لم يكن جمال حمدان مجرد عالم جغرافيا، بل كان البوصلة الخفية لعقل مصر الحديث؛ ذلك النوع من العقول التي ترى ما لا يراه صانعو القرار، وتلمس طبقات الوطن كما تُلمس طبقات الزمن، وتكتب عن الجغرافيا كمن يكتب عن قدر أمة. ومع ذلك، ظل مشروعه الفكري معلّقًا بين رفوف المكتبات، بينما كان يجب أن يكون في صدارة رؤية الدولة لنفسها وللعالم، عاش الرجل في الظل، يكتب بالضوء، وينذر بالمستقبل، ثم رحل في صمت غامض، يشبه صمت الأنبياء الذين لم تُصدّق رسائلهم إلا بعد فوات الأوان. وأمام هذا الظلم الذي طال أحد أنقى العقول، وجدتني أستعيد سؤال الصديق أحمد رفعت رئيس تحرير موقع إيجيبتك: اختر شخصية ظُلمت أو تخيّل نفسك في موقع مسؤول.. ما أول قرار تتخذه؟
ولم أجد جوابًا أقرب إلى الحقيقة من هذا: لو تولّيت موقع وزير للثقافة، لبدأت من النقطة التي انقطع عندها خيط جمال حمدان، ولأعدت فتح الباب الذي شيّده ثروت عكاشة حين حوّل الثقافة إلى مشروع دولة، لا زينة وزارة. فالأمم لا تُبنى بالاقتصاد وحده، ولا بالجيوش وحدها، بل بالوعي الذي تصنعه الثقافة، وبالهوية التي تحفظها الذاكرة الجمعية، وبالرؤية التي من دونها يصبح المستقبل مجرّد صدفة. العقل الذي عاش في الظل.. وانتصر على الجغرافيا لم يكن جمال حمدان ظاهرة عابرة في تاريخ الفكر المصري؛ كان حالة معرفية متفرّدة تكاد لا تتكرر. قرأ الجغرافيا كما يقرأ الشاعر أسرار النص، وكتب عن الهوية كما يكتب الفيلسوف تأملاته الأخيرة قبل اكتمال الرؤية. كان يدرك أن مصر ليست مجرد حدود سياسية، بل كيان يتشكّل من طبقات المكان، وعمق التاريخ، وتراتب الوعي.
ولذلك كانت كتبه - وعلى رأسها شخصية مصر- بمنزلة خرائط استراتيجية جاهزة، لا تقل وزنًا عن أخطر تقارير أجهزة التقدير القومي. ومع ذلك، ظل الرجل خارج دائرة القرار؛ عاش على الهامش بينما كان يجب أن يكون في المركز. كان أشبه ب عقل دولة يعمل بمفرده، يقدّم إنذارًا مبكرًا عن التحولات الكبرى، ويدعو إلى قراءة المكان باعتباره مفتاح القوة والتهديد معًا. لكن الدولة تجاهلت مشروعه، فانتصر فكره على الجغرافيا، وخسر معركة الذاكرة. وكان رحيله الغامض -حريق بلا إجابة- عنوانًا آخر للغصة التي بقيت: أن الرجل الذي كشف هشاشة الوعي الجغرافي لم يجد من يحفظ وعيه من الاحتراق. إعادة تعريف الوزارة.. وإحياء عقل الدولة الثقافي إذا حاولت أن أتخيّل نفسي في موقع وزير الثقافة، فلن أبدأ من مبنى الوزارة، بل من الفجوة التي تركها غياب مشروع وطني للثقافة بعد ثروت عكاشة، ومن السؤال الذي ظلّ معلّقًا فوق رأس الدولة منذ رحيل جمال حمدان: كيف نبني وعيًا يليق بمصر؟ وكيف نعيد للثقافة دورها الذي تراجع حتى تحوّل إلى هوامش احتفالية؟ سأبدأ من الأساس الذي تجاهلناه طويلًا: الثقافة ليست نشاطًا تكميليًا، بل هي البنية التحتية الخفية للدولة. هي التي تخلق المواطن قبل أن تصنع السياسات، وترسم خريطة الوعي قبل أن تُرسم خرائط الحدود، وتقدّم مقاييس القوة قبل أن تُقاس الجيوش. ومن هذه القناعة سيكون أول قرار لي هو إعادة تعريف وظيفة الوزارة: أن تتحوّل من جهاز إداري إلى مؤسسة لإنتاج الوعي الوطني، ومن إدارة مهرجانات إلى مشروع متكامل يعيد صوغ الذائقة العامة، ومن جهاز توزيع الميزانيات إلى مركز تفكير يتعامل مع الثقافة كخط دفاع أول عن الهوية. بهذا فقط يمكن استعادة اللحظة التي صنعها ثروت عكاشة، وأن نُخرج إرث جمال حمدان من الهامش إلى صلب صناعة القرار. حين كانت الثقافة مشروع دولة حين نستعيد تجربة ثروت عكاشة، نحن لا نستحضر وزيرًا عبقريًا فحسب، بل لحظة كانت فيها الثقافة مشروعًا وطنيًا شاملًا.. في عهده وُضِعت اللبنات الأولى ل مصر الثقافية: قصور الثقافة التي فتحت أبوابها لأبناء الأقاليم، المؤسسة العامة للسينما التي حملت صوت مصر وصورتها إلى العرب، حركة الترجمة الكبرى التي ربطت القارئ المصري بالعالم، وازدهار المسرح الذي كان في ذلك الزمن مؤشّرًا على حيوية المجتمع لا مجرد نشاط موسمي. ولو كنتُ في موقعه اليوم لما بدأت من الصفر، بل من تلك اللحظة المؤسسة التي أهملناها حتى بهت لونها. كنت سأعيد قصور الثقافة إلى دورها الطبيعي كمختبر للمواهب، لا كمبانٍ مغلقة أو فعاليات متقطعة. وسأعيد للسينما دورها الذي تراجع حتى انحسر، وللمسرح حضوره الذي تآكل، وللترجمة مكانتها كجسر لا غنى عنه في زمن تتسارع فيه المعرفة.
إن جوهر مشروع ثروت عكاشة لم يكن في المباني، بل في الفكرة: أن الثقافة ليست رفاهية، بل أداة تشكيل الوعي العام، وليست زينة حضارية، بل ركيزة من ركائز الأمن القومي، وليست خدمات فنية، بل مشروع يؤسس لنهضة شاملة تبدأ من الإنسان وتنتهي عند الدولة. السينما المصرية.. من القوة الناعمة إلى الذكاء الاصطناعي لا يمكن الحديث عن مشروع ثقافي جاد دون إعادة الاعتبار للسينما المصرية، التي كانت يومًا ما الذاكرة البصرية للعرب، وصوتهم وصورتهم ومخيّلتهم المشتركة. فالمؤسسة العامة للسينما لم تكن جهازًا إداريًا عابرًا، بل كانت ذراعًا استراتيجية لقوة مصر الناعمة.. أنتجت أعمالًا صنعت الوجدان الجمعي، ورفعت مكانة البلاد عربيًا ودوليًا، وأثبتت أن الفن في مصر لم يكن يومًا نشاطًا ترفيهيًا، بل أداة لكسب العقول والقلوب، ولا يقل تأثيرًا - في عالم اليوم - عن الدبلوماسية والإعلام. لكن هذا الدور تراجع حتى خفت صوته، وتقلصت قدرته على التأثير. ولو كنتُ في موقع المسؤول اليوم، لبدأت من هنا: من إعادة إطلاق المؤسسة العامة للسينما، ولكن برؤية جديدة تُدرك أن الصناعة تغيّرت، وأن أدواتها لم تعد كما كانت.
فالذكاء الاصطناعي لم يعد تفصيلًا تقنيًا، بل جزءًا بنيويًا في عملية الإنتاج: - من كتابة السيناريو وتحليل البُنى الدرامية، - إلى تصميم المؤثرات البصرية، - إلى إحياء المشاهد التاريخية والأماكن التي اندثرت، - إلى تدريب الممثلين وصنّاع الأفلام عبر منصات رقمية تفاعلية.
