محيط – شيرين صبحي "هناك ما لا يختلف عليه مجنون ولا عاقل، حق التراب تحت قدميك وحفنة الهواء وجرعة ماء وظلك الصغير تحت سماء لا تتكرر، ومهما كبرنا أو صغرنا، صعدنا أو نزلنا، هربنا مذعورين أم صمدنا، فإن هذا لا يزيد قلبك ولا ينقصه دَقة" .. كلمات بسيطة يقولها الكاتب العراقي خضير ميري في روايته "أيام العسل والجنون" والتي ناقشها مؤخرا ملتقي المبدعين العرب بمعرض القاهرة للكتاب بحضور الروائية سلوي بكر والناقد السيد الوكيل والدكتور شريف الجيار. صدرت الرواية عن مكتبة مدبولي في القاهرة، وتقع في 11 فصلاً مع شهادة للدكتور باهر سامي بطي الذي كان مديراً لمستشفى الأمراض العقلية في تلك الفترة ورافق خضير ميري في رحلة الجنون أو اصطناع الجنون. ويحكي الدكتور باهر في شهادته عن لحظة توحد الزمان والمكان في تلك البقعة التي تسمى الشماعية وعن أشد الأوقات التي مرت على المجانين، حيث حاصر الموت أكثر من 1500 مريض لا يدركون ماذا يحدث من حولهم. في البداية يؤكد الناقد السيد الوكيل ان الرواية تضعنا امام كتابة ذات طابع اشكالي على مستوى التصنيف واللغة التي تتشكل داخل النص، مشيرا إلى أنها تجربة خاصة وفريدة لعراقي تصادف وجوده كمعتقل سياسي في مستشفى الأمراض العقلية في العراق أثناء تعرضها للقصف العسكري الأمريكي وهذا ظرف استثنائي لا يتكرر. ويوضح أن الكتابة تطرح مفاهيم متعددة فكلمة "أيام" تشير إلى اننا أمام يوميات وكتابة تسجيلية وثائقية، و"العسل والجنون" تحمل تضادا وهو حس نراه يسري بين ثنايا العمل، مؤكدا أن الرواية تمثل تجربة لاعقلانية لطائرات عسكرية امريكية تقصف مستشفي لمرضى عقليين وهذا حدث جنوني في ذاته. وهناك تناقض آخر في الكتابة حينما فرق الكا تب بين الجنون الأبيض وهو جنون مسالم لا يؤذي أحدا ويشير له بالعسل، اما الجنون الحقيقي فهو الذي يأتي من الأمريكان الذين توحشوا واصبحوا يرتكبون الجرائم البشعة بدون اي إحساس او عقل. وأضاف الوكيل أن هناك مفهوما آخر يقرره الكاتب حينما يقول ان ما يكتبه هو تقرير لجهات متعددة هى الأممالمتحدة وأمريكا والطيار الأمريكي، اما مفهومنا نحن فهو المفهوم السردي لرواية. واشار الوكيل إلى وجود احساس لدى الكاتب دائما بانهيار العقل من خلال الجنون الابيض والجنون الامريكي المتوحش عسكريا. موضحا أنها كتابة تهدم الحدود الفاصلة بين الشكل والمضمون فهى تستخدم لغة منسية ما داخل تكوين الذات من خلال الهواجس والقلق "هي لغة الهواجس وأساطير الذات الداخلية" وهي لغة تتجاوز الاصطلاح إلى لغة الحياة اليومية. ويرى أن القسم الثاني من الرواية يحيلنا إلى طابع سردي خاص به، فكل قصة او جزء منها تجسد جزءا من الجنون تؤكد وتشير إلى الجنون الكلي، خاصة مشهد قصف ثلاجة الموتى وتعفن الجثث فهو مشهد كئيب وغاية في البشاعة لا يمكن ان ينسى . الميري وتعلق الكاتبة سلوى بكر إن العمل يثير المخاوف حين الاقتراب منه لأنه عمل ملتبس على مستوى الكتابة وهو يثير مجموعة من الاشكاليات اولها طبيعة بنيته هل هو رواية فعلا ام انه مشهد او مفتتح روائي يظن القارىء معه انه سيدخل عالم ومعمار روائي متماسك له بنيه واضحة ولكن القارىء يكتشف ان هذا العمل يستكمل بنص اقرب إلي الوثائقية منه إلي الروائية هو يصلح لأن يكون منشورا صحفيا، إذن يحدث لقارىء النص نوعا من الارتباك الذي يزداد عندما نصل إلي القسم الاخير حيث جملة من القصص القصيرة متماسكة البناء كل قصة تبدو وكأنها منفصلة عن القصة الأخري وعالم كل قصة هو عالم مستقل وقائم بذاته اذن هذا الارباك الذي يحدث للقارىء هو ارباك اذا لم ينتبه إلي بواعثه فربما تكون هناك عثرات في قراءة النص. الانتباه إلي ان العمل بالاساس عن الجنون ومن الجنون هو عمل بهذا المعني يكون ناسف لكل بنية منطقية ومتعارف عليها هو عمل عمل يقول للقارىء ويدفعه للتعامل معه بقوانيه ومعطياته الخاصة. وتضيف أن الكاتب احسن صنعا عندما عنون العمل ب "كتابة كارثية" فهي كتابه تفوق وتتجاوز المعتاد من الكتابة الروائية. هناك جملة من الشخصيات نلمح جوانب من عوالمها عندما تخرج عن النص المنطقي المرتسم لها في الحياة عندما يصبح الجنون المقدم عبر هذه الشخصيات هو المنطق الذي علينا ان نتقبله ونتعامل معه. لغة النص هي لغة الجنون، يتخلق قاموس من الجنون الخاص به الذي يستند الي لغه خارجة عن انساق لغوية متعارف عليها. يقول ميري عن تجربته بمستشفي للأمراض العقلية "تجربتي الخاصة التي ادعيتها في زمن النظام السابق دفاعا عن حياتي ووجدتها بعد ذلك تجربة مثيرة كتبت عنها وساعدتني على الانتشار والترويج (وما زلت اعتاش عليها) فانا الان اعمل على اصدار المجلد الاول " تاريخ الجنون في العقل العربي " الذي اثبت من خلاله ان العقل العربي كان اقرب الى الجنون بدءا من جنون الاشياء وانتهاء بالحكام العرب الذين كانوا يملكون خمسة الاف جارية ويسفكون الدماء في الليل مع شرب النبيذ". والكاتب خضير ميري يعيش بالقاهرة ويقول عن هجرته من العراق: "لقد ارتكبت كل حماقاتي بهذا البلد واعطيت فرصة للاخرين كي ينالوا مني لا لشىء فقط لاعطي قيمة للثقافة العراقية، وها انذا اعلن خروجي وهجرتي من العراق لابحث عن صحراء تليق بامنيتي بعد ان بدأت لغة لا افهمها، فلأول مرة احس ان العراق بدأ يضيع وانا لا املك الا ضلوعي واحلامي وحذائي الذي يسيرني حيث يشاء الجنون، اعلن مغادرتي من العراق الذي اصبح من حق من يعرف اللعبة وليس من هو ضحيتها". يقول خضير عن مشاعر المجنون في تلك اللحظات "إنه لا يعرف للموت معنى، إلا أن هذا لا يعني بأن المجنون لا يستشعر الخطر أو لا يؤدي رد فعل إزاءه ، وهكذا يأتي الموت معبأً في صاروخ، موت لا مزحة فيه، موت لا معقول، إذ ماذا بإمكان مجنون ذهب عقله أن يفعل إزاء عقل طيار أميركي يعرف ماذا يفعل؟".