صار التخبط الفكري والعشوائية الذهنية في مصر هما الصكوك السياسية للولوج إلي المعترك المعاصر, وصارت مصر في لحظتها التاريخية نهبا لخطايا العقل الإسلامي وعوراته التي تجلت مع اعتلائه هرم السلطة. بعد أن ظلت مستترة أمدا طويلا في غياهب المجهول تلك التي صانت عجزه المعرفي وخواءه الفكري وآلياته الهشة ومنطقة المضاد لذاته قبل أي ذات أخري!! فلم يعد للمصريين اليوم قضية تتصدر المناقشة يمكن أن تفوق قضية العقل الإسلامي الذي تمثله مختلف التيارات المجتاحة للساحة السياسية بأسماء غير ذات علاقة بمسمياتها, وليس المصريون هم الذين انشقوا وحدهم علي هذا العقل ونقدوه وتصدوا لشطحاته بل شاركتهم فرق وجماعات وانظمة وتوجهات اشارت جميعها الي مدي التباين الحاد بين طبيعة العقل المصري في شوطه التاريخي الطويل وبين نموذج العقل الإسلامي المعاصر الذي استعبدته نزعة الاستعلاء الديني والعنصرية العقائدية, ومن أبرز هؤلاء كان العالم الباكستاني الشهير عبد القدير خان الذي أفصح عن مكنوناته ودواخله إزاء جبهة السيادة الإسلامية في مصر مشككا ليس في أهلية سلطتها فحسب وإنما في طابعها الفكري وارتباط مسار هذا الطابع في انعكاساته سلبيا علي الصعيد المستقبلي بعد أن بدد النظام الديكتاتوري السابق مصر بأسرها ماضيا وحاضرا ومستقبلا حتي صارت حطاما قوميا يستفز نوازع التشفي والتبكيت العربي والدولي أيضا. ذلك في محاضرته الشهيرة التي نقلتها صحيفة زي نيوز الانجليزية الباكستانية معربا فيها عن مدي خطورة اقتحام الافكار العشوائية للمحيط المصري أثر بلوغ التيار الإسلامي سدة الحكم بفاعلية الدعم الغربي الذي فشل في غزو مصر عسكريا فلجأ إلي أن يتولي ذلك التيار مراكز السلطة والمسئولية ليكون البديل الأمثل, وأنه إذاكان الصعود الإسلامي قد أحدث تموجات كبري في العواصمالغربية وإسرائيل قبلها وكانت الخشية مبعثها آنذاك من محاولات إحياء تراث وثروات مصر مع الاحتفاظ بالعلاقات الخارجية المتوازنة والاتفاقات القائمة علي الاحترام المتبادل والسعي نحو المسار الديمقراطي وإقرار الحريات وتجلي العدالة الاجتماعية, فإنهم اليوم مطمئنون أن مصر لا تسير علي الدرب لأن عشوائية الفكر لا تحقق الاستقرار بل إنها تعصف بطموحات القاعدة الشعبية وتطيح بمركزية مصر الثقافية للعالم العربي ولاتنتج إلا مستقبلا مريضا كان هو آخر نتائج نظرية الاحتمالات السياسية بعد ثورة كان لها طابع متفرد بين الثورات, لكن حصدها من لم تكن له فضيلة تحريكها بل حصدها من كان مهادنا لذلك النظام الذي أتت عليه الثورة واقتلعته!! وإذا كانت العشوائية الفكرية تمثل إحدي الآفات المجتمعية فإنها تمثل الآن بالنسبة لمصر كارثة تفوق مستويات الخيال الجامح لا سيما بعد تلك العقود الخوالي التي مثلت وصمة علي الجبين المصري كانت تستدعي محوها وليس تأكيدها, وعلي بعض من ذلك أو كله تطل علينا تساؤلات كانت تستوجب الطرح علي الساحة المصرية في أشد لحظات تأزمها مثل: كيف يرتضي العقل المصري بسيادة الطابع الانغلاقي للعقل الإسلامي؟ أين ذلك المشروع النهضوي المزعوم لذلك العقل الإسلامي؟ وهل للعقل الإسلامي المعاصر أدني علاقة بمعاني التقدم والحضارة؟ بل هل لهذا العقل من علاقة بمفهوم الاعتدالية والوسطية أو النظرة العلمية والرؤية الموضوعية؟ بل أيضا هل لهذا العقل من وسائل سوي أفانين الاستحواذ علي دوائر السلطة؟ وماذا قدم هذا العقل من روائع الفكر الديني أو نظريات الحوار أو إبداعات الجدل الخلاق؟ وما هو منطق هذا العقل في التماهي مع الآخر الغربي؟ وكيف يمكن تجاوز الفجوات الفكرية بينهما؟ وهل لهذا العقل أن يستوقف ذاته مستهدفا معرفة ذلك الداء العضال الذي يحول دون الانطلاق وتغيير الواقع نحو الأفضل والأنسب والأمثل؟ أم أن رضي العجز وضعف الحيلة قد صارت وسائله ومبرراته الأيديولوجية؟ من ثم كيف يرتبط مستقبل الرسالة الحضارية لمصر بذلك العقل الذي عطل مسيرتها وأجدب خصوبتها؟ وهل تستطيع مصر بكل قواها التاريخية وزخمها الثقافي والمعرفي أن تنفلت من إيسار ذلك العقل مصححة للمسار والوضعية والكينونة مستوحية تلك الروح العبقرية القابعة في أعماق الإنسانية بأسرها؟ إنه إذا كانت أشد الأخطار علي الشعوب إنما تأتي من أولئك الذين ينشرون بين الناس عطاياهم وهشباتهم كما قال قديما بلو تارك, فإن العقل الثوري المصري لم تخترقه ترهات العقل الإسلامي المتستر بتيجان السلطة والمزهو بلباب الوهم ولن يأسره إلا تاريخه الذي جعله دوما عصيا علي صيحات الخضوع والإذعان. باحث وكاتب