»تصوير: هشام المصرى« كلهم اتفقوا علي التفاؤل في نهاية الندوة. عادل السيوي حكي عن الأمل الذي كانت تريد "كفاية" انتزاعه منذ سنوات. مجرد أن يخرج مائة شخص ليتظاهروا سلمياً. يحكي: "علي سلم دار القضاء العالي، وبعد أن انتزعنا ذلك الحق، أدركت تماماً أن الزمن لن يعود إلي الوراء. هناك شيء ما حدث. مكسب، لن نتخلي عنه أبداً"، بينما يؤكد د.محمد بدوي: »الزلزال أكبر من العودة إلي الوراء«. كان 2011 عاماً مفارقاً في أداءات المصريين. لافتات وهتافات وموسيقي وتلاحم جسدي وأعلام وألتراس وأداء مسرحي هزلي وشعر وجرافيتي. ولكن كانت هناك أيضاً إرهاصات بما جري، بانفجارة الخيال غير المسبوقة أثناء الثورة وبعدها، كما يظهر من كلام السيوي.. لقد كان المصريون يتحركون لانتزاع الشارع. فنانو الجرافيتي في الإسكندرية، كانوا يبدون كمن يسرقون ويهربون، غير أنهم الآن، في الإسكندرية، والقاهرة وغيرها أصبحوا آمنين، بعد أن انتزعوا الشارع فعلاً. الناس أيضاً كانوا ينزلون بالملابس السوداء في ذكري موت خالد سعيد، ويعلقون الأعلام السوداء علي البلكونات. حتي الإعلانات، ومنها "عبر مين قدك" كانت تكشف عن رغبة في قول شيء ما، غير أنه كان حبيساً دائماً، وها هو ينفجر في 2011، سنة الخيال الفارق بلا منازع. هنا حالة المصريين مع الخيال. عبلة الرويني: 2011 كان عاماً مختلفاً، ليس لأن الثورة قامت خلاله، ولكن لأن هناك خيالاً مختلفاً، وإبداعاً مغايراً، وطريقة تفكير جديدة تهدم نظيرتها القديمة. أصبح لدي المصريين وعي كبير، يظهر من طريقتهم التي يتجلي فيها قدر هائل من الابتكار والخيال، في استخدام الميديا، ووسائل الاتصالات الحديثة. الجرافيتي، مثلاً، والنكت، واللافتات، تكشف عن ذلك الخيال، فهل كان كامناً وموجوداً أم نعتبره شيئاً جديداً ومفاجئاً؟! محمد خان: بالطبع كان هناك خيال كبير لدي الناس الموجودين في الميدان، وهو خيال ممزوج، بالرغم من المرارات، بخفة ظل كبيرة، كنا نضحك جداً من المكتوب، غير أننا كنا متأكدين، دائماً، من أنه يحمل شيئاً حقيقياً. مثلاً.. كان هناك أشخاص يقيمون ما يشبه متحفاً ل"غنائم موقعة الجمل"، سرج وما شابه. (يضحك ويضحك الجميع). كان الناس يريدون الإعلان عن موقفهم، وهو ما خلق الخيال. عادل السيوي: أعتقد أن المصريين لم يتوقفوا أبداً عن الخيال. خيالهم كان متوافقاً مع فكرة الحياة اليومية. كيف نحول تلك الحياة اليومية إلي شيء كبير وضخم جداً. تستوعب طاقتنا الإبداعية، وقدراتنا. في 2011 لم يكن الأمر متعلقاً بالحياة اليومية، لأن تلك الحياة اليومية أصبحت مهددة. الخيال المصري نقل نقلة كبيرة، فقد ترك الاعتيادي، وبدأ يواجه الاستثنائي. مثلاً أنا شاهدت شخصاً يسير في مظاهرة يحمل لافتة لا توجد عليها كتابة إطلاقاً، رأيت أن ذلك فيه خيال عال جداً، فنانو المدرسة المفاهيمية عملوا لوحات "إطارات بدون لوحة"، وذلك الرجل الذي كان يحمل لوحة بيضاء، اقترب من المفاهيميين، بدون أن يكون عارفاً بهم، لم يكن يعرف شيئاً عن تاريخ الفن. كان يقول للناس، بلافتته البيضاء، اكتب ما تشاء، أو افهم ما تريد. عبلة الرويني: ما الذي جعل الخيال استثنائياً؟! عادل السيوي: ليس استثنائياً. نحن نتحدث عن نقلة، أو قفزة بعيداً عن مرحلة التكرار والاعتياد. كما نتحدث عن علاقة الخيال بالسياسة، وأنا لديّ تصور إذا سمحتم لي أن أطرحه. علاقة الخيال بالسياسة تتسع حينما يتسع فهم السياسة ذاتها، وبالتالي إذا كانت ضيقة تصبح مجبرة علي التعامل مع الوقائع الموجودة والحلول الوسط. جاك دريدا جاء إلي مصر وعمل محاضرتين، ومنهما محاضرة في المركز الثقافي الفرنسي، تحدث دريدا عن فكرة المدينة والمعرفة من خلال "الجمهورية" لأفلاطون. أفلاطون بني فكرته علي أساس أن تكون المدينة نفسها مجالاً المعرفة. وهكذا فإن كلمة السياسة ليست مستمدة من القوة والسلطة، ولكنها أيضاً مستمدة من المدينة، بمعني أن المدينة هي الكادر الحديث للفهم السياسي، فلما يرتفع الفهم السياسي، ونفكر في المدينة، يبدأ الخيال الذي يوصل شخصاً مثل أفلاطون إلي أن تصبح المعرفة يومية وجزءاً من الحياة المادية. بحيث يصبح بيتك هو كتابتك، ، ولكن حينما تحدث عن السياسة كصراعات، فهذه هي السياسة بمعناها الضيق. فكرتي ببساطة أن الخيال في علاقته بالسياسة مرهون بتوسيع فهمنا لما هو سياسي. لو السياسة أصبحت هي السلطة أو إدارة القوة في المجتمع سنصبح مضطرين إلي التعامل مع أشياء ملحة، وواقع مفروض، وقدرتنا علي الخيال ستصبح محدودة. لا يهم في الفهم الواسع أسئلة من نوع: كيف نعمل تحالفات أو ارتباطات أو كيف ننجح في مشروع؟! إنما حينما نوسع فهمنا للسياسة أعتقد أنه ستكون هناك مسافة