ولذلك سأجعل من المؤسسة مركزًا لعصر سينمائي جديد يقوم على امتزاج الخيال الإنساني بقوة التقنية: - وحدة متخصصة للذكاء الاصطناعي السينمائي داخل المؤسسة، - منح وبرامج تدريبية لصنّاع الأفلام الشباب، - إدراج مناهج السينما الرقمية والذكاء الاصطناعي السمعي-البصري في الجامعات والمعاهد. - وإطلاق مشروعات تجريبية تعيد لمصر حضورها الذي امتد يومًا من الخليج إلى المحيط. فالسينما، في نهاية الأمر، ليست ترفيهًا، بل سلاح ناعم، وسلاح لا يقل أهمية عن الخارجيتين السياسية والإعلامية. ومن دون استعادة هذا الدور، ستظل مصر تفقد أحد أهم مصادر تأثيرها الإقليمي وقدرتها على تشكيل وعي المنطقة. من التكريم إلى إعادة بناء العقل الوطني لا يمكن لأي مشروع ثقافي أن ينهض ما لم يعد الاعتبار للعقول الكبرى التي صاغت وعي هذا الوطن، ودفعت ثمن وضوحها واستقلالها. وفي مقدمة هؤلاء يأتي جمال حمدان؛ فهو ليس مجرد مفكر ترك كتبًا، بل منظومة فكرية كاملة كان يمكن - لو أُعيد توظيفها - أن تشكّل أساسًا لسياسات الدولة الثقافية والتعليمية والإعلامية على حد سواء. ولهذا، فإن إدراج مشروع جمال حمدان في صلب عمل الوزارة ليس تكريمًا، بل استعادة لبوصلة ضاعت. ف شخصية مصر ليس كتابًا، بل خريطة جينية للهوية المصرية، تجمع بين الجغرافيا والتاريخ والاجتماع والسياسة في بنية واحدة نادرة التكوين. ولذلك سأجعل هذا المشروع محورًا أساسيًا في عمل الوزارة عبر خطوات واضحة: - إدراج شخصية مصر في مناهج التعليم الثانوي والجامعي بوصفه كتابًا لبناء الوعي، لا قيمة معلوماتية فقط. - إنشاء مركز وطني للدراسات الجيو-استراتيجية يحمل اسم جمال حمدان، تكون مهمته قراءة مصر في العالم كما قرأها هو: موقعًا، وقدرة، وتهديدًا، وإمكانًا. - رقمنة أعماله وإتاحتها في منصات تعليمية مفتوحة، ليصبح نتاجه الفكري جزءًا من الوعي العام للأجيال الجديدة. - إعادة فتح ملف رحيله الغامض، لا بوصفه تحقيقًا جنائيًا، بل باعتباره فعلًا من أفعال رد الاعتبار لعقل كبير تجاهله وطنه حيًا. إن إدراج مشروع جمال حمدان في صلب الثقافة هو بداية استعادة عقل الدولة، لأن الأمم التي تهمل كبارها تبقى أسيرة أفكارٍ صغيرة، مهما امتلكت من موارد أو مؤسسات. كي لا يبقى العبقري غائبًا.. ولا تبقى الأمة بلا بوصلة ليس الظلم الذي وقع على جمال حمدان مجرد صفحة مطوية في دفتر الذاكرة، بل جرس إنذار يذكّرنا بأن الأمم التي تهمل عباقرتها تُجازف بأن تُدار بعقول أقل من طموحاتها وأقل من حجم تحدياتها. وحين تغيب الثقافة عن صدارة مشروع الدولة، يصبح الماضي أثقل من الحاضر، ويغدو المستقبل فراغًا تنتظر القوى الأخرى أن تملأه.
ولو كنت وزيرًا للثقافة، لكان أول قراراتي هو إعادة ترتيب موقع الثقافة في هندسة الدولة المصرية: أن تعود مشروعًا مؤسسًا يبني الوعي، لا نشاطًا احتفاليًا يُنفّذ ثم يُنسى. وأن تستعيد مصر ما فقدته من قوة ناعمة، وما أهملته من طاقات بشرية، وما تجاهلته من خرائط فكرية كان جمال حمدان واحدًا من أكثر من رسمها صفاءً ونبوغًا. القاهرة التي نحب.. والذائقة التي ضاعت الحل القانوني للقضية الكردية وأبعاده فالثقافة ليست ترفًا، بل البنية التحتية الخفية للدولة؛ وهي السلاح الذي لا يصدأ، ومخزون الذاكرة الذي لا يُحرق، والجدار الأخير الذي يحمي الهوية حين تتزاحم على الوطن العواصف. ومصر بتاريخها وعمقها وموقعها ومخزونها الحضاري الذي لم تنفد ذخائره جديرة بأن تسترد هذا الدور، وأن تعود الثقافة فيها مشروعًا للنهضة، لا مرآة تعكس ما تبقّى من بريق.
فإذا كانت الجغرافيا قد أنصفت جمال حمدان في كتبه، فإن على الدولة -أيّ دولة- أن تنصفه في سياساتها، وأن تبدأ من حيث انتهى، كي لا يبقى العبقري شاهدًا غائبًا.. وتبقى الأمة بلا بوصلة. ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار ال 24 ساعة ل أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري ل أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية. تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هنا