أهدانى الصديق الكريم الأستاذ نبيل عبدالفتاح نسخة من كتابه الذى صدر مؤخراً عن المركز العربى للبحوث والدراسات، الذى يديره الأستاذ الفاضل السيد يسين، والكتاب بعنوان «تجديد الفكر الدينى» وينخرط هذا الكتاب ضمن المشروع الفكرى والسياسى والثقافى الذى يتبناه عبد الفتاح منذ بداية الثمانينيات. ويستند نبيل عبد الفتاح فى معالجته لقضية التجديد الدينى على حصيلة معرفية مركبة، تشكلت من خلال الإطلاع الواسع والعميق على الثقافة العالمية الجديدة والمعاصرة وما بعد الحديثة والعولمة وتجلياتها الظاهرة والمضمرة، وكذلك التكوين الأكاديمى القانونى والسياسى والثقافى، يضاف إلى ذلك المعرفة الواسعة والمتميزة لتاريخ ومحاولات الإصلاح الدينى والتجديد فى مجال الفكر الدينى والعقل الإسلامى. أما من الناحية المنهجية فإن الكاتب تبنى منهجية ذات أبعاد ثلاثة؛ أولها الارتكاز على معالجة تاريخية أفكار الإصلاح والتجديد، أى تعيين وتحديد الظروف التاريخية وملامح ومعالم التطور الموضوعى لتاريخ مصر الحديث والمعاصر فى جدليته مع الغرب الاستعمارى والتحديث والحداثة واستعاراتهما فى الواقع المصرى؛ ذلك لأن التجديد ومحاولاته لا تأتى من تلقاء ذاتها، بل تمثل استجابة نوعية للتعامل مع الأسئلة التى تطرحها الظروف وروح العصر، وكل محاولة للتجديد تتعين حدودها وآفاقها وفق التحديات المطروحة والملابسات التاريخية المتعينة، ورؤية أصحابها ومواقعهم فى جدلية الجمود والتجديد، أما البعد الثانى فى هذه المنهجية فيتمثل فى نوعية المقاربة المفاهيمية التى يرتكز عليها الكاتب فى معالجة قضية التجديد الدينى، إذ تعتمد هذه المقاربة على لغة جديدة وتراكيب لغوية جديدة، وتلك مسألة لا تتعلق بالألفاظ والمفردات بل بطبيعة التفكير ذاتها، فاللغة الجديدة تعنى فكرا جديدا؛ حيث أننا لا نفكر خارج اللغة، بل من خلالها، وذلك يعنى أن الكاتب يكتشف فى ثنايا هذه المعالجة أن اللغة المستخدمة فى السابق لم تعد تلائم تطور القضايا والإشكاليات المطروحة وتقصر عن الإحاطة بجوانب الظاهرة التى يبحثها. وفى إطار ذات المقاربة يستخدم الكاتب آلية «تبيئة المفاهيم» أى نقل المفاهيم من حقل معرفى إلى حقل آخر مختلف عنه، عبر ربط هذا المفهوم الجديد بمعانى تقريبية فى المجال المنقول إليه، وتحديد المرجعية التى نشأ فيها المفهوم، ومحاولة تأسيس مرجعية تقريبية فى الثقافة العربية المعاصرة، وذلك حتى يكتسب هذا المفهوم المشروعية المعرفية، وتبدو هذه الآلية مهمة للغاية فى دراسة قضية التجديد الدينى بل ودراسة العديد من القضايا؛ ذلك أن ابتكار المفاهيم وتقريبها وتبيئتها يساعد فى فهم الواقع؛ لأن الظواهر الاجتماعية عامة لا تفصح إلا عن النذر اليسير من ماهيتها وطبيعتها ومضمونها، وفى هذه الحالة تتكفل المقاربة المفاهيمية بمعرفة مضمون الظاهرة على الأقل بطريقة نسبية. أما البعد الثالث فى هذه المنهجية فيتمثل فى اعتبار الواقع الاجتماعى كلية مركبة يصعب الفصل بين جوانبها المختلفة الاقتصادية والسياسية والثقافية والرمزية والقانونية، وبين هذه الجوانب المختلفة علاقات جدلية وديناميكية، علاقات تأثير وتأثر بحيث يؤثر أحد هذه الجوانب فى مختلف الظواهر، وتجليات ذلك فى هذا الكتاب أن الكاتب يبحث قضية التجديد الدينى