لما كانت فكرة الحروب تتولد فى عقول البشر، ففى عقولهم أيضا يجب أن تبنى حصون السلام.. ذلك هو الشعار المقدس الذى رفعته منظمة اليونسكو منذ سبعة عقود، وهو يمثل فى ذاته الطموح الثقافى والمعرفى الأمثل للحضارة المعاصرة، لكن أين هذه الحضارة من معانى السلام والعدالة والإخاء والحرية والقيمة الإنسانية الرفيعة ؟، بل أين هذه الحضارة من المبادئ الأخلاقية القويمة وقد انحرف مسارها نحو دوائر الخطر الداهم المهدد لجميع شعوب الأرض، وهو ما أكدته من قبل مقولة «روجيه جارودى» من أن الحضارة الغربية قد حفرت للإنسانية قبرها!! من ثم فالعالم اليوم يعد فى مسيس الحاجة لدور حيوى رائد تنهض به تلك المنظمة تكريسا لسيادة روح الثقافة وتواصل جسور الحوار الإبداعى وإطلاق الطاقة الفكرية الخلاقة المحققة لنوع من التوازن بين متناقضات صارخة باتت تحدق بالبشر عقلا ووجدانا أينما كانوا. ولعل مصر الآن تعد مهيأة أكثر كثيرا عن ذى قبل من أن تتبوأ مكانها الريادي، متصدرة رأس السلطة فى أكبر مؤسسة ثقافية فى العالم، ذلك بعد كل المخاضات الثورية التى عايشتها طيلة السنوات الماضية، وصارت حديث العالم بعد أن سجلت بتلك المخاضات بصمات سياسية واستراتيجية تتسق مع ومضات من تاريخها، ذلك بجانب وضعيتها المتألقة إثر محاولات الانفلات من تقويض كينونتها. إن تكنيك إدارة الصراع إنما يستوجب على مصر الاحتشاد الكلى والتعبئة الفاعلة نحو دراسة نقائص التجربة الماضية وأوجه قصورها وتلافى ثغراتها والإحاطة الدقيقة بمعطيات اللحظة المعاصرة، واستكشاف طبيعة الخصم المنافس والوقوف على إمكانات الجبهات التى تؤازره، والاعتصام بجبهات مضادة يكون لها من القوة والتأثير والدافعية ما تصبح به ممثلة لتيار يحقق لمصر غياتها ومآربها, انطلاقا من أن معركة الصعود لليونسكو هى معركة سياسية فى المقام الأول، ومن ثم تكون الغلبة فيها لمن يصل إلى آليات ومفردات معادلة التفوق والامتياز. إن مصر وليس غيرها هى الدولة التى يناط بها صياغة رؤية مستقبلية متكاملة للثقافة الإنسانية وبلورة أبعادها فى برامج واستراتيجيات وخطط تتبنى خلالها فكرا خاصا تتعلق ركائزه على مقاومة واستئصال مفهوم إرهاب الثقافة، ذلك الذى يتمثل من قبل ولا يزال فى الاعتداء على الخصوصيات الحضارية لبعض الدول وطمس هوياتها، إضافة إلى مسئولية أخرى شديدة الوطأة وهى التصدى لشيوع ثقافة الإرهاب والوقوف على مدى تغلغلها فى أصلاب المجتمع الدولي. ومحاربة القناعات الفكرية المستقرة فى خلايا الذهنيات الشبابية المنتمية للتنظيمات المنشقة على الطابع الإنسانى. إن عالمنا اليوم رغم ما يعايشه من تأزمات سياسية واستراتيجية واقتصادية إلا أن علته الفعلية إنما تتمثل فى تأزماته الفكرية المستحكمة والتى تتطلب ديناميات خاصة فى إشاعة مفاهيم التعددية وترسخها والتماس التعايش الثقافى كمطلب إنسانى رفيع، والتفاهم الحميم بشأن الصراعات الثقافية التى تجاوزت حدتها عمق التآمر السياسي. ولعل التساؤلات الموضوعية التى طرحها الفيلسوف الاجتماعى المعاصر ادييتر سنغاسب فى تقييم الوضع الثقافى الدولى تعد من أهم التساؤلات المستوجبة للطرح والتى كان من أهمها : كيف تتأقلم المجتمعات المعاصرة مع التعددية كمفهوم وممارسة ؟ وهل يمكن أن يكون التسامح حلا ناجعا يفض الاشتباكات حاضرا ومستقبلا؟ وما هو الدور المحورى للثقافة فى الصراعات الراهنة الموصفة بأنها وليدة تلك الثقافات ؟ وهل ستغوص السياسات العالمية الآنية فى محيط الصراعات الثقافية أم أن هذه الصراعات هى التى ستوجه تلك السياسات ؟ إن معترك اليونيسكو إنما يحتم على مصر استحضار هيبتها التاريخية التى ستمنحها حضورا قويا فى المحفل الدولى، وكذلك يمكن أن يساعدها على طى تلك الصفحات القاتمة فى المشهد الثقافى والتى خيمت أخيراً وتجسدت فى الإطاحة بالشيء الكثير من كنوز التراث الإنساني، ليكن هذا التراث هو الأمانة التاريخية فى عنق مصر حفاظا وحماية وتقديرا وقيمة, ولينطلق دور مصر إلى تحصين الحقائق التاريخية والجغرافية والثقافية من محاولات التدليس والتشويه والإبادة كتلك التى حدثت مع العالم المصرى امانيتوب الأب الفعلى للتاريخ الفرعوني، حين نسب هذا اللقب للإغريقى «هيرودوت» بينما «مانيتو» يعد أهم كاتب تاريخ عرفته البشرية، بل إن جميع علماء المصريات فى العالم مازالوا يعتمدون وحتى الآن على التقسيم التاريخى له رغم مرور اثنين وعشرين قرناً على مؤلفه ااجيبتياكاب. إن ترشيح السفيرة مشيرة خطاب وهى شخصية جديرة بكل العرفان والتقدير إنما يمثل فرصة نادرة لابد أن تسطر بها تاريخا جديدا لليونسكو وليس مرحلة من التاريخ. لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبو العلا