ومساحة للخيال، تماماً مثلما تخيل أفلاطون لجمهوريته. عبلة الرويني: يبدو أننا أمام خيالين. خيال تقليدي لا يزال أصحابه يحافظون عليه، رغم كل التغيرات التي حدثت، حتي في مفهوم الدولة ومؤسساتها، والخيال الآخر السياسي، الذي يتحدث عنه السيوي، سنجد أنه كان موجوداً عند العامة، البسطاء في الميدان، لا عند الساسة أو القادة.. علاء خالد (مقاطعاً): هذا صحيح، وذلك مرتبط بشيء، أن هناك أكثر من ثورة في مصر، كما أن الثورة لم تصل إلي كل الأماكن، السلطة "خفّت"، فبدأ المجال العام في الاتساع بحيث يتحرك داخله الإنسان بحرية، وكلما اتسع المجال العام، ستكون هناك مساحة كبري للإبداع. أي وجود لسلطة شمولية أو ديكتاتورية تحدُّ من فكرة العلاقات. سيتواجد خيال بداخلها، ولكنه سيكون خيالاً، لا أريد أن أقول ممتهناً، يأخذ من الواقع الموجود فيه، أكثر مما سيضيف مساحة جديدة. الثورة ستكون فيها مساحة جذرية ستفتح الباب لفكرة الحلم، التي كانت مغيبة، فكرة المستقبل، الذي كان بالنسبة لنا هو اللحظة الآنية التي نحياها. حتي ولو تكن الثورة فعلت هذا، فمجرد وجود كلمة ثورة، وشعب يتحرك، أعتقد تلقائياً سيفتح الباب للحلم، الذي يمكن ملؤه بأي شيء، بالخيال، بالأحاسيس، بالنماذج، بالأفلام. محمد خان: موجهاً كلامه إلي عادل السيوي: ولكن هناك أيضاً الخيال العفوي، أنت تعتقد أنه لا بد أن يكون هناك فهم. لا. هذا ليس ضرورياً. إنه شيء عفوي، "طالع كده"، وفي رأيي أن تلك الثورة فوق الخيال، ما حدث، حتي رسومات الجرافيتي علي الحوائط، عفوية. ما السياسة بالنسبة إلي هؤلاء؟!. العدالة الاجتماعية، وأمور بسيطة جداً، وليس أكثر من هذا.. عادل السيوي: لم أكن أقصد هذا، كنت أقصد أننا نحتاج إلي إعادة فهم لموضوع السياسة. ودعني أضرب مثالاً بحركة 68 في أوروبا، التي مهدت لنمو فكر سياسي جديد. كانوا يريدون توسيع الخيال السياسي، ومن ضمن أفكارهم مثلاً أن يأخذ الغرب من حكمة الشرق. لقد أنشأوا أيضاً حلفاً بيئياً. تصوروا؟!. العلاقة بين الإنسان وشجرة، أو الإنسان والحديقة التي يزورها ويحافظ عليها، أو بالحي الذي يقطن به. هو أمر سياسي. كانوا يرفضون العقلية القديمة، التي تسببت في حربين عالميتين، وموت 80 مليونا، وتسببت في مجاعات. وهكذا قرروا ألا يقود أصحاب العقلية التي قادت المذبحة العالم الجديد. لن تجد هذا الخيال السياسي بعدها إلا مع ثورات الربيع العربي. حسنٌ.. كانت هناك أدلجة في جيل 68، ماركسيون وترتسكيون، و... و....، ولكن الثورة المصرية مثلاً لم يكن فيها هذا. شبابها يفهمون السياسة بشكل مختلف عما تفهمه الأحزاب الكلاسيكسة. لقد دهنوا الشوارع، وهذا شيء مجنون جداً في اعتقادي، وخيال جديد. صحيح أنه لم يكن بقوة 68، ولكن الثورة كان فيها شيء عظيم. انفجار الخيال عبلة الرويني: كلام الأستاذ خان كان عن الخيال العفوي، ويجعلني أسأل، هل هو عفوي فعلاً، أم أنه كان متراكماً وانفجر في لحظة؟! ما رأيك يا دكتور بدوي؟ محمد بدوي: الخيال دائماً ما يكسر خيال المتلقي، نُحدث حدثاً يكسر فكرتنا عن الشيء، نجد علاقة بين شيئين متباعدين، تكسر الفكرة العامة المنطقية، وتخلق فكرة بهجة كسر التوقع، الانشداه أمام خيال محلّق أو عمل فني عظيم مرده أنه يكسر التوقع. يعمل قطعاً في رتابة الحياة وسيرها اليومي، وبهذا المعني فإن الثورة خيال، لأنها فعل رومانتيكي وشعري جداً، بمعني أنها تكسر العادة والتوقع، لو أحضرت كمبيوتر ليتوقع ما سيحدثه الشباب في 25 يناير، سيقول لك إن قوي الأمن ستسحقهم، الفكرة هنا في الخيال، أننا أمام مسألة ثابتة معروفة سلفاً يمكن توقعها، وبين من يكسرون ذلك التوقع، يكسرونه بفكرة أو بتخطيط جديد، بالتقاط بعض الخطوط غير الواضحة للقوي الحاكمة التقليدية، التي تملك الكمبيوتر والبرامج والخبراء، فتُفاجأ بشيء يكسر توقعها، بشيء يفشل خططها، هو فعل الثورة، ولهذا فإن فعل الثورة دائماً هو فعل خيالي ورومانتيكي، قبل الثورة كانت هناك حالة ركود طويلة جداً، حالة من اليأس التاريخي، ازدهرت فيه ما يمكن تسميته بالخيال الخلاصي، أن تظل الجماهير في حالة يأس تام، منتظرة حدوث فعل قدري، انبثاق بطل، زلزال إلهي، في انتظار الخلاص، ما يتجلي في أشكال كثيرة جداً، تحاول أن تبني يوتوبيات، أن تبني عوالم خاصة مفارقة للواقع، تظل أبداً يصعب تحقيقها. الخيال لفترة طويلة، قبل الثورة، ربما لأكثر من ثلاثين عاماً، كان يقوم علي اليوتوبيا. لاحظوا حتي في الأغاني الشعبية، التي لا تُنقل عبر التلفزيون، أو الراديو، الأغاني التي تكون فيها ألفاظ جارحة للحياء العام، هي تقريباً، جزء من طقس الحياة الخيالية، التي ينشئها القسم الأكبر من السكان المحرومين، مع