فى إطار مقاربة للبحث والاستقصاء والتحرى فى البيئة متعددة الجوانب لظهور نزعات الإصلاح والتجديد الدينى. يستعرض الكاتب فى دراسته حالة الاضطراب المفاهيمى السائد فى الثقافة المصرية المعاصرة وانخراط العديد من المفاهيم فى الخطاب العام السياسى والثقافى كمفهوم الخطاب والإصلاح والتجديد والتطور دون تحديد لأوجه التمايز والاختلاف، ويبدو ذلك واضحا فى الدعوة للتجديد الدينى حيث يختلط مفهوم الخطاب الدينى مع خطاب التجديد والإصلاح. من خلال استعراض اختلاط وتداخل مفاهيم التجديد والإصلاح والتطوير والخطاب فى اتجاهات تجديد الفكر الدينى المختلفة، لدى الإسلام الحضارى الذى يتمسك بمفهوم الثوابت والهوية المتجاوزة للسياقات التاريخية والاتجاه التقليدى الذى ينظر إلى الإصلاح والتجديد فى إطار جزئى لا يتعدى إدخال بعض التجديدات أو إعادة التصنيف لبعض المقولات والموضوعات الفقهية والتفسيرية أو الكلامية أو محاولات بعض رجال الفقه الإسلامى فى تعريف التجديد كإضافة للبناء القديم، أو كشف ما اعترى هذا البناء من رؤى وعناصر دخيلة وطارئة تهدف العودة إلى الدين فى تقائه وصفائه الأول، من خلال ذلك كله يخلص نبيل عبد الفتاح إلى انتقاد هذه المحاولات وتأكيد طابعها الجزئى والمتردد ومحدودية تأثيرها فى بنى الفكر والعقل الإسلامى وقصورها عن فتح باب الاجتهاد والابتكار والإجابة على الأسئلة الجديدة التى تطرحها اللحظة الراهنة، ومن ثم يقدم الكاتب مفهومه للتجديد الدينى باعتباره تجديدا فى بنية العقل الإسلامى قادر على تغيير نظم التفكير والمقاربات المنهجية وآليات التفكير والبحث بهدف إعادة النظر والبناء فى الموروث الفقهى والإفتائى وتجديد العلوم الإسلامية والنقلية، هذا المفهوم للتجديد بمقدوره طرح الأسئلة الجديدة والإشكاليات المتغيرة وإعادة النظر فى الإجابات القديمة بهدف كسر الجمود العقلى والنقلى وتلبية احتياجات وحاجات الإنسان فى عصر العولمة. إن هذا المفهوم للتجديد الدينى يتميز بالشمول والإحاطة والعمق والدخول إلى صلب قضية التجديد الدينى، ذلك أنه يتجاوز قصر مفهوم التجديد على الحذف والإضافة أو التصنيف أو مجاراة الوضع الراهن الذى يتميز بغلبة اتجاهات التطرف الدينى والإرهاب واختطاف الإسلام، وبالإضافة إلى ذلك فإن هذا المفهوم للتجديد الدينى يتميز بالطموح وتجاوز الأنساق المعرفية الضيقة والأحادية والمغلقة، وتجنب الانحيازات المسبقة لتكريس الجمود ومصالح الفئات المرتبطة به، كما أنه دعوة مفتوحة لتجاوز المألوف والمتكرر وامتلاك الشجاعة والجرأة الفكرية والنقدية فى إطار تجنب المرجعيات الجاهزة وامتلاك القدرة العلمية والفكرية على تشكيل مرجعية جديدة للتجديد تحفظ للدين مكانته وطابعه العابر للأزمنة والعالمى وتكفل للعالم الإسلامى الاندماج فى العالم الحديث وفتح باب المساهمة فى الحضارة الراهنة. يمثل نبيل عبدالفتاح بجدارة أحد رواد دراسة الفكر الإسلامى والحركات الإسلامية ليس فى مصر فحسب بل فى العالم العربى، وكان من أوائل من اتجهوا مبكرا لدراسة هذه القضية بكافة -تشعباتها وتعقيداتها فى الماضى والحاضر والكتاب الراهن يكشف بجلاء معالم هذه الريادة ومنطلقاتها العلمية والثقافية والسياسية. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد