لعل المكتبة العربية الآن فى حاجة ملحة لأن تزخر بالعديد من الكتابات التى ترصد الظواهر العالمية المستحدثة والمتوالية بين لحظة وأخرى. ويأتى كتاب (قصة الفكر التائه وكارثة ما بعد الحقيقة). الصادر عن دار الحضارة العربية للدكتور محمد حسين أبو العلا الكاتب وأستاذ علم الاجتماع السياسى ممثلا لصرخة فكرية فى وجه ظاهرة ما بعد الحقيقة أو اللاحقيقة تلك التى شاعت وطوقت جنبات المحيط الكونى وباتت أخطر كثيرا من التهديد النووى ومن ويلات الحروب، لأنها حرب فى ذاتها. ويترجم الكتاب مضمون هذه الظاهرة فى كون الإنسان المعاصر قد أصبح يعتمد كليا فى تشكيل آرائه وقناعاته ومواقفه على العواطف والمشاعر والأهواء والنوازع، من ثم فقد أصبحت الأكاذيب والأوهام ذات سلطة عليا بحيث زحزحت الحقائق الموضوعية على صعيد السياسة والثقافة والاجتماع والأديان والفنون، وقد انبثق عن ذلك شيوع معانى الخلط والالتباس والبلبلة والمغالطة والتشويش الرامية إلى تدمير الذاكرة الإنسانية وتشتتها. ويؤكد المؤلف أن هذه الظاهرة إنما تجسد المأزق المعرفى المعاصر الذى نعايش خلاله تجليات حضارية رائدة ونلهث فى الآن ذاته وراء خيبات فكرية تنطوى على أبرز نماذج الفشل التاريخى وهو ما يتفق مع مقولات الفلاسفة الغربيين فى تشخيصهم لهذه الظاهرة الشاذة باعتبارها الوجه المظلم للعقل البشرى، وليست موجة من موجات الحراك الثقافى العالمى أو إفرازا جديدا للدينامية التاريخية للمسيرة الانسانية. وتكمن فضيلة الكتاب وأهميته فى طرح العديد من التساؤلات التى تعمل على تفتيت أبعاد القضية ذلك على غرار: ما طبيعة العلاقة بين شيوع الخطاب التجهيلى المسمى ما بعد الحقيقة والممارسات الدءوبة نحو توصيف ذلك الخطاب سياسيا وإستراتيجيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا؟ وهل يمكن توصيف تلك الممارسات بالابتزاز الذهنى والاستخفاف المعرفى والتتويه الذاتى بصفة عامة؟ وهل يمثل تشويه الإدراك العام نوعا من الإكراه المعنوى والقيمى؟ وهل تصبح اللا حقيقة نمطا فكريا يراد تعميمه؟ وإذا كانت المعرفة والحقيقة موردا إستراتيجيا كما يقول «دانيال بل» فكيف يصبح التجهيل موردا إستراتيجيا؟ وأيضا إذا كان شيوع مفهوم ما بعد الحقيقة يعد أثرا سلبيا للثورة المعلوماتية، فهل يترك هذا الأثر هائما وتهدر قيمته بالنسبة للأنظمة التسلطية؟ وهل يراد من ذلك افتعال أزمة جديدة للنزعة الإنسانية الخالصة التى حصدت ويلات عدة؟ من هنا فقد قدم المؤلف آلية للتوجه الفاعل مع تلك الظاهرة كانت هى قبسات مما أسماه الفكر التائه او ما جادت به قرائح العلماء والفلاسفة باعتباره فكرا غير منتم لعصر ما، لكنه فى صيرورة دائمة مع الأزمنة والأمكنة، فهو الفكر الذى يسترشد به ليدرأ عنا بعضا من فظاعة الوضع الإنسانى المعاصر، هو الفكر الذى يعيد للحقيقة وضعيتها التاريخية بل الأبدية ويردنا إلى إنسانيتنا حين يتمدد فى رحاب قدسية العقل داعما وجود قواسم وجدانية وفكرية مشتركة تحكم سطوة اللاتجانس وتمنح اللامفكر فيه أو به فرصة استحداث صكوك الاعتدالية المفقودة.