لعله لم يكن من قبيل المصادفة, أن لم يكن من قبيل اليقين والمنطق أن يكون التفكير هو أعظم فضيلة إنسانية علي الإطلاق, منذ أن كان للفضائل وجود في هذا الكون, بل لعلها الفضيلة التي كانت وراء خلق الإنسان خلقا جديدا في كل أشواطه ومراحله التاريخية, وأظنها الفضيلة التي لا يختلف حول مسماها كائن ما كان, لكن ما أكثر الذين يختلفون حول طبيعتها ومفهومها ووظيفتها وإطار ممارساتها ومستوي أدائها لاسيما في ظل الفروق المتباينة المشيرة إلي إيجابية الفكر وسلبيته في عمق منطقيته وفراغ محتواه وعدم استجابته, ولعل واقع الشعوب أنما يعد دوما مؤشرا هاما عاكسا لمستوي وحركة الفكر داخله بل وتكيفها معه حتي تستطيع ان تحقق دافعية ما لتحريك هذا الواقع وإقالته من عثراته ثم الانطلاق به نحو أفق التقدم والحضارة. لكن هل تمثل تأزمات الفكر وتراجعاته سببا حيويا في أزمات الواقع ومشكلاته؟ نعم أن الإيمان المطلق بالطاقة الفكرية المنتجة وعلي أختلاف طرائقها وأنماطها تؤكد أن الواقع المتردي المتعسر هو نتاج طبيعي لازمة فكرية حادة يعانيها المجتمع. فاستمرارية الواقع علي هذا النحو تعد رهنا بتجاوز تلك الازمة. فالمجتمعات الراشدة تقترن صفتها تلك بوجود الألية الفكرية المجتمعية الفاعلة السامحة بالإختلاف المعتدل النابذ للشطح الفكري خارج مفردات المنطق, المرحب بالفكر الإبداعي الخلاق.. ذلك الفكر الذي يحمل من معاني الإبتكار والتجديد والثراء والزخم والعمق إضافة للعديد من التوصيفات ذات المردودية الإيجابية علي الإنسان وواقعه بعيدا عن إنتماءاته السياسية والمذهبية والإيديولوجية والعقائدية. ولعل مصر الآن تعايش لحظات قاتمة أثر تلك الغمامة المخيمة علي العقل الجمعي شعبا ونظاما.. تلك الغمامة التي نسفت أي مشترك فكري أو أي شيء من الثوابت الإدراكية فخلقت شتاتا تاريخيا لم ير من قبل وحاضرا عاصفا لا طائل من ورائه ومستقبلا في قبضة الضياع. وإذا كانت خصوبة الفكر لا تكتمل إلا بدرجة ما من الاختلاف, لكن حول ماذا يكون هذا الاختلاف.. بالطبع لا يكون حول البديهيات والأسس والمشتركات التي هي معلومة بالضرورة للطبيعة الذهنية, ولا معني لهذا الاختلاف إذا كان تبعا للهوي أو إيثارا للمنفعة والمصلحة الفردية إذ أن هذه وتلك هي إحدي أفات الفكر المفسدة للمناخ العام, ذلك لغياب أهلية هذا الاختلاف. فليس الاختلاف حقا للجميع إلا فيما يرتبط بالحس والذوق لدي أولئك الذين لا تحميهم قاعدة معرفية ولا وعي جدير بفهم الواقع بكل تشعباته المعاصرة.. وعي يحمل نظرة تحليلية تفسيرية منصفة للحقائق ليس غير, وعي ليس غريبا علي الوعي المصري الذي أبهر الحضارة الإنسانية وأتحفها طيلة تاريخه. إن سيادة تيار الفكر الانغلاقي الاحادي التقليدي الرتيب, المتقوقع علي ذاته, الرافض للحوار, المستمسك بقشور العقيدة دون جوهرها, السابح في توهمات منبتة الصلة بالعلم, العاجز عن قراءة الكون بكل ما حوي من إعجازات ودلالات تستوقف العقل اليقظ والنفس الطموحة.. فهذه القراءة الكونية بحاجة لعقل قوي دؤوب مؤهل مدرب بل متمرس, مؤمن بذاته مستوعب لجولات الفكر الإنساني في أشواطها وتشعب مساراتها مضفيا عليها من أشراقاته حتي لا يكون مسخا شائها نافيا لكينونته طامسا لفطرتها. أن طبيعة الفكر لا تتسم بالثبات والإستاتيكية وإنما تتصف بالمرونة والحركة الدائبة لتستوعب جميع المعطيات, فإذا كان الواقع متغيرا متحولا دوما فيكف تكون طبيعة الفكر ثابتة جامدة ساكنة لا تعترك هذا الواقع أو تقتحمة, فكيف لها أن تغيره فضلا عن تجاوز آفاقه وكل يوم هو رهن بسابقة وأن الحصان كان وسيظل أمام العربة مهما تبدلت الأزمنة والامكنة. وأن ما تعيشه مصر الآن هو واقع ذلك الفكر وليس فكر الواقع المحتم ضرورة النضج والإرتقاء إلي مستوي الطموحات القومية الغائبة والتسامي إلي المحيط الكوني فليست مصر أقل من أن تجتاز الآفاق الكونية التي حلق فيها الصغار وأصبحت لهم يد تمنح وتمنع تأسيسا علي تلك الذات المفكرة التي انكبت علي نفسها طويلا لتصنع كيانا شامخا تتطاول به علي العمالقة القدامي!! أن التراجع الفكري هو إعلان للنهاية ومحرك فاعل نحو العدم وبكائية علي الذات وتغييب للروح المتوقدة نحو الانطلاق وعرقلة للطاقات الخلاقة التي شكلت حركة التاريخ تشكيلات أسطورية, فإذا اعتقدنا بتلك الفرضية الصحيحة التي قال بها توفيق الحكيم قديما من أن هذا العالم هو فعل فكري كان لزاما علينا الخوض الواعي في تفصيلات هذا الفعل المروع. أن توعكات الواقع المصري تتطلب وفي المقام الأول منظومة فكرية رصينة خاصة لها طابع تفردي لأنه من المستحيلات الكبري أن تكون أداة الحل ووسيلته هي مشكلته المستحكمة وداؤه الوبيل. أقول أنه إذا كان للأزمات أفكارها فليس للأفكار أزماتها وبنفس الدرجة إلا إذا اختلقناها اختلاقا!! إن التعامل الموضوعي مع الفكر لا يتأسس علي أنه حقائق مطلقة ولا أكاذيب سافرة وانما إخضاعه الدائم للمراجعة والتصحيح بحيث يصعب الخلط والتطويع والتغليب بين هذه وتلك والفيصل هو النقاش والجدل وليس التسليم والقبول الأبدي, لأنه من أوليات التعامل مع الفكر الإنساني أن الخطأ أساس الصواب وأن الفكر هو كائن حي وليس جنينا ميتا وأن الأفكار الخالدة هي التي صنعت التاريخ وأن محراب الفكر له قدسية كبري وأن استلهام جلال هذا المحراب له وسائله وطرائق بلوغه ومراقيه وعلويته المحققة للسمو الإنساني وأنه مهما اتسعت دوائر الخلاف بين البشر فهناك حقيقة تعصف بهذا الخلاف وهي كما تفكر تكون!! رابط دائم :