بعد قراءة كتابه قمت بإجراء الحوار التالي مع طارق من خلال برنامج "اسكايب" علي الانترنت، لكن حينما بدأت في كتابة الحوار واجهت صعوبة في تحديد الترجمة الدقيقة لعنوان كتابة وهو بالإنجليزية كاملاً"Trials of Arab Modernity: Literary affects and the new Political" عدت إلي طارق مرة أخري، ووجدت لديه حيرة أكثر من حيرتي في العنوان العربي. فعلي الرغم أن المعني الأشهر لكلمة "Trials" هي المحاكمات، لكن طارق لا يحاكم الحداثة العربية ومشروعها، بل علي العكس يبدو متعاطفاً مع محنة هذا المشروع الذي قدم نفسه بصفته حاملاً لمشعل التنوير ومع ذلك كان دائماً في احتياج إلي سلطة توقد له هذا المشعل، كما أنه ظل واقعاً في محنته بين خصوصيته الثقافية وتصوراته عن طرق التوفيق بينه وبين الثقافة والحداثة الغربية. ومن الأدب يلتقط طارق أعمال أدبية سلطت الضوء علي هذه المحنة. استغرق الحوار والبحث عن ترجمة عربية لعنوان كتاب طارق حوار ثاني، انتهي بالاتفاق مع طارق علي جعل الترجمة العربية للعنوان هي "محنة الحداثة العربية: الأثر الأدبي، والتحولات السياسية". النقاش مع طارق حول عنوان الكتاب بالعربية، ليس مجرد نقاش حول الترجمة وصلاحيتها بل هو جزء من انشغالات طارق، حول الكيفية التي تعمل بها الهيمنة الثقافية لمعاني المصطلحات مما يؤثر علي استقبالنا ووعينا بها. "الجنون" واحدة من تلك المصطلحات والمفاهيم التي ينشغل بها طارق في كتابته، وبطرق تعريفها غربيا وعربيا. - تنشغل في كتابك الأخير بتتبع أثر "الجنون" وما ينتج عنه وحوله من خطابات في الأدب العربي منذ القرن التاسع عشر حتي الآن، لكن ما هو الجنون العربي، أليس "الجنون" مصطلحا حديثا نسبياً مرتبطا بالتطور الصناعي الأوروبي في القرن التاسع عشر؟ - يؤكد "فوكو" أن الجنون جزء أساسي من عملية خلق "الأنا" الغربية الحديثة. وهو بهذا المنطلق مصطلع غربي تماماً. لا نستطيع الآن أن نتحدث عن الجنون إلا بالتعريف الذي وضعه العقل الغربي، لكن أيضاً قبل سيادة هذا التعريف سنجد في الأدب العربي أن ابن سينا كتب عن الجنون، وهناك "مجنون ليلي" وسيرد الجنون في الكثير من الأعمال الأدبية والتراثية العربية حتي قبل القرن التاسع عشر، وفي رأيي أن هناك نقاط التقاء بين إلخطابين العربي والغربي في تلك النقطة وفي تعريف الجنون. حينما تقرأ رواية حمدي أو جليل "لصوص متقاعدون" ستجده في إحدي الفقرات يطالب بأن نستبدل الهوية الرسمية بإفادة من مصحة الأمراض العقلية بجنون أو صحة عقل الشخص". وهو يعتبر أن مثل هذه الإفادة ستكون أكثر نفعاً من الهوية الرسمية. هذا بالضبط هو ما سيتحدث عنه فوكو حينما يقول إن الجنون هو إحدي ممارسات السلطة لتحديد المواطن العاقل البالغ المندمج في المنظومة، عن المواطن غير العاقل الذي يحتاج إلي إعادة التأهيل للدمج في تلك المنظومة. وفي هذا المقام فالتعريف الذي اقترحه للجنون هو الخروج عن الإطار، والتأديب اللغوي والفكري، أو بمعني آخر التمرد علي التأطير. وما أحاول تتبعه هو الخطابات والأعمال الأدبية التي يمكن تصنيفها تحت هذا البند بصفتها أعمالا "غير مؤدبة" أو مجنونة. -ربما يكون الأمر صحيحاً غربياً، لكن في الدول العربية كثيراً ما نجد السلطة أيضاً هي المنتج لخطابات الجنون "غير المؤطرة" في مصر علي سبيل المثال شهدنا حكم الإخوان المسلمين وكيف أنتج خطاباً حول أستاذية العالم وعدم الاعتراف بالحدود القومية في مقابل التصور عن الأمة الإسلامية الواسعة، والآن نجد عودة لخطابات الستينيات عن الريادة والعظمة المصرية بلا أي سند واقعي أو منطقي، بما تفسر مثل هذه الممارسات إذن؟ -فوكو لا يقول إن السلطة تفرق بين العاقل والمجنون، لكنها تحتاج إلي المجنون غير العاقل لتأديبه، ولهذا فليس هناك نمط واحد لخطابات الجنون أو العقل بل يرتبط الأمر بالكثير من المعايير التي تشكل الإطار العام المؤدب. مشروع الدولة الحديثة ليس العقاب. بل منح هذا الفرد "نفس" تستطيع كدولة التسلط عليها والقدرة علي تقييمها والحكم عليها وإصلاحها وتعميمها، وهذا بالضبط هو جوهر مشروع "التنوير" العربي. الأمر يشبه فيلم ستانلي كوبريك "البرتقالة الآلية" حينما يجتمع العجائز علي الشاب المتمرد عن النسق الأخلاقي والاجتماعي ويشرعون في تعريته وفحصه لمعرفة أسباب عدم انسياقه داخل النظام، ولأجل هذا الفحص يتم إجراء الاختبارات عليه ومحاولة تقويم سلوكه الأخلاقي، هذه هي فانتازيا السلطة تتخيل أن لديها وسيلة وأسلوبا يمكنها من خلاله إصلاح الفرد وتقويمه. في الكتاب أشدد أيضاً علي هذا المعني، فلا توجد حداثة خالصة لدي العرب أو مشروع متكامل، بل مثل الفيلم من خلال الفحص وإجراء الاختبارات نجد هناك مشاريع متعددة لخلق الهوية العربية الحديثة، أو الفرد العربي الحديث. وهذا مشروع جنوني في حد ذاته. وبالتالي من الطبيعي أن ينتج خطابات هلوسة متعددة سواء في هيئة أحلام القادة العسكريين أو البحث عن الخلافة المفقودة. وحتي تاريخاً ستجد أن مشاريع التنوير والتحديث العربي انتجت ديكتاتوريين ومجانين بداية من القذافي والأسد وحتي صدام. -هل تربط بهذا الشكل بين الحداثة والديكتاتورية؟ -إلي حد ما، لكن الديكتاتورية أيضاً تحتوي علي مركبات أخري بداية من "السادية" ليس كسلوك جنسي فقط بل كنمط استقبال وتعامل عاطفي. الديكتاتور أيضاً أشبه بالطفل. تذكر مثلا بعد النكسة حينما خرجت الجماهير في مظاهرات لتطالب بعودة ناصر بينما هو يتمنع، أو حالياً حينما نشاهد تمنع السيسي ورغبة الجماهير، في هذه الحالة يبدو مثل طفل صغير يتمنع علي أهله ويتظاهر بالزعل، فيظل الأهل يجرون خلفه ويرددون عليه عبارات الثناء مؤكدين له "أنت حلو.. أنت جميل". -في هذا السياق، والحديث عن الربيع العربي بصفته كسرا لحاجز الخوف ونهاية لزمن الحكم الفرد، أليس من الغريب ألا تنتج هذه الثورات خطابا جديدا وأن تستمر الخطابات والمقاربات الفانتازيا التي تستدعي الحكم الفرد، وتبحث لها عن تمثيل في اللحظة الراهنة كهذا المزج في مصر مثلا بين السيسي وصورة عبد الناصر؟ -تعريض الثورة لمثل هذا النوع من الاستجوابات أو الطلب منها أن تقدم بديلا، هو طرح يأتي من أيديولوجيات علمية وسياسية لم تعد موجودة، ونفس الأمر ينطبق علي محاولة مقارنة الثورة بثورات أخري أو محاولة وضعها في إطار ما حدث في أماكن أخري. في رأيي هناك مسافة كبيرة جداً بين كل الثورات الحداثية التي شهدنها في القرن الماضي وما يحدث الآن في المنطقة العربية. طرح أسئلة من نوعية "ما النظام الذي سيأتي" يعني انك لا تعترف بالثورة كثورة، أو لست معترفاً بقدرة الثورة علي انتاج بديل. والبديل الذي أقصده هنا هو بديل بالمعني الفلسفي. بمعني انتاج نهج مغاير للنظر في مشاكلنا وطريقة تفكيرنا. في نهاية الكتاب أقدم اقتراحاً بالنظر إلي الثورة كسلسلة أحداث متعاقبة ستؤدي بنا إلي شيء جديد، لا نملك القدرة علي استنباطه. لكن