عبد الرحيم يوسف تظل مدهشةً فكرة لقائك بكاتب قرأت له صغيرًا، فى تلك المرحلة السديمية والسحرية من تلمُّس عالم الأدب واشتغال الخيال البكر على بناء عالم صاغه شخص آخر من كلمات، يتحول هذا الشخص فى مخيلة القارئ الصغير إلى ساحر بارع أو خالق قدير يمتلك موهبة نادرة ومعرفة محيطة أو هكذا أظن. وكان من حظى أن التقيت عندما كبرت بعدد من هؤلاء الذين قرأت لهم صغيرًا، فى تلك الأيام البعيدة من أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، حين كنت أذهب إلى معرض الكتاب الذى تقيمه الهيئة العامة فى الإسكندرية بعد عدة شهور من معرض القاهرة الدولى للكتاب، وأتوجه إلى قسم الكتب المخفضة لأشترى عدد 25 كتابًا بخمسة جنيهات، ويصر الموظف أن يكون العدد 25 رغم محاولاتى لإقناعه بأننى سأدفع الجنيهات الخمسة مقابل عشرة كتب اخترتها بين ركام الكتب القديمة المتربة بعد عناء، فأضطر إلى العودة واختيار عناوين لكتب لا يهتم بها الفتى الصغير المولع بالأدب الذى كنته، كتب فى البستنة وتاريخ السينما التسجيلية وموضوعات أخرى سأجد فى بعضها كنوزًا فيما بعد. لكن الكتب والمجلات التى كنت أسعى وراءها هى كتب الأدب: الشعر والرواية والقصة القصيرة. وكان لقائى الأول بالأستاذ مصطفى نصر بين هذه الكتب، وتحديدًا مع طبعة الهيئة العامة للكتاب من روايته: «جبل ناعسة» عالم واقعى خشن وشخصيات منقوعة فى محيط يصطخب بالعنف والرغبات والدم والانتهازية. لغة تتوسل الوضوح لا البلاغة، تقدم الحكاية بطريقة مباشرة دون زخرفة أسلوبية، الحكاية هى الغاية واللغة هى الوسيلة. انطبع اسم أستاذ مصطفى نصر فى ذاكرتي، وصرت كلما وجدت عملًا له لدى باعة الجرائد، أيام كان هناك باعة جرائد، أشتريه. هكذا حصلت مثلًا على مجموعته القصصية «حفل زفاف فى وهج الشمس» الصادرة عن مختارات فصول فى 1997، وروايته «إسكندرية 67» الصادرة عن سلسلة أدب الحرب بالهيئة العامة للكتاب فى 1998، وروايته «ليالى غربال» الصادرة عن دار الهلال فى 2001، ومجموعته القصصية «الطيور» الصادرة عن سلسلة أصوات أدبية بالهيئة العامة لقصور الثقافة فى 2004، وكتابه الفاتن «سينما ألدورادو» الموسوم بكونه رواية فيما أراه مجموعة قصصية بديعة صدرت عن سلسلة الكتاب الفضى فى 2006. ومع دخولى الوسط الأدبى السكندرى فى نهاية 1999، وترددى على أتيليه الإسكندرية ثم مركز الحرية للإبداع وقصر ثقافة الأنفوشي، سنحت لى فرصة مقابلة كاتبنا الكبير فى مناسبات مختلفة. وفى المرات التى سمحت لى فيها الظروف وتغلبت على خجلى القديم، كنت أتقدم إليه مصافحًا ومهنئًا على مشاركته أو على صدور كتاب جديد، فأجد فى مصافحته طيبة وتواضعًا ملفتين، وفى صوته الرخيم خجلًا وارتباكًا لطيفين يؤنسان خجلى وارتباكي. لكن لقائى الحقيقى الأول بأستاذ مصطفى سيكون فى يوم الأربعاء 19 أكتوبر 2011، ضمن احتفالية أيام التراث السكندرى التى ينظمها مركز الدراسات السكندرية كل عام مع عدد كبير من الهيئات والمؤسسات فى الإسكندرية. وعلى مدار ستة أيام كنت أدير كل ليلة فى مكتبة الكابينة بمحطة الرمل حوارًا مع واحد أو واحدة من شعراء وكُتاب سكندريين عن حضور الإسكندرية فى أعمالهم. وفى ليلة الأستاذ مصطفى كان لقائى الأول به حكاءً من طراز فريد، يتحدث بطيبة وطفولية واضحة، لكنه يملأ حكاياته بكل شقاوة الأطفال وحدة ملاحظة المراقب وذاكرة وسيعة تمتلئ بالأسماء والتفاصيل والتواريخ والقصص. جزء كبير من