هو: هل كانت هذه الثورات نكبة كبري علي الأمن القومي العربي؟ وهل كانت هذه الثورات هي الذريعة الخفية لشيوع تجليات التفكيك والتقسيم كما رسمها المشروع السياسي الغربي؟ وهل صار المشروع الغربي حقيقة ماثلة بعد أن ظل في العقل العربي مجرد أطياف وهم؟ ولماذا لم يصر حقيقة ثابتة وقد فشلنا في إعداد استراتيجيات المقاومة, وميكانيزمات الدفاع؟ وهل كانت الشعب العربية هي الوقود الفاعل في تحقيق الحلم الغربي؟! إنها بانوراما من التساؤلات المتشابكة التي تستدعي بدورها تفعيل تساؤلات أخري أكثر حدة وصرامة لكنها تمثل كشفا عن أعماق الأزمة وأغوارها وطبيعتها وتحولاتها إلي منعطفات ذات خطر تجرنا بالضرورة لطرح الممكنات والبدائل والحلول بترجمة شفرات الأزمة إلي واقعهاالفعلي لاختبار إرادة الشعوب في التواجه مع المستحيلات واجتيازها, لاسيما وقد بلغ بها الوهن القومي مراحل عليا من الإحباط السياسي بشتي تنويعاته. ولعل من الغرائب الفكرية في العالم العربي وما أكثرها تلك الموجة الاستنكارية العاصفة ببعض الحقائق الثابتة عن الذات العربية التي ضمنها الشاعر الكبير نزار قباني منذ ما يزيد علي عقدين في قصيدته العصماء متي يعلنون وفاة العرب؟! تلك التي أثارت قلاقل وأصداء وزوابع في إطار متوالية نقدية من قبل الأنظمة والنخب المثقفة ونحن أبرع ما نكون حينما يكون النقد موجها للآخر ومن ثم فليست هذه السطور تمثل تعاطفا حميما مع نزار, أو تصويبا للخطأ الفادح, وإنما هي مشاركة هامشية في الرأي والفكرة من داخل ثورة تصحيح المفاهيم التي يعيشها العالم المتحضر, إذ كانت فضيلة هذه القصيدة أنها استفزت الأذهان والقرائح نحو ضرورة تغيير الواقع العربي بالوقفة الحاسمة والتواجه مع الذات لنكون أكثر وضوحا وجرأة, بجانب أنها جددت طرح مسألة الأزمة الحضارية, وأزمة الهوية, ومعالم الوطن, بل إنها كشفت عن ذلك السؤال الغائب عن الوعي العربي, وهو: أين نحن من تلك المنظومة الكونية بكل وضوحها وغموضها وأسرارها؟! إذ أن الغرب الذي صنع الحضارة المعاصرة يجدد علي نفسه تساؤل هو غاية في الأهمية والقيمة مؤداه: هل انتهي عصر التفوق الغربي ليبدأ عصر النهضة في الشرق, وبالطبع ليس الشرق الأوسط, إنما هو الشرق الأقصي؟ وقد تباينت الردود واختلفت, لكن كان أرقاها وأكثرها موضوعية واستجابة لمعطيات الواقع هو ذلك الرد الأوروبي الذي تمثل في ضرورة محاولة دراسة وتقييم التحدي السافر, والبحث عن أساليب وطرائق التعامل والتعايش, ولعل دلالة ذلك إنما تكمن حقيقة في خشية أوروبا من تلك الصدمة الثقافية حين تجد نفسها قد سلبت دورها المحوري في قيادة مسيرة التطور عالميا!! لكن ما قيمة هذا السؤال أو ذاك أو هذه المعاني أو تلك علي الساحة العربية مهما تبدلت الأيام والأزمنة؟ الحقيقة أنه لا شيء أو لا أقل أو أكثر من لا شيء!! بالفعل ما قيمة أن نقود العالم, أو نغوص في القاع؟! ما قيمة أن نشارك أو لا نشارك؟ ما جدوي الفاعلية وتأكيدات الذات؟ ماذا تعني الرهانات الدولية؟ أي معني للاتساق مع التاريخ؟ أي جدوي لنداءات العقيدة الإسلامية بالبعد عن التخاذل, ورفض المظالم؟ ما معني الكرامة العربية؟ ما الفارق الجوهري بين الانطلاق والتقوقع؟! ومادامت كل تلك التساؤلات غير ذات قيمة فلماذا نأبي ترديد ذلك السؤال المفزع من نزار: متي يعلنون وفاة العرب؟! إن الوقوف علي المدلولات المادية والمنطقية للقضايا إنما يجب أن يتصدر أولويات الفكر لدي الشعوب العربية, وأن تقرير الواقع بتوصيفاته مهما تكن بشاعة هذه التوصيفات هو أخف وطأة عن استخدام منهج المغالطة والتدليس والمواربة وخداع الذات, بما يؤكد وجود انطباع مغاير بل مناف للحقيقة التي لا فرار من احتوائها والاندماج والتكيف معها. إن غياب العروبة واستشراء التغريب, وسيادة الخصومة والفرقة والتحلل, وصدارة دواعي الانشقاق, وتغلغل الفساد الأخلاقي والقيمي, والتجرد من كل أدوات ووسائل القوة, ومشتركات الثقافة, وأشواق الوحدة, وطغيان التخلف.. كلها لا تمثل إلا فاعليات النهاية!! رابط دائم :