سنوات طوال عبرت منذ رحيل د.زكى نجيب محمود ... سنوات فاصلة بين قرنين لكنها كانت متخمة بتحولات كبرى زاخرة بأهوال استحالت تشابكاتها على التشخيص وحصد البشر خلالها الكثير والكثير من طوفان اللامعقول!! رغم استطالت تلك السنوات العجاف وامتدادتها فى أطوار الزمن النفسي، فلا تزال سطوره وكلماته الآخاذة ورؤاه ومنظوراته وأفكاره تحقق اشعاعا عقليا ووجدانيا وروحيا، بل لا تزال تتحفنا بقذائفه الحميمة انقاذا للواقع المادى والفكرى والثقافى من الانحدار والسقوط، ذلك بدعواته المتوالية للثورة على أشباح الجمود وبؤر التخلف والركود الثقافى والعناد الحضارى الذى يقتضينا أن نتعامل مع المشكلات بنفس الطريقة التى أدت اليها دون الاعتبار بالأسس الثابتة أو الميكانيزم الفكرى المتغير، إذ أن المشكلات إنما تتشابه فى مسماها وهيكلها وتختلف فى طبيعتها ومضمونها من ثم فى طرائق معالجتها. وعلى ذلك فدائما ما كان يطلق صيحاته بل صرخاته المدوية أملا فى ايقاظ الوعى المتبلد وشحذ الهمم الثقافية وتحريك الفكر الراكد إزاء العديد من القضايا الكامنة والبارزة التى كان يخوض غمار معاركها بتحليل فلسفى متميز يأسرنا فيه دقة الفكر ونفاذ العقل وتوقد القريحة وانطلاقاتها لآفاق ومنتهيات تساير تيارات الفكر المعاصر.ولعل ضمن الأسس والمبادئ الثقافية التى ألح عليها د.زكى نجيب هى أن الأصل فى الفكر -وفى كل منعطفاته- أن يكون حوارا بين نعم ولا وما يتوسطهما من ظلال وأطياف، كذلك فان التعبير أيا كانت صيغته عن الرفض المطلق أو القبول المطلق لا يعد فكرا على أى نحو من الأنحاء، وتلك بعض من الضوابط والمحددات الفاصلة بين غث المنتج الذهنى وسمينه التى يمكن استدعاؤها اليوم لتعصمنا من مخاضات الفراغ الشاغل للرءوس، أما ترجمة طلسمات الأزمة الحضارية فى أقرب معطياتها فقد أوجزها فى تساؤلات قاتلة كان منها: هل أفكر؟ لا يفكر لي!! هل انتج؟ لا ينتج لي!! هل اعمل؟ لا يعمل لي!! منتهيا من ذلك إلى ذروة الازدواجية الثقافية المتمثلة فى أننا نرفض الحضارة المعاصرة ونقبل نتائجها!!والمعنى الواضح لذلك هو رفض المقدمات وقبول النتائج وهو ما يسجل ملامح موقف أيديولوجى زائف إذ يمثل فى جوهره تناقضا حادا لا يرتضيه أى عقل مستقيم، بينما المعنى الضمنى يحمل استدلالا يتجسد فى تلك العبثية الفكرية المستحوذة على العقل العربى إذ يبدأ حيث ينتهى وينتهى حيث يبدأ، وهو ما يطمس ملكات هذا العقل ويعطل وظائفه. ومن ذلك كان استخلاصه بان الآخر صاحب هذه الحضارة إنما يصب تلك الطاقة الذهنية على الأشياء ونحن نصب طاقتنا على الأقوال، وكذلك هو يبدأ بالمشكلة باحثا لها عن فكرة ونحن نبدأ بالفكرة بحثا لها عن مشكلة!! وقبل هذا التشريح الفكرى وبعده ظلت الثقافة حتى فى تحوراتها المعاصرة هى نمط أخلاقى وخصوصية مجتمع يؤمن بالحرية ويرفض الفوضى بل هى رسالة تصحيحية للمفاهيم والأفكار والمعانى باعتبارها طاقة تغييرية هائلة فى تفعيل مسار نهضة المجتمعات إذا أصبحت تسرى فى أصلاب الحياة الاجتماعية، وكذلك ظلت سيادة الايمان المطلق بالعلم من ثم سيادة التفكير العلمى كضرورة عصرية من اهم ركائز المشروع الفكرى التقدمى للدكتور زكى نجيب الذى خط محاوره خلال العديد من الخرائط المعرفية فى مواجهة الاشكاليات الفكرية ذلك فى موضوعية صارمة ومنهجية معتدلة ووعى نافذ لأغوار تلك الاشكاليات منذ مقاله الشهير توبة قلم وكتابه الرائد تجديد الفكر العربى الذى استلهم خلاله أطوار التاريخ الثقافى العربى فى محاولة تأسيسية دؤوبة نحو فاعلية العقل المعاصر ودعمه ليتواكب مع معطيات الظرف الكونى وليتسق ويقيم الجسور بين ماضيه وحاضره. إن الاخلاص والأمانة والمسئولية والمصداقية العليا والحميمية الصادقة لزكى نجيب محمود على مستقبل الثقافة والفكر إنما يحتم علينا طرح العديد من التساؤلات حول الواقع المعاش وتأزماته المتلاحقة لنتبين ذلك البون الشاسع بين ما كان وبين الحاضر المهتريء وذلك على غرار: كيف نعلن انهزام الأصالة التاريخية أمام المعاصرة الهزيلة الجوفاء؟ كيف بتنا عشاقا فى محراب الاغتراب الثقافي؟ كيف تحولت الخزعبلات إلى منظومات فكرية يدافع عنها ويتصدى لحمايتها طوائف من المتشيعين؟ . لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبو العلا