ربما تحتاج الموجة الثورية الثانية إلي أكثر كثيرا مما احتاجته الموجة الأولي التي أنتجت للتاريخ يوما مجيدا أخرج مصر من غياهب الظلمات ورقي بها إلي أفق مهيب أيقظ روحها في الضمير الإنساني المعاصر. ولعلها الآن تترنح وتعصف بها الأهواء والنوازع, وتتفرق بها السبل نحو المجهول, هو المجهول الذي يطرح نذر الخطر الداهم علي الوحدة الوطنية, ويمثل آلية تفكيكه لأوصاله تعمل علي تكريس فكرة الشتات السياسي والمذهبي والفكري والتاريخي, يحدث ذلك بعد مخاضات ثورة عارمة استطالت علي الثورات المعاصرة, لكن شاءت لها مقدرات التاريخ أن تستكمل موجاتها الأخري, ولعل مصدر الغرابة يكمن في استمرار الشعور والحس الثوري, وبالدرجة نفسها لدي القاعدة العريضة من المصريين, ذلك انطلاقا من أن هذه القاعدة لم تحظ بدرجة الإشباع من معاني التغيير والتحول والتقدم والانطلاق, وهو ما يعني قبل أي شيء أن ثورتنا الأولي لم تأت بمردوداتها المنطقية, بل إنها تحتاج إلي ثورة أخري تصحيحية تستعاد خلالها منظومة القيم, ويسترد الطابع الأخلاقي, وتلاشي أنماط العنف وتكون الوقفة الخاصة مع الجهاز المفاهيمي, وإعادة بلورة مفرداته بالشكل الذي يسمح بغياب التناقض الحاد والصارخ في الرؤي, وجموح الاتجاهات والحماقات الفكرية, وآليات الجدل التي تتيح تقبل الآخر, وإقامة حوارية مجتمعية تنسق في مضمونها مع معني الثورة الذي تحققت به ومعه عناصر التوحد والاستقرار حول الأهداف والغايات. فإذا كان الخلاف هو ظاهرة طبيعية مستساغة, ومناخ حيوي منشود فإن درجة الخلاف في صعودها السلبي واشتدادها إنما يعد مؤشرا نحو الحد الفاصل بين التقويم والتصحيح, والفوضي والتخريب وسيادة اللامعقول. ولعل التيار الإسلامي الذي حظي بتأييد شعبي جارف, قد استطاع بممارساته أن يغير الدفة, ويحول حلفاءه إلي خصوم, ويحيل المتعاطفين معه إلي دوائر العداوة, فلقد انتظرت منه الجموع الحاشدة أن يمثل نموذجا رائعا للإسلام, لكنه قدم إسلاما آخر, إسلاما يعاني من الاغتراب في أغوار الشخصية المصرية المجبولة علي التسامح والوسطية والاعتدال, فخسر معركته في جولاتها الأولي, أو قبل أن يبدأها, فكان الانفجار الجماهيري المهدد بالدمار القومي, فالجهاد المقدس الذي يعلنه التيار ضد الفئات والشرائح المصرية التي لا ترتضي بالتوافق علي ما تراه خطيئة, كان أولي بهذا الجهاد أن يكون ضد النظام المستبد بما خلفه من كبت سياحي واجتماعي طحن البلاد والعباد عقودا وعقودا. كما كان أولي به أن يوجه ضد القوي المعادية المتآمرة علي الأمتين العربية والإسلامية, أو ضد القوي التي تعبث بالمقدسات, وتنهب الأرض والثروات, وليس ضد شركاء الوطن المجتهدين برؤاهم لصناعة مستقبله. إن إراقة دماء المصريين قبل الموجة الثورية الأولي وفي أثنائها هو من موجبات الثورة ومقتضياتها, لكن الحادث في مصر الآن هو ما يستلزم بالضرورة تغيير المسار نحو ثورة أخري تحقن الدماء, وتصون الكرامة, وتحقق المساواة بين أطياف المجتمع, وتوقن دوما بصحة مبدأ أن هدر الدماء هو بوصلة الثورة, وأن منطق الثورات يحتم دوما تحصين الثورة السياسية بثورة ثقافية انطلاقا من أن الثوابت والمعايير التاريخية تؤكد أن أي تغيير سياسي واقتصادي واجتماعي لابد أن يستلهم أصداءه من ذلك التغيير الجذري في البنية الثقافية والأخلاقية, إذ يعلمنا التاريخ أن المدافعين عن الامتيازت لن يتخلوا عنها بطيبة خاطر تحت الضغط الآتي من الأسفل كما قال اليزيه رولكو منذ ما يزيد علي القرن في كتاب التحول والثورات. إن فقه الأولويات الحضارية يجب أن يجتاح العقل الإسلامي المعاصر الذي لم يعبأ مطلقا بالفتوي الدينية التي أطلقها الحاخام الإسرائيلي باروخ تسيبي جروتيام, داعيا بها القيادات السياسية والعسكرية في تل أبيب إلي إعادة احتلال سيناء باعتبارها جزءا أصيلا من جغرافيا إسرائيل مدللا ببعض الأسانيد والحجج الدينية, مضفيا علي ذلك قيمة جوفاء, لكنه استطاع اجتذاب العديد من الهيئات والمنظمات والطوائف التي أجمعت علي تمويل أي عملية تقوم بها إسرائيل, لاسيما إذا اعتبرت علي أسس دينية. فما هو أثر ذلك وغيره علي التيارات الإسلامية المصرية؟ وهل سمعت به من الأساس؟ وهل وعته ووقفت علي دلالاته؟ أو قدمت للعالم فتوي مضادة؟! أم تركت الساحة هربا من العواصف الفكرية, وتفرغت لإدارة صراع إسلامي إسلامي لا طائل من ورائه إلا حصد الأرواح, وتقديم مسخ جديد للحياة المصرية في ملامحها وجوهرها؟ إن الطابع الفكري للتيارات الإسلامية المتصدرة علي الساحة يجب إخضاعه للنقد والمراجعة, ليس من قبيل تيارات أخري يمكن اتهامها بالحقد, أو بتبني اتجاهات لا دينية, ولكن من قبل ذاتها, فمراجعة الذات هي فضيلة كبري, وأن بلوغ الحقيقة هو ثمرة جهاد النفس, وأن التاريخ يمثل مرجعية هائلة في شتي مناحيه, وأن المجد الإسلامي لم يتحقق بالتقوقع, وإنما بالمشاركة الفاعلة, وأن دحض الأفكار يكون بالتواجه معها, وليس بتحريم التعامل معها أو الفرار منها, وأن تمثيل العقيدة قد يحتاج من هذه التيارات إلي حيز زمني بعيد المدي.. لكن منذ أن تعرف من أين تبدأ؟! كاتب وباحث سياسي