المخدرات والخمر والرقص، مع الأغاني التي تخلق عوالم جمالها في صعوبة تحققها، لأنها يوتوبيا. الخيال بعد الثورة، هو الإيمان بأن ذلك الواقع، الذي يبدو أبدياً وسرمدياً، وبين قوسين، فطرياً، وطبيعياً ولا يمكن تغييره، يمكن بمجموعة من الابتكارات، التي تكسر توقع أصحاب السلطة أن يتحوّل.. أي دراسة ميكانيكية حول قوي الثورة، قبل حدوثها، كانت ستجزم باستحالة حدوثها، وحتي في تونس.. كان مستحيلاً تصديق حدوث ثورة.. في واقع يقول إن هناك دولة مدججة بالسلاح، والتلفزيون والإذاعة، ومفكريها الإيديولوجيين، بسيطرتها علي المكان.. عبلة الرويني: وكيف انفجر ذلك الخيال؟! محمد بدوي: انفجر لمجموعة من الأسباب. أن الجزء الأكثر حيوية في صنع الثورة وهم الشباب، يمتهنون مهناً في قلب العالم المعاصر، يتعاملون مع أجهزة الموجة الثالثة، وهناك بعض الأشخاص كانوا يقولون عنها ثورة المهندسين، لأن كثيراً من قادتها يعملون في هندسة السوفت وير، وإدارة أعمال الشركات العابرة للقوميات. العلاقة بالسوفت وير جعلت الجدد مختلفين عن سابقيهم، أنا مثلاً حينما أكتب قصيدة بالقلم الرصاص أو بالحبر، أو أقوم بشيء تقليدي عموماً ، أمزق الورقة حينما أخطئ، أما من يتعامل مع تلك الآلات لا يتخذ قراراً عصبياً، الجسد تم تشكيله بصورة مختلفة، ألا يدمر الجهاز، ألا "يخبط" عليه. عليه أن يكتشف مكان الخطأ، ويحاول إصلاحه من دون أن يؤثر عليه عصبياً، وبالتالي تفكيرهم كان فيه قدر كبير من المنطق، غير السائد. مثلاً الأمن المركزي يضرب بكذا، فنواجهه بكذا، وحينما يحيطهم بكاردون يكون السؤال: كيف يفلتون منه؟! وكيف نشتت الأمن المركزي في حواري القاهرة، إحساساً بأن جنود الأمن المركزي غالباً غرباء، وبالتالي علاقتهم بالمكان محدودة جداً. تلك طريقة في التعامل مع الحدث الثوري العنيف، لقد اكتشفوا مجموعة من الأشياء، أن الحشد هو الجموع وليس الأفراد المختارين والأيديولوجيين مثل الجماعة الإسلامية، التي رفعت السلاح، أو مثل اليسار القديم، الذي كان يتعامل بأنه يمتلك كوادر يعرفون كل شيء، الجسد تحول في الحشد إلي سلاح أساسي في المواجهة، فالأجساد المتلاحمة الكثيرة قادرة علي الانتصار علي التقنية التي يمتلكها الجنود، حتي ذلك الخيال سنراه في فكرة الألتراس، الذين يتعاملون بشكل من أشكال الأخوة الدينية القديمة، مع تحولها إلي أخوة رياضية. السلاح الأساسي الذي يمتلكونه هو أجسادهم. ما يقومون به يشبه أشكال التمسرح اليوناني القديمة، نشوي واحتفال، كل هذا أشكال من الخيال. علي ما أظن أن الثورة المصرية هي الوحيدة التي تحولت فيها النكتة إلي سلاح ثوري، أتذكر تعبيراً لفرويد في كتاب "النبي موسي والتوحيد"، يسخر فيه من فكرة ثورة المصريين علي الفرعون قائلاً بسخرية: "فكيف استطاع المصريون الودعاء، أن يمارسوا كل هذا العنف؟!"، إنها الفكرة العامة عن الثقافة المصرية، أنها ثقافة إقامة وهدوء واستقرار وحياة نهرية متصلة تجعل الناس في حاجة إلي شكل من أشكال الثقافة السلبية، ومن بينها النكتة. التي كانت قبل الثورة هي المعني السلبي للثورة. أنني أسخر من العدو الذي لا أستطيع منازلته، باللعب علي المتناقضات، والمفارقات، بتحوير الأسماء والألفاظ، بالربط بين شيئين مختلفين. مع الثورة تحول ذلك المُعطي غير الثقافي، قدرة المصريين علي السخرية، إلي سلاح ثوري. أحد الجنرالات كان يهدد بالسبابة، بعدها بنصف الساعة حمل شخص في الميدان لافتة مكتوباً فيها "من يشير إلي الشعب المصري بالسبابة يشير إليه بالوسطي"، كيف استطاع هذا الرجل البسيط الذي كان يرتدي "شبشباً" أن يلتقط المفارقة الكامنة، الحركة المرتبطة بالطغاة، هتلر وحسن نصر الله، واكتشاف أن هناك إصبعاً يأخذ معني آخر شديد البذاءة.. كسر الخوف عبلة الرويني: في اعتقادي أن كسر حالة الخوف هو ما فجر كل حالات التعبير التي نتحدث عنها.. وكسر الخوف جاء من كسر الأشخاص الذين يمنعونهم من الكلام. سلاح النكتة كان موجوداً دائماً، ولكن الانفجار التعبيري... محمد بدوي (مقاطعاً): ولكن معظم النكت التي كانت موجودة قبلاً كانت موجهة في مناطق معينة، شخص يسخر من آخر. شخص يلعب بالألفاظ. شرق البلد يسخر من غربها، أو شمالها من جنوبها... عبلة الرويني (مقاطعة بدورها): لا لا.. كانت هناك نكت عن عبد الناصر والجيش المصري في اليمن وفي 67، بمعني أن النكتة السياسية كانت حاضرة بقوة.. محمد بدوي: ولكن الفارق أن تلك النكت كانت تأتي بعد انقضاء الأحداث، بعد الهزيمة يكتشف الناس خواء النموذج فتطلق عليه النكت، ولكن حالياً فإن النكت سريعة وحاضرة، يعني في الأحداث الأخيرة التي لم ينزل فيها الإخوان للدفاع عن النساء المصريات، عقب انتهاك