إن أجمل الأشياء هي التي يقترحها الجنون ويكتبها العقل وينبغي التموقع بينهما بالقرب من الجنون حينما نحلم وبالقرب من العقل حينما نكتب.. هكذا تحدث الكاتب الشهير أندريه جيد منتهيا من حسم معركة طال أمدها وامتد, لكنه استطاع أن يؤكد كما أكد غيره من الأدباء أن العقل الأوروبي الحديث مازالت مساحات الجنون داخله هي التي تحكم مساراته وتطلق حدوده إلي ما لانهاية!! ولا يعني ذلك الخروج علي قوانين العقل أو علي مساحات المعقول ولكن أن تمثل معطياتنا انفرادات مشرقة يؤسسها الخيال قبل المعرفة كما قال إينشتاين. أما تاريخ الجنون فهو كتاب للمفكر الفرنسي الكبير ميشيل فوكو الذي تحتفل به فرنسا الآن في ذكري مرور ثلاثين عاما علي رحيل صاحبه ذلك لما أحدثه من ثورة خاصة في المفاهيم والأطر الثقافية والفكرية, فضلا عن تلك التحولات الجذرية التي أسهمت في إحداث تنويعات خاصة في الواقع الثقافي, فانطلاقا من فض الاشتباك بين الجنون كمفهوم مرتبط بالطب العقلي, عمم فوكو دراسة هذا المفهوم علي مستويات متعددة بل اعتبره ظاهرة ثقافية, ذلك ردا علي تلك القطيعة الفاصلة بين العقل والجنون التي أقامها القرن السابع عشر, ولم يكن هناك من دافع لدي فوكو نحو دراسة الجنون سوي التعرف علي نمط التفكير العقلي داخل أرضية الثقافة الأوربية, وبالتالي كيف انتهي الأمر بهذه الثقافة إلي أن تعتبر أن الجنون هو حالة مرضية تستوجب العزلة الاجتماعية؟! ورغم الاختلاف الحاد الذي نشأ عن وجود هذه الدراسة إلا أنها قد حظيت باهتمامات علي ما تمثله من اتجاه رافض للمألوف, لكن كان لابد أن يحتويها مناخ جيد طالما حاول أن يكرس مفهوم التعددية وقبول الآخر. ولعل ذلك يلتقي بشكل أو بآخر بواقعة شهيرة في تاريخ الفكر الفرنسي سجلها سان سيمون ذلك عندما أطلق الرصاص علي بعض مراكز المخ واستطاع علي أثرها أن يسجل خواطره في تلك اللحظة ليؤكد لأحد عمداء كليات الطب في باريس أو أحد رواد علم وظائف الأعضاء أن مراكز المخ تعمل متفرقة وأن المخ ذاته لايعمل كوحدة واحدة, وبالتالي استطاع أن ينفي الشك ويزيل الخلط وكان الثمن هو دم سان سيمون الذي سال وانهمر علي وريقات حفظتها له فرنسا في الأرسينال!! لتضرب بها المثل الأعلي في عمق التجربة والإيمان المطلق بالخروج علي المنطق من أجل المنطق!! أما عالمنا العربي وعلي مستوي ساحته الفكرية فهو خلو من طبيعة التفكير المتمرد الخلاق, غير مكترث بتلك الإضافات الثرية, بل غير ساع إلي أن يكون لديه مفردات التحول والتغير والتقدم والانفراد والسيادة, وتتبدي ملامح ذلك ومؤشراته عند اختبار محكات التفرقة الدقيقة بين العقل العربي والعقل الغربي وانعكاسات كل منهما علي أرضية واقعية وما نشأ عن ذلك من صراع يشتد احتدامه لحظة بعد أخري. ولقد كانت هناك كتابات عديدة معبرة أصدق تعبير عن تلك الإشكالية وتداعياتها المستمرة منها كتاب خطاب إلي العقل العربي لفؤاد زكريا, مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي, شروط النهضة لمالك بن نبي وبنية العقل العربي لعابد الجابري إلي غير ذلك من كتابات الدكتور مصطفي الفقي والدكتور زكي نجيب محمود فضلا عن الكتابات القديمة تاريخيا والتي كانت تمثل تيارا تقدميا في الفكر والأدب. لكن لماذا لم يستجب هذا العقل العربي إلي كل تلك النداءات ؟؟ ولماذا لم يع تلك الفكرة العامة التي تؤكد أن تاريخ الجنون هو تاريخ الحضارة وأن ذلك هو السؤال؟!. ولماذا وحتي الآن لم يتبوأ مفهوم العقلانية حيز خاص في العقل العربي؟ ولماذا ظل مفهوم الحداثة وما بعدها يمثل إشكالية فكرية علي الصعيد النظري والأكاديمي دون المساس بالواقع أو الاحتكاك به؟ ولماذا لم يستطع العقل العربي وحتي هذه اللحظة أن يخوض في قضايا تبدو له غرائبية شاذة, من ثم غير صالحة للنقاش بالأساس, من ثم أيضا غير مطلوب بلوغ أي نتائج بخصوصها؟ وهكذا يسير العقل العربي المعاصر في متاهات اللاعودة!!