في ذات الوقت تنتج هذه الحالة نوعا من القلق، قلق علي المستقبل، وعلي الحالة الاقتصادية والحاضر أيضاً. ولهذا تعود الخطابات القديمة بقوة علي طريقة "وينو بابا يجي يضرب العيال اللي بتجري في الحارة". بمعني آخر أنه لمحو هذا القلق يتم البحث عن سلطة، ولذا تطرح أسئلة من نوعية "متي ستحكم الثورة؟" وحينما نكتشف أن الثورة لا تحكم، يتم استدعاء بدلاء من الماضي. في حين أن ما يحدث أن الثورة جاءت لتغيير طريقة التفكير هذه، فالثورة قامت بالأساس ضد هذا النوع من السرديات. المسألة أيضاً لها جذور تاريخية طويلة، لدينا مشاكل اصطلاحية في الثقافة العربية في تعريف "الثورة". علي سبيل المثال نعتبر 23يوليو ثورة، بالرغم من أنه انقلاب واضح وصريح لكن الدولة وما تنتجه من خطابات رسمية تستمد أحياناً وجودها من هذا التلاعب المعرفي، لذا تصبح حركة الضباط الأحرار في 23يوليو ثورة. -استدعاء خطابات الماضي لم يعد مسألة تتوقف علي "المواطن القلق" بل امتدت لتشمل قطاعات كبيرة من المثقفين تدافع عن العودة للماضي، وتأييد عودة حكم العسكر و"بابا" الذي سيؤدب العيال في الحارة، ونلاحظ ذلك بقوة لدي مثقفي الستينيات، هل لديك تفسير لماذا يسود هذا النمط من التفكير لدي قطاع من المثقفين خصوصاً جيل الستينيات؟ -لدي جيل الستينيات تاريخ نضالي محترم بعضهم دفع ثمنه في السجون، لكن للآسف هم أبناء نظام معرفي غير قادرين علي الخروج منه أو تجاوزه، وما يحدث الآن من موجات ثورية في جوهره هو صراع مع النظام المعرفي الذي انتجهم، ولذا في لحظة كتلك التي نعيشها الآن هم في حالة قلق لأن ما يحدث يتحدي الكثير من تصوراتهم عن هويتهم الخاصة وهوية أوطانهم، بل حتي يتحدي تصوراتهم عن دورهم كمثقفين. لذلك ما يحدث الآن من مواقف بعض رموز هذا الجيل من دفاع عن السلطة لا أراه كنوع من الموالاة بقدر ما هو موقف للدفاع عن منظومتهم المعرفية التي شكلت وعيهم. -في أجزاء من كتابك توضح الرحلة العكسية لرفاعة الطهطاوي، كيف بدأ كشاب مؤمن بالقدرة الكلية للسلطة/بابا متمثلة في الخديو، وكيف تطورت كتابته نحو شكل أكثر تحرراً من تلك السلطة، ألا تري في هذا السياق أن تجربة جيل الستينيات تبدو ارتداداً علي ما فعله الطهطاوي؟ -المقارنات الأدبية هي مجال تخصصي لكن هذه نوع من المقارنة أخاف من القيام بها. الطهطاوي كان صغيراً ومنفردا تقريبا في الطريق الذي قطعه، وخائفا من ارتكاب أي خطأ في تعامله مع سلطة لا يعرف حدود قوتها ولا كيفية التعامل معاها، وخلال رحلته وتطوره المعرفي صنع الطهطاوي رحلته الخاصة. لكن جيل الستينيات أبناء حالة اجتماعية وسياسية انتجت وعيا جماعيا شكل جزءاً أساسياً من وعيهم، هم أيضاً من جيل واحد وأبناء تجربة مشتركة ويوجد بينهم نوع من التكاتف مختلف عن الطريق الذي قطعه الطهطاوي وحيداً. -لكن لا يوجد خطاب واحد سائد الآن، ففي مقابل خطاب استدعاء سلطة "بابا" العسكرية القديمة، هناك جماعات تحركها خطابات حلم أستاذية العالم والخلافة الإسلامية، وهناك تزايد لخطابات المؤامرة علي طريقة أبلة فاهيتا وأحمد سبايدر، والنظام القضائي والمحاكم التي تمثل حجر الأساس في النظام تتعامل مع هذه الخطابات بمنتهي الجدية، كيف نميز وسط فوضي خطابات الهلوسة والجنون تلك بين الواقع والخيال؟ -الخيال في رأيي ليس بعيداً عن الواقع، بل دائماً له سرديات تاريخية. الخيالات مثلا عند انصار التيار الاسلامي تنبع من مصادر تاريخية عميقة بعضها واقعي وحدث بالفعل، وتمتد تصوراتهم عن المجتمع إلي مرحلة الجاهلية وتأسيس الإسلام. لذلك نحن الآن نعيش داخل هذه الفانتازيا ليس بصفتها حالة جنونية خارجة عن الواقع بل كنظام جديد للواقع. وتنامي مثل هذه الخيالات والفانتازيات والدور الذي تلعبه في حركة الأفراد والجماعات متصل بالقلق والخوف المرضي "البارا نويا" التي نعيش فيها، بحيث أصبح الخوف المرضي هو النظام الفعلي في الدول العربية تحديداً دول الربيع العربي. في مصر يزداد الأمر تعقيداً لأن هناك أطرافا تحقق مكاسب سياسية واقتصادية بتغذية هذا الخوف واستمراره، والسلطة تستفيد من استمراره هذه الخطابات من أحمد سبايدر إلي موروث الجاهلية لدي التيارات الإسلامية، وتعمل علي تغذية هذه الفانتازيات وتقويتها لهذا من الطبيعي التعامل مع بلاغ سبايدر ضد دمية "أبلة فاهيتا" بمنتهي الجدية وأن يذهب إلي المحكمة ويفتح التحقيق في البلاغ، ويظهر الاثنان علي القنوات التليفزيونية في البرامج المخصصة للأخبار الجادة. فتغذية هذه الفانتازيا والهلاوس تغذي بالتالي الصراع وتحافظ علي وقوده مشتعلاً. بمعني آخر السلطة تعلم أنها "فانتازيا" وخطابات أشبه بخطابات الجنون، لكنها تصدقها وتستفيد منها. لذلك اعتقد أننا الآن بوضوح خرجنا من حالة الثنائيات والازدواجية بين الواقع والخيال، فالاثنان اصبحا في علاقة واحدة. -في كتبك تجادل بأن الكثير من الثنائيات الكلاسيكية التي عرفناها في تاريخ الثقافة والنهضة العربية لا تقدم الصورة كاملة، كيف توضح ذلك؟ -أعمل بشكل خاص علي النصوص التي عادة يتم تجاهلها، فيما يخص الطهطاوي مثلاً حاولت التركيز علي الارتباطات الشعرية وتفضيلات المجاز التي يستخدمها. فهذه المساحة تجسد الخيال، والخيال يجسد الخبرة الحديثة كما يجادل فالتر بنيامين. المدهش أن هذا التقليد من تجاوز الثنائيات بل وخرقها ليس جديداً بل نراه في طبيعة المجازات والمقاربات التي يستخدمها الطهطاوي، حينما تنظر إلي نصوص المديح التي كتبها الطهطاوي وتقاطعها مع نوع أدبي آخر وهو "الرحلة"، ستجد أن الطهطاوي من خلال هذا المزج والذي يظهر أثره في مجتزئات محددة يقدم وجهة نظره أخري عن خطاب "النهضة". "فالنهضة" ليست موضوعا للدراسات التاريخية والسياسية، ومن الصعب اختصارها في الثنائيات المعتادة في تاريخ الثقافة العربية كالتقاليد/ الحداثة أو الشرق/الغرب. ومن مجتزئات الطهطاوي يتجلي لنا كيف أن "الحداثة" تتشكل في سلسلة من المحن، لا تُدرك أو تكتمل أبداً، بل وتتطور من خبرات القلق والتيه والإعجاب أحياناً أخري، وكل هذا لا يجد مساحة للتعبير عن نفسه في النص المكتوب إلي في مساحات الخيال في ثنايا خطاب الطهطاوي. وهو أمر مستمر إلي الآن، لاحظت مثلاً استخدام السلطة ومنابر الإعلام الرسمي في مصر لتعبير "فض" عند الحديث عن اعتصام رابعة، كان يتم استخدام تعبير "فض اعتصام رابعة". رفاعة الطهطاوي في أحد نصوصه مثلا يصف محمد علي بأنه الوحيد القادر علي فض غشاء بكارة عكا وغيرها من مدن الشام. استخدام تعبير كالفض بكل ما يحمله من ذكورية ومن سياقات تاريخة ولغوية تقليدية، يأتي سواء وقت رفاعة أو حالياً في سياق يفترض أنه يعبر عن خطاب الدولة الراشدة المستنيرة القائمة علي تنظيم المجتمع وإدارته، لكن مثل هذه التعبيرات والتي تجد من خلال الخيال والمجاز مساحة للتعبير عن نفسها هي الدلالة الأكيدة علي محنة هذا المشروع، ومحنة الحداثة العربية.