الفتاة المنتقبة، كانت هناك نكت حاضرة مثل "الجدعان جدعان والإخوان إخوان"، و"الرجالة في الميدان والجماعة في البيت"، أن تتحول النكتة إلي سلاح ثوري فإن هذا يعيد إليها مجدها باعتبارها واحدة من أرفع الأشكال الأدبية، غير أنها زائلة كالجرافيتي، لأنها ليست أدباً رفيعاً، ولاحظي شيئاً، أن هناك نوعاً من الكتابات ازدهر، كتابات تقوم علي النكتة والاستظراف عموماً، وخفة الدم، وكانت تبيع بشكل كبير، مثل "مصر مش أمي"، "مصر مراة أبويا".. عبلة الرويني: نوع من الكتابة الساخرة؟! محمد بدوي: لا ليست ساخرة، وإنما أقرب إلي عمل المونولجست، مع العلم أنه إلي زمن قريب انقرض المونولجست من مصر، لم يصبح هناك أشخاص يؤلفون النكتة، حتي فن الكاريكاتير ضعف، لدرجة أننا أصبحنا نبحث عن صلاح بيصار وصلاح جاهين، فجأة تحدث الثورة، تتحول كل تلك القدرة علي السخرية إلي سلاح ثوري، ويكون هناك كتاب ثوريون من نوع آخر، وأصبح الكاريكاتير يثير الابتسام والسخرية، وصنع علامات بصرية، حينما تشاهدينها ستدركين أن طائفة مقصودة بها، العسكر، الإخوان، السلفيين، وهذا جزء من الابتكارات المصرية، مع العلم أن الثورة حينما تكون أصيلة، تطبع نفسها بطابع ثقافتها، وجزء من هذه الثقافة النكتة. محمد شعير: هل الخيال كان تالياً للثورة أم مهّد لها؟! دعوني أضرب مثالاً بما كان يجري قبل الثورة وأعتبره مؤشرات لانفجارة الخيال ومنه ما فعلته حركة "كفاية"، التي أطلقت مبادرة "اكنسوا عليهم السيدة". هناك أيضاً أفلاماً تعد إرهاصات، رغم الاعتراف بأنها ربما تكون متوسطة فنياً مثل "رامي الاعتصامي"، وأفلام يمكن أن نختلف معها وحولها مثل أعمال خالد يوسف. هناك أيضاً روايات حينما تعيد قراءتها تكتشف أن بها خيالاً وغضباً يكفيان لتفجير ثورة، كما أن الألتراس لم تكن ظاهرة جديدة، وهم يغنون منذ ست سنوات في المدرجات ضد الديكتاتور، مرة أخري.. هل الخيال كان تالياً للثورة أم مهد لها؟! علاء خالد: الثورة فعل جمعي. هذا هو المتغير، خلق جمعية جديدة، الرجل الذي تحدث عنه الدكتور بدوي، وكان يحمل لافتة الأصابع، هل كان يوجه كلامه إلي السلطة أم إلي الناس من حوله؟! في رأيي أنه يوجهه للناس من حوله، فقد أصبح هناك رابط جديد بين الشعب. كانت الروابط كلها مكسورة، ثم نشأت وأصبح الخيال أداة اتصال، علي العكس من أيام عبد الناصر والسادات، فقد كانت وقتها مواجهة للسلطة، كانت مواجهة أحادية، أما الخيال داخل الميدان فأصبح حوارياً، أصبحت العلاقة تشكل حواراً بين فرد ومجموعة، أريد أن أبهجك بإبداعي، وعليك أنت أيضاً فعل المثل.. محمد خان: أصبح استعراضاً علاء خالد: بالفعل.. استعراض. روح الجماعية فجرت شيئاً جديداً. محمد خان: الخيال، في وجهة نظري، يتوقف ويعود. خيال الثورة من أول قنبلة مسيلة للدموع تحول إلي واقع، مع الرصاص أصبح واقعاً، وأيضاً مع السيارات والمدرعات التي تدهس الناس، وحينما تهدأ الأمور قليلاً يعود الخيال، وهناك فارق بين الذكاء والخيال. دعونا لا نخلط الأمور. كيف تتعامل مع العدو هو ذكاء محض. لا أريد أن نُعطي الخيال أكبر من حجمه. محمد بدوي: لا يمكن أن يكون هناك خيال من دون ذكاء محمد خان ضاحكاً: هناك غباء فيه خيال!! محمد بدوي: ولكن هذا حسب تعريفك للذكاء! محمد خان بضحكة أكبر: وهذا حسب تعريفك للغباء!! خيال الجنرالات جليلة القاضي: الثورة أثبتت أن المصريين يمتلكون خيالاً غير معقول. يمكن أن أسميه خيالاً مجنوناً. وهناك أيضاً الخيال الخبيث، ويتمثل فيما قام به المجلس العسكري، الذي يمد في الفترة الانتقالية. بتطويل الانتخابات وخلق الصراعات علي مناقشة الدستور. إنه الخيال الذي يدير الثورة المضادة. محمد شعير: هذا ليس خيالاً، لأن كتاب الديكتاتور واحد، لو قرأتي "كفاحي" لهتلر... جليلة القاضي مقاطعة: أنا أتحدث عن انتخابات مجلس شعب، تتم علي ثلاث مراحل، وأيضاً مجلس شوري تتم علي ثلاث مراحل. محمد بدوي: هذا ليس له علاقة بالخيال، وإنما بالأخلاق، بودلير يتحدث عن شعرية الشر... جليلة القاضي: مقاطعة: الشر يحتاج إلي خيال بدوره! محمد بدوي: حتي لو صح أن مجمل المرحلة الانتقالية التي عملها المجلس العسكري، فيها قدر من الخيال، فإنه دائماً خيال، كما يشير شعير، تم اكتشافه من قبل، ودعوني أسأل: كيف تُصنع الثورات؟! الثورات دائماً تفاجئ أعداءها بأمور لا يتوقعونها، علي سبيل المثال يحدث استعراض جسدي في الميادين، ما يكسر توقعنا عن الفعل، أنبهر تماماً بما يحدث كأني أقف أمام لوحة رائعة، أو أقرأ قصيدة استطاع صاحبها أن يقبض علي شيء بعيد جداً لكنه حقيقي جداً، فأبتهج. البهجة التي يسببها لنا الخيال دائماً حتي لو كان يدور حول الشر أنه يكسر