هوامش زمنية تتجاوز التصور وتعبر آفاق الخيال, فواصل وأسوار وتضاريس معرفية ذات عمق ومغزي بين الرتابة الفكرية وومضات الشطح الابداعي, بين الوعي المنفلت من قبضة الواقع والادراك المتدثر بقشور العالم الخارجي, بين عالم الذات والروح التواقة المتوثبة الي أطياف الحقيقة وجوهرها وبين عالم يتردي في سراديب الوهم ويتنازعه بريق السراب واللاشيء, بين الصخب النفسي والفورة المجتاحة للعقل وبين عالم يرتضي أن يكون اللامنطق هو منطقه الخاص وبؤرة ايمانه المطلق, بين الفتنة بالاكتناهات وبين مباشرة البديهيات, بين عتمة الخارج واشراقات الداخل تكمن الفروق والتباينات بين الممكن والمستحيل!! ويتجلي أؤلئك الذين اختاروا ان يكون المستحيل منهجا والصمت فلسفة والرعب احساسا والجنون منطقا ليسجلوا بصمة الأبدية والخلود بفك شفرات القضايا العليا والاشكاليات الجبارة والأفكار المحتدمة من عالمهم الخاص أو عالم المعقول الوحيد الذي تكون منه الاطلالة الروحية علي ذلك العالم العبثي عالم الأشياء والأشخاص. نعم انها المعالجة المزعجة التي تكبد أهوالها المفكر والخبير الاستراتيجي د.علاء طاهر ليدخل بها مسيرة النقد الأدبي مجالا آخر غير مطروق في طبيعته فكرا وأسلوبا وموضوعا... بل انها تعد بالفعل اثراء خاصا للثقافة العربية المعاصرة خلال عرضه التحليلي لتلك التجليات الفكرية والابداعية الغربية المبهرة والتي قدمها في كتابه المتميز الكتابة المستحيلة... نماذج من الرواية العالمية المعاصرة. ولعل الكتابة المستحيلة هذه تعد هي الملحمة النفسية والفكرية الثانية التي اتت في انسيابية خاصة أو هي الثمرة اليانعة لملحمته الأولي الخوف من الكتابة وهو ما حقق تواصلا واتساقا وارتباطا عضويا للفكرة العامة, وقدم للقاريء العربي تنويعات وأنماط علي درجة من الغرابة يندر أن يتطرق اليها أو يقف علي تلك العوالم الخاصة التي صنعتها عبقرية الاحساس وحدة التفكير في آن. ولعل الكاتب قد غاص واستبطن أغوار نماذجه وشخصياته وعايشها معايشة حميمية مكنته وبشكل جيد من توظيف ملكاته في النصوص الأسطورية التي لا تحتمل الا خوض المحترفين في افراز المضمونات الخفية الخصبة للكلمات والجمل والبناء الفني والحبكة الرمزية وما الي ذلك من مكنونات النصوص. لكن من هم رموز تلك الكتابة المستحيلة؟ وما هو المعني الكامن لمفهوم الكتابة المستحيلة المعبر بالضرورة وفي أولي معطياته عن حالة خاصة ترتبط ارتباطا وثيقا بالروائيين الغربيين أكثر كثيرا من ارتباطها السطحي بالكاتب العربي اذ ان طابع المعاناة جد مختلف؟ نعم انها بانوراما انتقائية من الروائيين العظام أمثال( غار سيا ماركيز),( جورج أرويل),( ستيفن كينج),( ميكاييل كونلي),( فرجينيا وولف),( آن غاريتا),( جونتر جراس),( كافكا),( جيمس جويس),( ديفيد هربرت لورنس),( كلود سيمون),( توماس بينشون),( كورتزار) وغيرهم من أصحاب القامات الأدبية الرفيعة, الذين أثروا أن تكون الكتابة لديهم هي الواقع البديل أو الوسيلة الهروبية عن البديل الأسوأ الذي هو الانتحار, وان يكون الصمت والكبت الذاتي هو المعالجة الموضوعية لسوءات العالم وكوارثه أو هي الأداة الجيدة لنسف تكوينات الواقع الخارجي, وهي كذلك فضيلة الاعراض عن عالم تسوده الرذائل بالاطلالة علي عالم المجهولات والتوحد معه أملا في رسم ملامح الحلم الانساني بتجديد الأسئلة الوجودية الخالدة. أقول ان هؤلاء الذين أثروا الترحال في المتاهات والفتنة بالمغامرة وترويض المجهول علي اتباع تلك البوصلة المقيتة التي يهتدي بها البشر في عالمهم ظانين انفسهم يعيشون حالة من السواء والاعتدال, لذا فالترجمة الصحيحة للمعادلة القاتلة التي صورها د.علاء طاهر تأتي في اطار شرطيات مؤداها انه اذا توقف الاسترسال في هذه الكتابة بحيث يصبح نفي العالم الخارجي محالا ومن ثم يصبح الكاتب جزءا منه دون أن يشيد عالمه الخاص, من ثم أيضا يكون الاحتدام بين ضرورات الغاء ذلك العالم أو اغتيال ذاتية الكاتب.. هؤلاء بالفعل هم الذين اتخذوا من كلمات سقراط ميثاقا حين أفصح ناصحا: عليكم أن تعتبروا الموت هو الشفاء من مرض مستعص اسمه الحياة, وتيقنوا كذلك من عبقرية رؤية كونفوشيوس القائلة بإن من عرف الحقيقة في الصباح في المساء يستطيع أن يموت. ولعل شيئا من هذا أو بعضه انما يمثل دعوة صريحة لتساؤلات لا نهائية علي غرار: هل هناك إستحالات في الكتابة؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يكتب المستحيل؟ وهل تختلف معاني المستحيل لدي الروائيين والكتاب والفلاسفة؟ وكيف تصبح الكتابة في لحظة ما هي البديل الأوفق للانتحار؟ بل وكيف تصبح الكتابة في طور من أطوارها قائدة بالضرورة نحو الانتحار حتما؟ وهل تمثل الكتابة المستحيلة تاريخا تراكميا لعشق الألم؟ وهل تعد أيضا الكتابة المستحيلة هي الكتابة الحقيقية دون سواها, لذا يصبح الايمان بالحقيقة هو الجنون بعينه كما أكد نيتشه؟!!!! وأي جرعة من الحقيقة يمكن احتمالها ولا تكون دافعة نحو النهاية جنونا أو انتحارا؟ وهل يمثل رموز هذه الكتابة وحدهم الضمير الفعلي للعالم باعتبارهم المنتحرين بنصوصهم من اجل تصوير الحقيقة؟ نعم انها عين الكتابة التي شكلها الهلع والوميض المقدس وبواعث وأشواق الشغف الانساني أو هي ذاتها كتابة الهلع والرعب والأسر الفكري وعذابات الروح وشتات النفس وجبروت العقل وأهازيج الألم, تلك التي خطوا بها سطور النهاية حين ارتادوا بوابة الجحيم!! رابط دائم :