هذه الحكايات ضمَّنها أستاذ مصطفى فى بعض كتبه، مثل «الإسكندرية مدينة الفن.. العشق والدم» وسجلها فى منشوراته على صفحته على فيسبوك. سيحكى لى فى لقاء لاحق فى بيته، وسيكتب فى أحد منشوراته، كيف أنه فوجئ فى بداية لقائنا فى الكابينة بأن مسؤولة مركز الدراسات تسلمه مظروفًا ماليًا كبدل لانتقاله ومشاركته. وأنه وضعه فى جيبه دون أن يفتحه، وفى طريق عودته إلى البيت قرر أن يشترى بعض الحلويات للبيت كعادته فى مثل هذه المناسبات القليلة التى يأتيه فيه مال لقاء مشاركة أدبية. لكنه فوجئ عندما فتح المظروف أن ما به من مال مبلغ أكبر مما تخيل. ويحكى أنه فى لقاء لاحق على المقهى مع صديق كاتب سكندرى راحل حكى له عن هذه الواقعة، فما كان من صديقه إلا أن قال له إنه يدير ويشارك فى لقاءات منذ سنين طويلة ولم يحصل على عُشر هذا المبلغ، ورجاه ضاحكًا أن يرشحه لأى لقاء مثل هذا. هكذا كان الأستاذ مصطفى فى حكاياته وكتاباته يتحدث بعفوية وصراحة، ويحكى تفاصيل قد يتحرج غيره من ذكرها وهو ما سبب له أحيانًا بعض المشكلات. لا أنسى منذ ثلاثة أعوام أو أربعة أقيم حفل تأبين لكاتب سكندرى كبير فى مركز الحرية للإبداع، وكان الأستاذ مصطفى على المنصة. وما إن بدأ أستاذ مصطفى كلمته وشرع فى الحديث عن عمل الراحل الكبير فى مهنة متواضعة وزملائه الأدباء العاملين فى مهن أخرى صغيرة، حتى قاطعه شقيق الأديب الراحل، وهو أديب كبير آخر، رافضًا وصف أسرته بالفقر وتواضع الحال! ومصححًا بأن هذا كان اختيار الأديب الراحل. وبعد أن هدأ الموقف وعاد أستاذ مصطفى إلى الحديث، استرسل بعفويته كعادته وعاد لذكر الحال المتواضع والمهن البسيطة، ليستشيط زميله على المنصة غضبًا ويهدر مقاطعًا أستاذ مصطفى الذى لم يملك إلا الابتسام الطفولى فى ارتباك ودهشة وهو يقول: لكنى لا أقول إلا ما يعرفه الجميع! حكى لى فى لقاء آخر فى بيته كيف أن بعض الأشخاص الذين استخدم تفاصيلهم فى رواياته انزعجوا عندما بلغهم نبأ ذكر حكايتهم فى كتبه، دون حتى أن يقرأوها، بل غضب بعضهم وهدده بما لا تُحمد عقباه! كانت أول زيارة لى إلى بيته عام 2017. اتصلت بهاتفه الأرضى وعرضت عليه المشاركة بمقال فى مطبوعة كنت أشرف على تحريرها اسمها «ترى البحر» معنية بالمشهد الثقافى والعمرانى فى الإسكندرية. رحب بكرمه ولطفه المعهودين ودعانى إلى زيارته فى بيته للحديث لأنه صار قليل النزول من البيت. أعطانى العنوان فى شارع الأقحوان براغب باشا ذهبت إلى زيارته فى الموعد المحدد وفى صحبة صديقى الكاتب ماهر شريف ابن راغب والملم بشوارعها ودروبها التى أجهلها. بيت صغير وسلم ضيق سيتساءل الكاتب بلال فضل فى مقال له بعد ذلك عن الكيفية التى كان يصعد بها الأستاذ مصطفى وينزل ذلك السلم. صعدنا إلى الطابق الثانى حيث يقيم أستاذ مصطفى الذى فتح لنا الباب بنفسه مرحبًا وأدخلنا إلى غرفته: غرفة صغيرة بها مكتب صغير تحتل سطحه شاشة كومبيوتر قديمة وتمتلئ جدران الغرفة برفوف الكتب التى فاضت على المكتب وعلى الأرض وعلى الأثاث القليل الذى ضم مقعدين كبيرين جلسنا عليهما. عاد إلينا أستاذ مصطفى بالشاى وجلس وراء مكتبه مُرحبًا مرة أخرى وفاتحًا أبواب حكاياته التى لا تنفد. وفى نهاية الزيارة أعطانى مقالًا بعنوان «صور الإسكندرية فى حياتى ورواياتي» سيضمها العدد الرابع والأخير من «ترى البحر». وسأزوره مرة أخرى فى رفقة ماهر أيضًا لأقدم له العدد مطبوعًا ونستمع إلى مزيد من الحكايات ونشرب المزيد من الشاى ويتعالى منا المزيد من الضحكات. لا أذكر بالضبط متى أرسل إليّ الكاتب الصديق بلال فضل يسأل عن طريقة للاتصال بالأستاذ مصطفى نصر أو زيارته، أعطيته رقم الهاتف وبعدها بفترة كتب منشورًا على صفحة الفيسبوك الخاصة به يحكى عن زيارته لأستاذ مصطفى فى منزله ويتساءل كيف لكاتب بهذا القدر أن يسكن فى منزل صغير يصعب صعود ونزول سلمه، وكيف لا تبادر الهيئة العامة للكتاب بنشر أعماله الكاملة؟ واستجاب د. أحمد مجاهد لهذا المقال وأصدرت الهيئة العامة للكتاب أعمال كاتبنا الراحل فى أربعة مجلدات، لكنه أصدر بعدها العديد من الكتب فى دور نشر مختلفة. ربما فى عام 2017 أيضًا اتصل بى أستاذ مصطفى ليستشيرنى فى أمر يقلقه. أتته دعوة من القنصلية الفرنسية لحضور غداء يقيمه القنصل الجديد لعدد من المثقفين السكندريين، سألنى إن أتتنى هذه الدعوة فأجبته بنعم. كان حائرًا فيما يرتديه: هل يتطلب هذا الغداء زيًّا رسميًّا؟ قلت له إنى سأذهب بقميص وبنطلون وأن يرتدى ما شاء فوجوده وحده شرف كبير. والتقينا هناك وسط عدد محدود من المدعوين، وحين وصلت كان الأستاذ مصطفى يحكى للقنصل وزوجته ومن حضر قبلى حكاية سفاح كرموز وسط استمتاع القنصل وزوجته ذوى الأصل الجزائري، لكن بعد قليل وصل روائى وأكاديمى شهير يقيم فى الإسكندرية وقرر كعادته أن يستولى على الميكروفون فتدخل متعجرفًا ليصحح ما رآه خطأ فى سرد أستاذ مصطفى الذى آثر بدوره وبلطفه المعتاد أن يترك الميكروفون للرجل الذى انتفخت أوداجه المنتفخة أصلًا وصال وجال فى حكاياته ومحفوظاته، فيما اكتفيت أنا بتواطؤ لطيف مع أستاذ مصطفى حين قُدم لنا الطبق الرئيسى بعد بعض المقبلات وفوجئنا أنه عبارة عن طبقات من الباذنجان والطماطم على شكل برج أنيق. همس لى أستاذ مصطفي: يعنى أنا حظى يوم ما أُدعى لقنصلية فرنسا بحالها يبقى الغدا بدنجان؟ هذا الشعور بالمرارة وغياب التقدير سيسيطر على كثير من منشورات الأستاذ مصطفى فى السنين الأخيرة على صفحة الفيسبوك، ومع إعلان أسماء الفائزين بجوائز الدولة كل عام ستتجدد مرارته وشعوره بالغبن والأسي. زيارتى الأخيرة لمنزله كانت منذ عدة أعوام، فى بداية انتشار وباء كورونا، زرته مع الصديقة المترجمة نرمين نزار التى كانت تقوم ببحث حول الموسيقى والغناء فى الإسكندرية. وهو المجال الذى كتب فيه أستاذ مصطفى كثيرًا؛ إذ كان عاشقًا للموسيقى وتتبع حكايات الأغنيات والشعراء والملحنين والمطربين، أذكر أنه حكى لى أن مدرس الموسيقى فى مدرسة العطارين الابتدائية التى كان طالبًا بها اختاره ضمن فريق الموسيقى وهو لا يجيد العزف على أى آلة، وبعد عدد من التدريبات بلا جدوى ترك الفرقة، لكن زميله فيها، الملحن محمد على سليمان أكمل المشوار وصار موسيقيًا وملحنًا شهيرًا أذكر أيضًا أن مقال أستاذ مصطفى عن المطرب السكندرى عزت عوض الله من المصادر القليلة المكتوبة عن هذا المغنى والملحن الجميل. عندما زرناه كانت زوجته العزيزة قد رحلت منذ فترة، فتح لنا الباب نجله واستقبلنا بلطف ورثه عن والده الذى كان ينتظرنا فى غرفة المكتب التى صرت على ألفة شديدة بها معتذرًا لعدم قدرته على استقبالنا عند الباب. كانت ملامحه حزينة ومتعبة، لكن ما إن شرع فى الحكى عن فرق الإسكندرية ومطربيها حتى انجلى صوته ولمعت عيناه وتجلى لى الحكاء البارع فى ظهور أخير قبل أن ينغلق الباب بهدوء منذ بضعة أيام، وينسحب الحكاء المتعب كى يستريح أخيرًا.