توقعنا، يجعلنا نعيش... علاء خالد: نحن من؟! محمد بدوي: الذين نتلقي هذا الفعل الخيالي... علاء خالد: ألسنا مشاركين في تلك الثورة؟! عبلة الرويني: أتصور أن استمرار النظام سببه أن هناك طريقة تقليدية في التفكير، هناك سلطة بخطابها وبياناتها ومؤسساتها، لا تليق أن تتعامل مع جماعات لها رؤية جديدة وخاصة وخيالية، هناك صدام حاد بين الخيالين القديم والجديد. محمد شعير: في اعتقادي أن السلطة لا تملك خيالاً، وانظروا إلي الفارق بين مظاهرات العباسية وميدان التحرير. في الأولي تأتي الكراتين المعبأة بالأعلام، والشعارات، واللافتات، ويتم توزيعها، وفي الثانية يُترك كل شخص ليرتجل، وليقول ما بدا له، ويبتكر أو يُبدع شعاره الخاص، ولافتته التي يمكن أن يصنعها من ثوب قديم. إذن السلطة لا تملك خيالاً فعلاً، ولهذا تعتمد علي الكراتين المجهزة، في مقابل خيال التحرير. جليلة القاضي: أريد العودة إلي السخرية مجدداً. قبل الثورة كانت هناك مدة تقترب من السنوات الخمس اختفت خلالها النكتة تماماً، كنا نردد النكت القديمة، كانت هناك نكت جنسية واختفت السياسية تقريباً، ولكنها مع الثورة أخذت شكلاً آخر، أصبحت في هيئة مقولة، علي طريقة "ستاتيوس فيسبوك". انفجرت النكتة لدرجة أن b b c سمتها "الثورة الضاحكة"، وما يجري قريب الشبه بما كان يجري في فرنسا، حيث الأعلام، والأغاني التي يتم تحويرها لانتقاد السلطة والسخرية من الحكام، المظاهرة أقرب إلي كرنفال حقيقي، الفرنسيون حسهم الساخر أيضاً عال. عادل السيوي: نحن نتحدث أحياناً عن أمور تحدث، ونلصق بها كلمة خيال، نحن نريد أن نتحدث عن الخيال فعلاً، لا نريد أن نتحدث عن ماذا حدث لنا كمصريين، الرجل حتي يأخذ شرعية لا بد أن يعرف كيف يأمر بالحق. وإلا يصبح مغتصباً، هناك تجارب سياسية حدثت كسر السياسيون فيها القواعد، مثلاً محمود طلاق في الهند، الرجل الذي حكم كلكتا لمدة طويلة، "طيّر شعب" (يضحك)، طلاق قال بشكل واضح: "هذا الشعب لا يعجبني وأنا أريد تغييره"، وغيّره فعلاً. لقد ذهب ابن بطوطة إلي الهند في الزمن الذي كانت فيه كلكتا خاوية. المعادلة تقول حجم التفويض وحجم الشرعية وحجم القوة ، ولكن طلاق غيّر المعادلة بالكامل. محمد خان ضاحكاً: أنت تعمل علي إخافتنا الآن! عادل السيوي: لقد أجهز علي شعبه بالحسني. اشتري كل البيوت، باستثناء بيوت أربعة أعيان رفضوا البيع، إنه نموذج لخيال أوصل الاستبداد إلي درجة الخروج من المعادلات المنطقية تماماً، النموذج الثاني فيلم "الفاشية الصغيرة"، الذي يصور التفويض المطلق للحاكم بحيث يفعل كل ما يريده، لا تتردد. لماذا التردد؟! أنت تملك الحق في التنفيذ. لقد أحضروا أشخاصاً ونكلوا بهم لمجرد أنهم يملكون الحق في الأمر بلا منازع. والنموذج الثالث الجنرال الأمريكي الذي أقام جمهورية في فيتنام، الذي عمل عنه كوبولا فيلماً، إنه إله صغير في مملكة صغيرة... محمد خان: مثل بوذا.. عادل السيوي: بالضبط، لقد كان يملك حق تقرير مصير أي شخص، تلك نماذج لخيال استبداد مفارق فعلاً. لعبة السياسة هنا ليست مدي عدلك. لا.. ذلك شيء آخر، ومعادلة أخري. كانتي عمل كتاب "الجماهير والسلطة"، ضرب نماذج مذهلة للاستبداد منها نموذج طُلاق. السينما والثورة محمد خان: هل هناك شخص يولد بدون خيال؟! علاء خالد: أستاذ خان ، أفلامك في الفترة الأخيرة تدور عن الهامشية.. محمد خان ضاحكاً: لن نتحدث عن أفلامي! علاء خالد: أتحدث عن الخيال الجديد في أفلامك، مثل "في شقة مصر الجديدة"، الخيال الذي يصنع نوعاً من العلاقة أو قصة الحب، تلك العلاقة التي كانت غائبة تماماً لفترة طويلة، ارتباطاً بالثورة هل يمكن أن تعود قصص الحب إلي السينما مجدداً؟! محمد خان: بدون شك، ولكنها موجودة لم تختف! علاء خالد: كانت بعيدة قليلاً.. كان الخيال طبقياً قليلاً، يهتم بفئات معينة من الناس، بعلاقات مجهضة. محمد خان: التحدي بالنسبي لي كان عمل فيلم لا يقول فيه شخص لآخر "بحبك" تماماً.. هل تقصد أن الحب خيال؟! علاء خالد: أعتقد أن الثورة ستغير علاقة الحب بين الولد والبنت. لقد بدأنا نري نموذج الولد الثوري بعدما كان الولد "الروش". محمد شعير: مثل "في بيتنا رجل". علاء خالد ضاحكاً: مع الاختلاف. المجتمع بدأ يستقبل الحلم. عبلة الرويني: ولكن الحلم ليس كتالوجاً، وليس شرطاً أن نفعل هذا أو ألا نفعله. (توجه كلامها إلي خان) ومعني كلام علاء أن فيلمك القادم سيكون فيه هذا الخيال الثوري. هل ستفعل هذا. هل ستناقش الثورة والميدان؟! محمد خان: لا. إطلاقاً. أنا أرفض عمل فيلم عن الثورة لأنها لا تزال في الشوارع والميادين، ولو أن هناك فكرة نعمل عليها، غير أنها ستكون في المستقبل البعيد. أكثر أمر منصف في