لعل أخطر ما تتعرض له المجتمعات فى مسيرتها التاريخية وفى ظل الانطلاقة الحضارية المعاشة، هو تلك الأزمة الفكرية التى يتعثر خلالها ذلك العقل الجمعى حين لا يستشعر طبيعتها، فيصنفها كأزمة ذات طابع سياسى، اقتصادى، اجتماعى، ثقافى ... نعم هى كل ذلك لأن جميعها إنما ينبثق من أزمة فكرية حادة ذات انعكاسات وتأثيرات مباشرة وغير مباشرة. ولعل التصدى لتلك الأزمة إنما يفوق ويفوق مجابهة أيا انعكاسات مهما تكن، ذلك لأنها أزمة مركبة شائكة متشعبة يستدعى تفكيكها عقودا طوالا منذ أن تكون بداية الوعى بها. وقد تتباين قضية تجديد الفكر فى أهميتها بين المجتمعات طبقا لدرجة الحاجة إليها ومنطق الضرورة والحتمية المؤكد لاستحالات المضى مع نمط فكرى متراجع عن سياق المد الزمنى، والمتأمل يجد أنه دائما ما ترتبط حركة تجديد الفكر بالشغف نحو تغيير المسار التاريخى المعاصر للشعوب والأمم والمعتمد فى جوهره على طاقات الطموح القومى وتفعيل الارادة المشتركة فى سبيل التقدم والنهضة. لكن .. ماذا يعنى تجديد الفكر فى بنيته وطبيعته ومحتواه إلا إيجاد رؤية مغايرة لتلك الرؤى التقليدية الرتيبة وإحياء مستوى كامن من الوعى وبناء منطقى للأشياء والأحداث يساير اللحظة إن لم يتجاوزها. إن إرهاصات تجديد الفكر انما تتجلى فى تجديد السؤال المطروح على كل عصر والتخلى عن اليقين المطلق والتوجه نحو النسبى وعزل الفكر الأحادى وطمس كل النوازع المعوقة لحركة العقل ومحو التوهمات القابعة داخله وترسيخ حق الاختلاف كقيمة فكرية عليا يجب أن تمارس على كل الأصعدة. فما زالت كل الأسئلة مطروحة للاجابات كما أكد بريخت، ذلك أن الميثاق الثقافى والفكرى المعاصر إنما يترفع عن وجود إجابات يقينية مطلقة، إذ بات السؤال يتطلب إعادة إنتاج إجابات غير مألوفة تتسق مع المعطى الحضارى، إذ أن قضية تجديد الفكر هى فطرة إنسانية محركة لدوافع التطور وآليات الارتقاء خاضعة للجولات الزمنية بمقتضياتها المادية والمعنوية باعتبارها مؤشرا تقدميا مبررا لعلة وجوده. وعلى ذلك تتجلى ضرورة تجديد الطابع الفكرى العام كخطوة تأسيسية نحو تجديد الخطاب الدينى الذى بات يمثل إشكالية فكرية عقائدية اختلفت حولها التوجهات. واستبان خلالها غياب العقلانية وقصور التحليل والاستدلال من ثم اعتماد الفوضى الفكرية منطقا!! إن شرطيات تجديد الخطاب الدينى إنما تكمن فى كيفية التعامل الواعى الخلاق مع ركيزتين هما: التراث بما يحمله من شروح وتفاسير واجتهادات ورؤى ونظريات ومأثورات ومرويات باعتباره ظاهرة تاريخية لا يمكن محاكمتها إلا بمعايير ماضوية تحقيقا للموضوعية واتساقا مع بنية العقل المعاصر الذى يأبى علينا طرح مغالطات فجة فى برمجة القضية ووضعها فى غير نصابها وهو ما فجر بالضرورة كما هائلا من الخزعبلات وتوج أساليب الهرطقة وأحدث نوعا من الفتنة استهدافا للتشكيك فى قيمة التراث. فالتراث فى عموميته قوامه المضمون المعرفى المرتبط بالسياق التاريخى وكذلك الوظيفة الأيديولوجية. ولعل أصدق دليل نقدمه عن مدى حاجتنا لتجديد الفكر بصفة عامة إحداثا لنقلة نوعية فى تجديد الخطاب الدينى هو ما كان منا إزاء تجميد القضية وحصرها بل قصرها على ما يحتويه التراث من غث وسمين دون أن نعير توجهاته ووظيفته والغايات المثلى له أدنى اهتمام علمى أو فكرى، أما الركيزة الثانية فهى النص الدينى الذى لم نستطع إزاءه أن نقدم أى أطروحات معاصرة يمكن أن تتصدى للواقع المتردى وتعمل على إنهاضه، ذلك ان هناك عائقا فكريا متحديا يتمثل فى إغفال البعد الزمنى باعتباره بعدا محوريا فى التعامل مع النص الدينى المعطاء والفياض قدر توظيف الطاقة الذهنية المتوقدة، من ثم فكيف للخطاب الدينى أن يتجدد ما دمنا نستقى أبجديات ادراكنا للنص من وحى تلك التفسيرات العتيقة التى ترجمت واقعا آخر غير واقعنا لأنها ارتبطت بمعطيات زمن آخر كان له ظروفه وتحولاته. إن إثارة قضية تجديد الفكر وما يتبعها من قضايا تجديد الخطاب الدينى إنما تطوقها بعض التساؤلات التى تتبلور فى الآتى: هل يمكن أن تكون هناك أزمة فى تجديد الخطاب الدينى، السياسى، الثقافى إذا كنا نعايش بالفعل طابعا خاصا من الفكر التقدمى المعتدل؟ وكيف اختلطت الأولويات حتى تتصدر قضية تجديد الخطاب على قضية تجديد الفكر؟ وما هى الدلالة المعرفية لذلك؟ ولماذا فشلت كل محاولات تجديد الخطاب الدينى؟ هل لأنها تستند إلى إستراتيجية أو منظومة فكرية كلاسيكية أم ماذا؟ وهل يكون السبيل لاجتياز الأزمة الحضارية بتجديد الفكر ام بتجديد الخطاب؟ ومتى يكون اعتبار الاختلاف يمثل قوة معرفية داعمة وليس رذيلة ثقافية؟ وهل يمكن أن يتفتق الوعى العام عن أفكار رصينة منتجة إلا فى إطار مشروع تجديدى للفكر؟! وهل لهذا المشروع من بداية إذا لم تتجل لدينا إرهاصات القيمة الفعلية للأسئلة الغائبة التى يتجاهلها الوعى والشعور معا بينما تمثل الاجابة عليها معالجة ناجعة لتأزمات الواقع. الحقيقة أنه إذا كان الفلاسفة والمفكرون والعلماء قد أجمعوا على أن القرن العشرين قد حول كوكبنا بأكمله من عالم متناه من الحقائق اليقينية إلى عالم لا متناه من الشكوك ... ألا يستوجب ذلك أن تتصدر قضية تجديد الفكر بل تقتحم خلايا العقل المصرى باعتبارها ضرورة ملحة أو قضية من قضايا الأمن القومى لأن الثقافة كانت وستظل هى صانعة الوعى والوعى هو صانع الحضارة. لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبو العلا