لعل جغرافيا الأخلاق وتاريخها وفلسفتها ومدي تأصلها في الوجود الإنساني إنما يؤكد حيويتها وضرورتها رغما عن منطلقاتها وخلفياتها الأيديولوجية في المجتمعات العربية الإسلامية وغير الإسلامية, من ثم نسبيتها التي تحدد بقاءها واستمراريتها باعتبارها ركنا ركينا في شموخ الحضارات وانحطاطها, إذ انها تمثل الفارق النوعي في هوية هذه الحضارات, ولعل الحضارة الإنسانية الآن ليست في حاجة إلي المزيد من إنتاج التكنولوجيا الرفيعة قدر حاجتها إلي صحوة الوازع الأخلاقي والضمير اليقظ والقيم الإيجابية المحققة للشرطية الأساسية نحو الصعود المتألقة للأمم والشعوب في مسيرتها الحافلة بالعلم والأخلاق, باعتبارها متوجهة لهذا العلم ومهذبة له من جموحه وشطحاته المنفلتة من أي ضابط إنساني أو معيار أخلاقي يحقق توازنا مثاليا بين المادي والروحي وتعادلية خاصة بين العلم وأهدافه وميثاقا قيميا يعد شاهدا علي الألتزام بصدق المقاصد والغايات, ولعله من قبيل المفارقات الفكرية أن تصدر الآن موسوعة الأخلاق عن المجلس الأعلي للشئون الإسلامية في إطار خاص من المعالجة الموضوعية للقضية الأخلاقية في امتداداتها التراثية الإسلامية ومساراتها المعاصرة وتشعباتها العديدة التي صكت خلالها مايتجاوز نحو مائة مصطلح أخلاقي يمكن أن يقيل الوضع الإنساني من عثراته محققة شغفا معرفيا نحو التحلي بآداب ومباديء وتقاليد وأعراف وقيم عليا وفضائل غابت طويلا فأصبحت الحاجة إليها أكثر إلحاحا من ذي قبل. وتطرح الموسوعة تجليات ذلك الجانب الأخلاقي في الإسلام متمثلة في عناصر عدة منها: مجموعة التعاليم التي تحث علي الالتزام بقواعد السلوك الإنساني القويم وتدين في ذات الآن كافة التصرفات غير الأخلاقية التي لاتليق بكرامة الإنسان, بجانب ذلك البحث العميق في الدوافع النفسية المؤدية لهذا السلوك أو ذاك, وهذه الدوافع تعد عالمية في نزعتها الإنسانية لأنها متصلة بالطبيعة البشرية ذاتها بغض النظر عن حدود الزمان والمكان, أما البعد الثالث لهذه العمليات فيتمثل في ذلك التراث الثمين من التجارب والحكم والأمثال الأخلاقية التي تلخص الكثير من العلاقات المتوازنة والمضطربة بين البشر وتستخلص من متغيراتها المتلاحقة جوهرا ثابتا ومستمرا, بينما تجسد البعد الرابع في الأسلوب المتميز لمخاطبة الآخرين وحثهم علي التمسك بالفضائل وهو مايتصل مباشرة بطرق التوجيه والإرشاد ومناهج التربية الصحيحة, وعلي كل ذلك يتبلور أن الجانب الأخلاقي في الإسلام لاينحصر في قضايا عامة وأفكار مجردة وإنما يتفاعل مع تصرفات عملية ومواقف إنسانية ملتحمة بالواقع مع تقديم النماذج المضيئة التي يمكن أن تستهدي بها الأجيال المتعاقبة, وبذلك نقل الإسلام تعاليمه من اهتمام البشر بتأكيد الجانب المادي في الإنسان الذي يقوم علي الأنانية البغيضة إلي تأكيد الجوانب الروحية والإنسانية مستهدفا بناء مجتمع تسوده كافة القيم الأخلاقية من صدق وعدل وأمانة وحب وإيثار وإخاء وعطف ورحمة وكلها تؤكد كرامة الإنسان دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو العرق وماشابه ذلك من فروق كثيرة لكنها غير ذات وزن أو قيمة. وإذا كانت الموسوعة قد قدمت العديد من المصطلحات الأخلاقية في شروح مستفيضة علي غرار: التسامح, التواضع, الإنصاف, الإيثار, الحرية, الحياء, الرضا, الرفق, الإتقان, الإخلاص, الضمير, العفة, العفو, كما قدمت فيضا غزيرا من النظريات الأخلاقية ونماذج مضيئة من علماء الأخلاق مثل أبوبكر الرازي, أبوحيان التوحيدي, ابن حزم الأندلسي, إخوان الصفا, الراغب الأصفهاني, ابن المقفه وغيرهم كثير, فإنها أيضا قد أثارت لدينا تساؤلات عن إشكالية الأخلاق في العالم العربي والإسلامي فمثلا: هل استطاع هذا العالم أن يسجل لنفسه بصمة أخلاقية معاصرة تتسق مع الجينات الأخلاقية للطابع الإسلامي في صدوره الأول؟ ماهي أبعاد المسئولية الأخلاقية الملقاة علي كاهل هذا العالم بعد أن سقطت بالضرورة عن العالم الغربي؟ وماهي مفردات المنظومة الأخلاقية التي يدور عالمنا في فلكها؟ وماهو الطابع الأخلاقي للعلاقات داخله؟ وهل تراجعت منظومة القيم الأخلاقية بالشكل الذي يمكن أن يطمس ماكان يجب أن نمتاز به ولاسيما بعد أن غادرنا التعامل مع المنهج العلمي والتفكير العلمي؟ وهل لفظنا الأخلاق باسم الحريات الشخصية وصرنا مسخا شائها من كائنات فقدت هويتها المعنوية؟ وماهي آليات الضبط الاجتماعي المعاصر والتي استبدلناها بالأخلاق باعتبارها من موروثات الماضي العتيق؟ وهل توجد اهتمامات نظرية بالفكر الأخلاقي تدفع نحو إنهاضه وتجديده؟ وهل خيمت أطياف المادة علي عالمنا الإسلامي حتي باتت مفاهيم الضمير الأخلاقي والسمو الروحي هي مفاهيم مثالية لاحاجة للإنسان المعاصر بها؟ إن الإشكالية الأخلاقية المؤرقة وعلي مستوي رؤي وتوجهات كثيرة إنما تكمن في فك شفرة الذكاء الروحي بين البشر والذي يعني في مضمونه القدرة الهائلة علي التصرف بحكمة مع الحفاظ علي السلام الداخلي والخارجي مستعينين بتكوين عضلاتنا الروحية كما أكدت العالمة الكبيرة سيندي ويجلزروث. رابط دائم :