السينما للثورة حالياً هو الفيلم التسجيلي. علاء خالد: الفكرة الطبقية. كل واحد في مكانه، ألن تبدأ الثورة في تغييرها، بحيث يصبح هناك طموح لدي الأطراف المختلفة في الارتباط ببعضهما البعض، ألن يحدث حلم مشترك؟! محمد خان: في الحقيقة نحن إزاء ثورتين. عشتهما، وحتي قبلهما رأيت الملك فاروق، أنا أحب أن يربط الشخص بين الثورتين. إنهما يتشابهان فيما قامتا به "ارفع رأسك يا مصري"، أن تربط بينهما فهذا هو الخيال. ألم يكن عبد الناصر يملك خيالاً؟! عبلة الرويني: نعم محمد خان: والسادات؟! محمد شعير ساخراً: لا!! محمد بدوي: أعتقد أن بعض الحركات السلفية تمتلك خيالاً لكنه نكوصي جداً. يريد أن يعيد تشكيل المجتمع مرة أخري. عبلة الرويني مقاطعة: نريد أن نتحدث عن الخيال الإيجابي (المُبدع). محمد بدوي: دعيني أشرح فكرتي. الخيال ليست فكرة خاصة بالأشخاص المحبين للبشر.. محمد خان ساخراً: إنما هي فكرة خاصة بنا نحن فقط! (يضحك الجميع) محمد بدوي: الديكتاتور طلاق الذي أشار إليه السيوي، أو أي ديكتاتور يملك خيالاً، ولكنه خيال يدخل في حافة الجنون. عبلة الرويني: هناك كاليجولا محمد شعير: ونيرون محمد بدوي: وعبقرية معمر القذافي. (يصمت ويضيف) السلفيون لديهم عهد ذهبي متوهم، في مرحلة ماضية من الزمن، يريدون تشكيل المجتمع علي أساسه. الاستعارة الميتة هي التي تفقد قدرتها علي الإدهاش، مثل مقولة البنت كالقمر. أتذكر هنا الخيال الذي قام به مدبرو موقعة الجمل. إنه خيال قديم جداً جداً، وبدائي. بعد المفاجأة التي لم تستغرق عشر دقائق اشتغل خيال الموجودين واستطاعوا صد الهجوم. محمد خان: إنه رد فعل! محمد بدوي: وخيال.. مثل خيال رأس الحربة في برشلونة الذي يتحرك ويطوع جسد لالتقاط كرة ساقطة، ويتصرف بسرعة شديدة. يباغتنا جميعاً محرزاً هدفاً. فعل مفاجئ. محمد خان: يعني أنا لو "فرملت" سيارتي حتي لا أصدم شخصاً.. هل هذا خيال؟! محمد بدوي: لا هذا فعل يومي. محمد خان: ليس فعلاً يومياً. إنه رد فعل أتوماتيكي. لماذا أصبح اللاعب الذي تتحدث عنه رأس حربة؟! لأنه يعرف كيفية التصرف في المنطقة الأمامية. عبلة الرويني: كسر التوقع كان علي مستوي طريقة التفكير، والفعل الحياتي.. هل كان هذا علي مستوي المبدعين؟! هل الإبداع استطاع أن يكسر التوقع. دعوني أذكركم بمقولة الأستاذ محمد خان الذي قال إن السينما لن تستطيع فعل هذا في الوقت الراهن. أريد أن أستمع إلي آرائكم حول خيال المبدعين. عظمة الجرافيتي عادل السيوي: يمكن أن أرد من خلال مجالي. أعتقد أن فناني الجرافيتي المصريين متميزون جداً. لديهم درجة عالية من المهارة التقنية، والتنظيم الجماعي، وكسر التراتبية، وقدرة علي تأمين المكان والدفاع عنه. هناك درجة كبيرة من الإعجاب الخاص بهم. كايزر وجنزير وكل المجموعة. استطاعوا أن يقفزوا علي التعبير المباشر. مثل يسقط العسكر أو الشتائم. لا. لقد ابتكروا أشياء في غاية الجمال. منها مثلاً المجموعة الخاصة ب"أصلي"، حيث يختار نماذج من الشعب المصري ويضع تحتها كلمة أصلي، مثل عبد الفتاح القصري، وستيفان روستي، وأحمد زكي. تلك رسالة مركبة جداً، ومؤداة بشكل بسيط للغاية. رغم خشونة الحوائط إلا أنك تستطيع أن تعرف جيداً ماذا رسموا وما الذي يريدون قوله. هناك أيضاً الدبابة، التي تشبه سيد قشطة بالنسبة للشعب المصري. الذي يذهب إلي حديقة الحيوان ولا يشاهد السيد قشطة يعتبر نفسه لم يذهب. إنهم يتعاملون مع الدبابة، ذلك الكيان الهائل، علي هذا الأساس، وقد استطاع فنانو الجرافيتي أن يفكوها ويسطحوها ويرسموها علي الجدار. لقد أحدثوا نقلة كبيرة في الحقيقة. أنا أري أن الأداءات اللحظية والجرافيتي، عملت نقلة كبيرة في أداءات الشباب، ولكن الأدب والسينما لم يستطيعا فعل شيء بتلك الحيوية. أتذكر جيداً ذلك الشاب الذي حول نفسه إلي عميل، للسخرية مما يتردد في التلفزيون الرسمي عن عمالة الموجودين في الميدان، من المؤكد أنه فكر جيداً قبل أن يقوم بهذا واجتهد حتي يختار ملابس وحذاء وباروكة مناسبة. وأيضاً الشاب الذي أحضر أجندات ملونة للسخرية من شيوع مصطلح الأجندات، وأنت تختار ما تريد. أجندة إيراني، أو سعودي، أو أمريكي، وأنا لديّ تجربة شخصية فشلت. حملت لافتة مكتوباً فيها "حرية"، وأمسكتها مقلوبة كرسالة، ولكن كانوا يوقفونني ويقولون لي "اعدل اليافطة". عبلة الرويني ضاحكة: لا أحد يخطئ فيما يتعلق بالحرية تحديداً. إنه ليس مشغولاً بك وإنما بالحرية. يريد أن يعدلها. محمد خان: أتذكر أيضاً "نمر" السيارات، 25 يناير. كانت خيالاً وفي نفس الوقت بيزنس. عادل السيوي: أريد أن أعود لفناني الجرافيتي. إنهم يعرفون أنهم أصحاب رسالة، وبالضرورة كفن يجب ألا تكون مباشرة.. عبلة الرويني: في رأيك لماذا الفنون البصرية تحديداً هي ما أحدث تلك النقلة؟! عادل السيوي: هناك تدريب علي الميديا، ومعرفة حقيقية بأعمال فناني الجرافيتي العالميين. إنهم علي اتصال حقيقي بفناني الجرافيتي في العالم. إنهم ماهرون، وارتباطاً بهذا أريد أن أقول إن طلبة كلية التربية الفنية، وأنا أسكن إلي جوار الكلية في الزمالك، يرسمون جرافيتي بشع جداً. منتهي الرداءة. تسيطر علي أدمغتهم تصورات وإكلشيهات بالية، ومن المستحيل أن تصل تلك الأدمغة إلي فكرة "أصلي" مثلاً، أو "التلفزيون.. 24 ساعة كذب". محمد شعير: هل يمكن مأسسة هذه الفنون بعد الاستقرار؟! محمد خان ساخراً: "هايبيضوا الحيطان"! محمد شعير: أقصد أنهم سيعرضون في قاعات.. عادل السيوي مقاطعاً: أنا أعرف فنانين منهم يعرضون كانوا قبل الثورة. أنا عرضت إلي جوار جنزير مثلاً. إنهم مدربون جيداً، و"فاهمين" جداً. علاء خالد: انتشارهم جاء من فكرة أن الشارع آمن. كان هناك أشخاص قبلهم، بعضهم في الإسكندرية، تشعر أنهم مثل أشخاص يسرقون ثم يهربون بسرعة. تشعر أنهم مطاردون. حالياً هم آمنون، وأتخيل أن الفكرة الآن أن يكون الشارع هو مكان العرض. عادل السيوي: رسالتهم الدائمة في تقديري أن الشارع ملكنا، وأننا لسنا متطفلين عليه. ليس من حق عسكري أن يقول لنا: امشوا. محمد بدوي: حينما تعود بالذكرة قليلاً قبل الثورة ستجد أن هناك إرهاصات لتلك الفكرة. فكرة احتلال الشارع. تذكر المجموعات التي كانت تنزل إلي الشارع بالملابس السوداء في الإسكندرية يوم استشهاد خالد سعيد. محمد شعير: تاون هاوس أقام معرضاً للجرافيتي وكان من ضمن الفنانين من كتب "الجرافيتي ده فن الشارع وده مش شارع يا أولاد الوسخة". جملة ضد المعرض نفسه. هل سيتم استيعاب الجرافيتي بعد هدوء الزخم الثوري؟! محمد بدوي: في رأيي أنه لو دخل في المؤسسية سيفقد زخمه الثوري. قيمته في ارتباطه بلحظة، وتجاوزه الخطاب المباشر الواضح إلي خطاب استعاري. جليلة القاضي: ما جري أثناء يناير وما بعدها جعل المعماريين يخرجون من شرنقتهم. إنهم مجموعة رجعية في فكرها، ورجعية لأن السلطة زبونها الأول. الشغل "التقيل" يأتي منها لا من الزبائن العاديين. لم يكونوا علي استعداد للدخول في مواجهة مع تلك السلطة، وبالطبع لم يتمخضوا عن إبداع كبير، ولكنهم علي الأقل فكروا قليلاً، وبدأوا يتحركون بشكل ما، وأنشأوا صفحتين علي "فيسبوك"، وأعلنوا عن مسابقة عن ميدان التحرير، لإعادة تخطيطه، كما فكروا في بناء نصب تذكاري، ثم تحول تفكيرهم ليشمل ميادين مصر كافة، إنهم يرصدون العلاقة بين الناس والميدان. وكيف، وفقاً لتلك العلاقة، يتمدد الميدان أو يتقلص؟! ظهر أيضاً شيء يشبه الخيال العلمي، غير أنه قابل للدراسة، فمثلاً أيام الحر القائظ، حينما كان الثوار ينزلون إلي الميدان، وتحديداً في يوليو، بدأ المعامريون في التفكير في طريقة لتجنيبهم عذاب الطقس، واقترحوا تصمصم خيمة ضخمة مكيفة علي غرار تجارب شبيهة في دبي وقطر، أو ابتكار "جواكت" يمكن تكييفها بالطاقة الشمسية. كان هناك نوع من الإبداع، ولكنه ليس صارخاً، غير أنه علي العموم يوضح كيفية تفاعل شريحة معينة بعد الثورة. عبلة الرويني: لماذ كان التشكيليون الأكثر استجابة للمتغيرات؟! عادل السيوي: الموسيقيون أيضاً عملوا "شغل" جيد، ولكن ليس بنفس الحضور المؤثر للتشكيليين! عبلة الرويني: لماذا لم يحدث ذلك من الأدباء؟! محمد بدوي: كان هناك أدباً ولكنه يلجأ إلي المتاح والدارج، هناك شعراء يقلدون نزار قباني، والأبنودي، ولكن محاولات التعبير ستحتاج إلي زمن، حتي بالنسبة للتشكيليين. محمد خان: السينما تحتاج إلي أمور أخري. محمد بدوي: الثورة لا تزال في الميدان كرة ملتهبة. لا أحد يعلم إلي أين تتجه؟ ولا أحد يجرؤ حتي علي محاولة الإحاطة بها فكرياً، ولذلك كل المحاولات مشوبة بالحذر. عادل السيوي: الإبداع والثورة ليس موضوعنا. إننا أمام خيال جديد في مواجهة محاولات القضاء عليه وإخصائه. سؤالنا أين الخيال السياسي الذي سينظم تلك الطاقة في مشروع سياسي؟ ليس هو البرلمان أو متي نخلص من المجلس العسكري؟ لقد أبهرت الثورة العالم لأنه منذ حركة 68 لا يوجد فعل سياسي معاصر حدث. العالم رأي ثورتك فعلاً سياساً معاصراً لأنه سلمي. بلا أيديولوجيا سهلة التصنيف، بلا قيادات، بلا مؤسسات. مرة أخري أين الخيال السياسي الذي سينقذ ذلك الفعل المعاصر؟! أنا في تلك الحال مع التطرف، ليس بالمعني السلبي، ولكن بمعني ذهابك إلي أبعد درجة في الحلم. هناك صوت عاقل وهو مثلاً لمن ينادون بالانتظار حتي إصلاح الدستور، وهناك صوت يهدد بكسرك، يحدثك دائماً عن الضياع الذي ينتظر البلد، حتي يشل تفكيرك، وهناك من يقول لك: خذ المتاح، واسكت، مثلما يساوم المجلس العسكري بعض الجماعات علي بضعة مقاعد في البرلمان، أما الصوت الذي يريد الذهاب إلي أبعد مدي فضعف، هؤلاء هم من كانوا ينادون بمصر جديدة، بعيداً عن كل ما ينادي به أصحاب الأصوات الأخري. أنا أري أن أحمد زويل مثلاً نموذج لهذا التطرف، بحديثه عن إمكانية إقامة جامعة علمية وسط كل هذا التخلف. الشباب الذين نظفوا الميدان، ودهنوا الأرصفة أيضاً كان لديهم نوع من الجنون، لأنهم حركوا الأمور خارج الأطر الضيقة. إنني أتحدث عن صوت ربما يبدو غير منطقي حالياً، ولكنه مهم جداً. هذا هو الخيال. علاء خالد: ما قاله السيوي مهم جداً، لأن الثورة جاءت في لحظة موت سياسي بالنسبة للعالم كله. وهذا في حد ذاته معجزة. حينما حدثت الثورة الفرنسية كان وراءها سارتر، فوكو، كانت هناك أرضية قادرة علي التنظيم، في مواجهة السلطة، وهكذا كان هناك أشخاص يستلمون ويتحركون، أما الطاقة الوحيدة لديك فكانت طاقة غضب. المفترض أن هناك شيئاً جيداً يحدث، وهو أن الثورة تعلم الناس خلال الفترة القادمة. كأن هناك شيئاً يمكن تخليقه من اللحظة التي كانت ميتة. عبلة الرويني: المفروض أن نواجه الأشكال التقليدية الحريصة علي استمرار السائد. إنها تحتاج إلي خيال حقيقي. لا نريد فعلاً التفكير بطريقة الدولة القديمة، والمؤسسات القديمة، والأحزاب القديمة، وبنفس طريقة العمل التقليدي، وتقول "كفاية عليكم هذه الثورة ونحن سنقيم لكم دولة بالمقاييس القديمة". الحق في السعادة عادل السيوي ضاحكاً: حينما وضع الدستور الأمريكي بنداً عن حق المواطن الأمريكي في السعادة فهذا خيال غير عادي. المجتمعات الإنسانية تطورت جداً، بمعدلات سريعة، بينما تقف الأنظمة السياسية "محلك سر"، كان هناك وزراء في مصر يقفون أمام شباب يملكون معرفة تزيد عنهم عشرين مرة، في مجال تخصص الوزراء، نحن في أزمة ونبدو كما لو أننا نريد إحراز هدف من "تسلل". جليلة القاضي: نحن فعلاً نحتاج إلي ذلك الخيال لمواجهة الفكر الديني، وليست هذه مهمة الشباب فقط، أنا أتحدث عن المثقفين. لا بد من ابتكار خطاب جديد لمجابهة التيار السلفي. لو استمررنا بنفس الطريقة والخطاب التقليدي سنضيع! علاء خالد: في رأيي أن السينما مهمة جداً خلال الفترة القادمة. جليلة القاضي: نحتاج إلي دخول السينما إلي الأقاليم، ولا بد أن يعود مسرح الشارع مرة أخري، بحيث تستطيع أن توازن الدور الذي يقوم به الجامع! محمد خان: أنت تقترحين سينما موجهة وهذا خاطئ. جليلة القاضي: لا. أنا أتحدث عن مزيد من الانتشار. محمد بدوي: لا بد من وجود مجموعة من المثقفين، وهذه فكرة لعادل السيوي عن تجربة التشيك، منفصلة عن كل المؤسسات الموجود، مهمتها إنتاج الأفكار، ومن يريدها فليأخذها. محمد خان: هناك مشكلة الأمية التي تزيد عن 40 بالمائة وتهدد كل ما نقوله. أقترح الحصول علي رخصة للتصويت. علي الأقل يكون الشخص حاصلاً علي الابتدائية. جليلة القاضي: بل يجب أن يتضمنها الدستور! عبلة الرويني: أعود إلي الدستور الأمريكي.. هل تعتقد أن الحق في السعادة شيء يمكن أن نطالب به؟! محمد خان: عندي حقوق لا أريد أن أقولها! (يضحك) محمد شعير: السينما من أكثر الفنون تأثراً بوصول الإسلاميين إلي الحكم، باعتبار أن الفن التشكيلي والأدب لديهما طرق للهرب والالتفاف. كيف ستقاومون كسينمائيين؟! محد خان: سنهرب. (يضحك مجدداً) عبلة الرويني: هناك ممثلة سئلت: ماذا ستفعلين لو صل الإسلاميون إلي الحكم؟ فقالت إنها ستمثل شخصية من شخصيات الكفار! محمد شعير: المسؤول عن الرقابة أطلق لحيته، وتحول إلي شبه سلفي، وفي ندوة الأسبوع الماضي في أخبار الأدب قال أحد السلفيين: نحن لا نريد شيئاً سوي تنفيذ ما يقوله الأستاذ سيد خطاب! محمد خان: خطّاب يمثل سياسة حكومة، كنا ولا نزال نتحايل عليها. أنا مثلاً عملت فيلم "بنات وسط البلد"، وكنت مصراً علي أن يضم مشهد "بوسة"، وبشرط أن تكون "جامدة".. جليلة القاضة مقاطعة: لم تكن هناك بوسة! محمد خان: في التلفزيون مفيش بوسة! (يضحك) محمد شعير: أخيراً هل أنتم متفائلون؟! علاء خالد: أكيد متفائل، ولكن المواجهة انتقلت إلي عمق أكبر. تذكر: أنت حين تقرر الثورة علي نفسك فأنت تحتاج إلي زمن، وحينما يتعلق الأمر بشعب فمن المؤكد أن الأمر يحتاج إلي زمن أطول. جليلة القاضي: أنا متفائلة، وأظن أننا لن نعود إلي الوراء لأننا نملك القدرة علي الصمود. محمد بدوي: الزلزال أكبر من العودة إلي الوراء. محمد خان: الخوف انكسر. تلك حقيقة لا تقبل الجدال. عادل السيوي: لقد تخلصنا من وصاية اللصوص، وسنتخلص من وصاية العسكر. الآن المعركة مع الاستبداد الديني، وعلي أي حال هي معركة تخصنا مع بعضنا البعض!