هكذا ظلت الأديان.. مكمن الأسرار العلوية وبؤرة اليقين الأبدي والحقيقة الهاربة من عقول البشر والمستأثرة بأغوار الحكمة والمتصدرة مسيرة الإبهار المعرفي. من ثم فالأديان وعلي إختلافها قد مثلت لدي الإنسان منذ وجد علي الأرض إشكالية ذهنية وروحية كبري لم يستطع وحتي الآن وما بعد الآن الإنفلات من أسرها, ذلك أنها قد أتحفته بعواصف الحيرة والدهشة والتفكر, تلك التي ظلت لصيقة به بل باتت تعمل في كيانه وتتحسس روحه ووجدانه وتزجر عقله وتحتويه أيضا!! ولعل أكبر طاقة خلافية علي الأرض كان مصدرها الأديان ليس لقصور فيها بل لطبيعة فاعلية العقل معها خلال آلياته القائمة علي الإدراك والتحليل والتعليل والسببية والإستقصاء والتناقض, فعقول قد فتنتها الأديان وأخري لفظتها وإعتمدتها كأساطير وخزعبلات, لكن هل تساوي جمهور هذا وأشياع ذاك أم أن الفارق كان هائلا حاسما دالا؟ وأي الفريقين قد تحول إلي خندق الآخر في المدي الزمني لعلاقة الإنسان بالعقيدة؟ وكيف أقاموا بناء المعادلة القائلة بأن الإيمان يمكن أن يكون موضوعا مباشرا للعقل بينما الأديان قد أتت بخوارق وإعجازات تقوقع العقل دون إستيعابها حتي في أشواطه التطورية؟ ولا يعد ذلك علي أي نحو تقليلا من وضعية تلك الطاقة الجبارة الكامنة في الكيان الإنساني وإنما نرمي لتأكيد أن العقل مازال أمام إستحالات كثيرة متعددة أبسطها وأهونها بقاء وإستمرارية تلك الأسئلة الوجودية الخالدة وهو ما يعني أن حركة العقل وإنطلاقاته تجاه ذلك لا تزال متجمدة لأنها لم تبلغ مصاف الجواب التاريخي الذي يسجل لها شهادة الردع الفكري. ولعل التحذيرات المتوالية للعقل ليكف عن التفكير في القضية الإيمانية ليصبح عقلا حرا كاملا متسقا إنما تنطوي علي إدانة ضمنية للعقل ذاته, إذ أنه يطرح علينا إثر طوافه وتجوله وإنهماكاته مع القضايا والإشكاليات والأفكار والمذاهب والرؤي والنظريات فكرة أن الأجسام المتغيرة لا تخلق نفسها كما إنه لا يخلق حقائقها بل غايته أن يفهمها, من ثم كيف له أن يجانب الإيمان وينشد الكمال إلا لو كان ذلك محاولة بريئة لقمع الذات, وإذا كانت الأديان إنما قد جاءت لتحجم غرور الإنسان وتقلص سطوته لتدفعه نحو التفكير في قوة عليا تحرك الوجود وتستأثر بالخوافي والمجهولات, فأين يكون موقع الإستعلاء والترفع والخيلاء داخل هذا العقل وقد غابت بعض من مفردات القضية؟ وإذا كان للعقل أن يؤمن بذاته إيمانا مطلقا في ظل ممارساته العاتية في إقتحام الأشياء والظواهر فلماذا ظلت الطلسمات العديدة تمثل تحديا كبيرا لم يقو علي كسره؟ إن الأديان قد جاءت لتمثل ترجمة إعتدالية في إقامة الصلات القو ية بين الكون والإنسان, من ثم فهي لم تقدس شيئا بأكثر من العقل وطاقاته ولم تعلي عليه شيء لكنه لن يجاوز منتهاياته, ولعل حركة التقدم الإنساني تعد شاهدة علي قصوره بأكثر من شهادتها علي إنطلاقاته لسبب جوهري أصيل هو أنه لم يستطع أن يبلغ أقصاها في طرفة عين منذ أن بدأ جدلياته وحواريته التاريخية مع الزمان والمكان بل لحظته التأسيسية للوعي. وإنطلاقا تتخذ قضية العلم والدين نمطية صراعية بلغت أوجها في هذا المنعطف التاريخي الذي إتسم العلم فيه بجموح وجبروت وسطوة حين طوق جنبات الكون ومثل إنشطارا معرفيا صارت خلاله أحلام البشر واقعا ملموسا واعتبار ان كل المعارف العلمية الكلاسيكية هي أبجديات وبداهات بل تراث بائد ذو طابع أفقي منبت الصلة بطابعه التصاعدي المضطرد الذي تحول علي أثره لعقيدة فتنت أنصار المادة وأشبعت دعاة النفعية. لكن الحقيقة الموضوعية إنما تشير دائما إلي أبعاد عدة.. منها أن العلم ليس إلا حصاد مسعي إنساني دؤوب, وإنه سيظل يغير أدواته وإيقاعاته المنهجية لأنه ذو صلة وثيقة بوتيرة الزمان والمكان ونسبية الحقائق ومعطيات اللحظة, من هنا فهو لا يبلغ مرامي القداسة التي يمكن أن تحله محل العقيدة نظرا لوجود علاقة عكسية بين حركة التقدم وشيوع العديد من المعضلات الكبري المثيرة لإضطراب كوني متفرد, لكن سيظل للعلم سلطته وكبريائه لأنه الصيحة المدوية التي أطلقها البشر ورسالة الأرض إلي السماء!! وكذلك تظل العقيدة ظاهرة إجتماعية تزخر بالحقائق العليا المتسامية وتدعو للفضيلة وإستحضار القيم ومخاطبة البصيرة بجانب كونها واحة تحتضن كل الأسس المعرفية للجدل. ولعل كل ذلك إنما يتطلب تفسييرا حداثيا يقرر الوضعية الإنفصالية الإتصالية في إطار تساؤلات كاشفة يتقدمها: لماذا تلاشت الحاسة الدينية ولم يعد للأديان مركزا محوريا في بؤرة العقل المعاصر؟ وهل كرست العلاقة بين العلم والأديان مفهوم الإغتراب الديني والإستلاب الروحي؟ ولماذا تم إقصاء الأديان عن معترك الحياة بإيقاف فاعليتها كاستراتيجية نهضوية إحيائية؟ وهل إستئثار الأديان بالغيبيات قد أصبح يتنافي مع الطبائع الإنسانية التي توسمت في العلم أن يكون هو المرجعية الأصيلة في تفسير الأشياء وتحليلها؟ وهل تستطيع الطاقة الذهنية إكتناز كافة تفصيلات الخضم المعلوماتي؟ وهل يشير ذلك إلي ضرورة تأليه العلم وقد عهدت مسيرته إخفاقات عدة أم إلي ضرورة تأليه الإنسان وهو المتوعك في أزمات حواسه القاصرة؟ ولماذا إتخذ تقييم العلم للأديان منحي سلبيا بينما إتخذ تقيم الأديان للعلم منحي إيجابيا؟ إن الحلم الإنساني المترنح سيظل رهنا بإحداث صحوة دينية ترتكز علي طموح الوعي الكوني ويقظة الضمير العلمي المؤسس علي القيمة الأخلاقية, فهما العاصم الأوحد للإنسانية الغارقة في طوفان النزعات العدمية.